ما أسوأ أن تسعى لأمر بكل ما أُوتيت من قوة وعزم وإصرار، حتى إذا خِلت أنك قد تربعت على قمته بجدك واجتهادك، جاءك ريح عاصف فقوّضت خيامك، وأزاحت بنيانك. لقد كان لي مع الوساطة أحداث وقصص أليمة موجعة، صارت الوساطة تتمثَّل لي في الهواء والشراب والطعام، بل أصبحت أتذوَّق مرّها في كل لحظة أعيشها في حياتي، وكلما استسلمت للنعاس أيقظني صوتها النشاز، وإن أفقت من نومي أجحظني منظرها المنتن، لقد صمت أذني وأعمت بصري، وقطعت فؤادي، كرهت هذه الحياة بسبب ما يُسمى بالوساطة، كلما هممت بعمل واجتهدت على أن أكمل شروطه وواجباته ومندوباته جاءني ما لا قِبل لي به إنه شرط وجود الوساطة. تقلبت في مرّها، بذلت ماء وجهي رخيصاً فلم يكن له من قيمة، احتسبت جميع ذلك عند الله، ومما هوَّن الأمر عليَّ أن ما أطلبه إنما هو شيء شخصي بحت، فلما فات شعرت بالأسى، لكن سرعان ما تناسيته. ولكن ثلاثة أمور جعلتني أكتب في هذا الموضوع اليوم، لم أطق صبراً، ولو كان الأمر ذا تعلُّق بي خاصة لما باليت. احتاجت والدتي شفاها الله إلى العلاج في مستشفى الملك خالد للعيون، ذهبنا إليه فوجدناه يأبى أن يستقبل إلا بأمر من الإمارة، أحضرنا الأمر فقد كان سهل المنال، فلما صار إلى راحة يدي انتابتني الراحة، ومرَّ بي شعور كنسيم الصبا في يوم من أيام الربيع، بدأت أنظر إلى مستقبل يملؤه التفاؤل، أوشكت على أن أُصفق بيدي طرباً، إنها المرة الأولى التي أتحصَّل على أمر بلا وساطة، إنها المرة الأولى التي لا أرى فيها تفريقاً بين خلق الله، إنها المرة الأولى التي أشعر فيها أنني مواطن قد نال حقوقه بلا مماطلة أو مشقة. رجعت إلى المنزل، نظرت إلى والدتي وهي تبكي فراق عينها، وتتألم على ذلك المصير الذي آلت إليه عينها، قلت لها يا أماه: آن لك الآن أن تكفكفي الدمع، فقد فتحت توأمتي اليوم على أمرين ما يسرني أن لي بهما حمر النعم.. قالت: فما هما يا ولدي.. قلت أما أولهما: فإنك سوف تحصلين على علاج عينك في مستشفى الوطن والمواطنين (مستشفى الملك خالد للعيون). وأما ثانيهما: فإنه وللمرة الأولى استطعت أن أحقق أمراً بلا وساطة. رفعت والدتي يديها وجعلت دموعها قرباناً لقبول دعوتها تلهج بالدعاء لكل من يسر على المسلمين ذلك.. لقد كان لذلك الأمر الذي تحصلت عليه لأجل والدتي وقع كبير في عائلتي جميعاً.. فقريباً سوف تنتهي معاناة والدتي، وقريباً سوف تقر عينها بعلاج عينها. بدأت مرحلة الاستعداد للذهاب إلى المستشفى، حرصت على أن أجمع التقارير الطبية، وكل ما يتعلَّق بعين والدتي، حتى إذا ظننت أنني قد أتممت كل شيء ولم أنس شيئاً، سألت عن دوام المستشفى فقيل لي إن كانت المرة الأولى فلا بد أن تذهب بعد صلاة الفجر، قلت ولو كان الذهاب في منتصف الليل، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. انطلقت إلى ذلك المستشفى وأنا لا أكاد أملك نفسي زهواً وفخراً فهاهي والدتي تنال علاجاً في مستشفى راقٍ وأهم ما في الأمر أنه بلا وساطة. بلغت المستشفى وتوجهنا إلى مقر عيادة الكشف المبدئي، فوجدت من حولها أمة من الناس، كأنهم المعتمرون ليلة سبع وعشرين، فازددت سروراً وغبطة، وقلت في نفسي لله در هؤلاء المسؤولين أجميع هؤلاء سينالون العلاج وبلا وساطة، إنه لأمر عجاب. أخذت رقماً وانتظرنا وقد كان الانتظار عسيراً، لكن ما هوَّنه علينا أننا نرى أن جميع ذلك يحدث وبلا وساطة. بلغنا الدور فصوَّتوا باسم والدتي فقمت إليها وأنا فرح مسرور وأقول لها: اليوم يا أماه سوف تودعين ذلك البلاء الذي طالما أشق بك وبنا. دلفنا إلى العيادة وجلست والدتي فوق كرسي الكشف، ففحصها الطبيب فحصاً دقيقاً أعجبتني حركته ودقته وعنايته بأسئلته وإنصاته، حتى إذا انتهى من الكشف أطرق طويلاً يكتب في ملف أمامه كلاماً كثيراً، أيقنت معه أنه يشخِّص حالة والدتي، وأنه قد بدأ فعلاً بوصف العلاج وطريقته، فلما انتهى من إطراقه وكتابته التفت إلينا فقال: أما وقد كشفنا على والدتك، فإننا نرى أن عين والدتك في وضع سيئ، وهي محتاجة للعلاج العاجل، لكن هذا المستشفى قد تخصص فيما هو أشد من مرض عين والدتك، فابحث لها عن مستشفى آخر، أما هنا فلا مقام لك فارجع ووالدتك أعانكما الله، قلت له، وهل أشد فتكاً بالعين من الماء الأزرق، هزّ كتفيه ورفع حاجبيه معلناً نهاية حديثه ومعلناً في الوقت ذاته بداية معاناة نفسية وجسدية بالنسبة لي ولوالدتي، تبخَّر جميع ما كنت أشعر به، خرجت من عنده ثم مررت بين يدي موظف الاستقبال وقد رأى فيَّ انكساراً بيِّنا، ناداني واستوقفني، أتيت إليه فقال لي: لم يقبل المستشفى علاج والدتك، ورد ذلك الأمر؟ أليس كذلك؟.. قلت أي وربي هو كذلك، فقال لي وهو يهمس: لا تبال بهم، ابحث لك عن وساطة ثم ائتني حتى أسعى في تسهيل أمورك، نظرت إليه وأنا أشعر بغثيان وصداع غريب، قلت له: ومن غير وعي مني، ألا لعنة الله على الوساطة فكم قد فتكت بي.. خرجت وأنا كلما وقعت عيني على شيء ظننت أنه لن يتحقق إلا بالوساطة، رأيت برّادة الماء قربت منها قدمت يدي ثم أخّرتها خشية أن يُقال لي ألك وساطة حتى تشرب الماء؟ أما الأمر الثاني: أنهت زوجتي دراستها الثانوية فلما أرادت التقديم على الكلية، قلت لها ابحثي عن قسم يكون محدثاً، حتى تكون وظائفه متوفرة، فإنه لا طاقة لنا بالوساطة، وليس لنا إلا جهدك في دراستك، قبلت في قسم رياض الأطفال، فلما حان وقت تخرجها كان تقديرها (جيداً) مرتفعاً، أنا أعلم أنه تقدير ضعيف، لكن حداثة القسم أطمعتها في أن تطلب الوظيفة، فجعلنا نترقب إعلان الوظائف، وكلما أُعلن عن وظيفة خضنا حرب التقديم عليها، لكننا في كل مرة لا نظفر إلا بالتعب، ولا نحقق إلا الإحباط، مرَّت سنة كاملة وهذا هو وضعنا.. كنت لم أبال بهذا الأمر ليقيني أن التقدير الضعيف خليق بأن يهمل صاحبه، لكن حدث أمر أقضَّ مضجعي، وأقلق راحتي، وأشعل نار الكراهية في فؤادي. ذهبت زوجتي إلى حفل زواج فلما عادت قالت لي: لقد رأيت عدداً من زميلات الدراسة في الكلية، ووجدت أن ثلاثاً منهن قد تعينَّ بعد التخرج مباشرة، قلت لها: لعل تقديراتهن مرتفعة، فقالت أتقول مرتفعة وأعلاهن تقديراً هو المقبول المرتفع؟ فلما نطقت ذلك عادت إلى ذاكرتي صورة ذلك الوحش المروعة.. إنها الوساطة، سألتها آملاً أن تجيبني جواباً ليس فيه حرف الواو، قلت لها وكيف حصلن على الوظائف، فقالت بصوت عليل، وبدمعة تكاسلت في مقلتها ثم اندفعت غير عابئة بأحد، قالت إنها الوساطة. يا قوم، أي داء هذا الذي أصابنا، إنه داء يصيب الضعفاء دون الأقوياء.. ما السبيل إلى إزهاق روحه أو إزالته؟ بعد أن فتكت بي الوساطة مرتين، رأيت أن احتاط في كل أمر من أموري. الأمر الثالث: لي أُخية قُبلت في الكلية، وقبل أن تذهب إلى الكلية في يومها الأول قلت لها: علمت ما كنا نعانيه من هذه الوساطة التي أرهقتنا جداً، وليس من سبيل حتى نتخطاها إلا أن تبذلي قصارى الجهد، فلا يكون من عذر بعد ذلك لأحد. بدأت في دراستها بجد لم أر مثله وتفانٍ يعز مثاله، ويندر في الحياة شكله، باتت تدع الطعام والشراب من أجل دراستها، أكبت على الكتب والملازم تنهل منها وتحفظ وتفهم، حتى إذا أوشكت على النهاية شدت المئزر وثار فيها الحماس ثوران البركان وأصبحت شعلة متقدة لا تكاد أن تهدأ.. كنت أنظر إليها وأنا فرح مسرور، وأُمني نفسي بأنها سوف تجد وظيفتها بعد أن تنهي دراستها مباشرة فما لأحد عليها من فضل إلا رب البرية. انتهت الامتحانات، وخرجت النتيجة، فكان تقديرها مشرفاً وبذلها محلقاً، فقد حازت على تقدير الامتياز، فرحت العائلة بأكملها.. وصرت أفخر بما عملته تلك البُنية، أخذت أوراقها حتى تقدم على الديوان فقدمتها، لكن لم تتيسر لها الوظيفة من غير ما سبب واضح، حاولت مرة ومرتين وثلاثاً.. وكلها باءت بالفشل الذريع. أيست وأيسنا من أن تتوظف، فبقيت في البيت تترقب إعلان الوظائف وفي يوم جاءتني بوجه تعلوه كآبة عظيمة، فقالت لي: ألم تعلم بأن زميلات لي في الكلية قد توظفن وبعد التخرج مباشرة.. علمت أنها الوساطة، فآثرت أن أظهر بمظهر الساذج فقلت لها: ألم يكنّ أفضل منك معدلاً ونسبة؟ قالت لي: كيف ذلك وهن ذوات المقبول والجيد؟ طأطأت رأسي صامتاً، فلم أعد أجد جواباً.. لكنها لم تصمت بل هجمت عليَّ هجوماً شرساً قائلة لي: لماذا لم تصاحب رجالاً يحسنون الوساطة لماذا كل أصحابك مثلك؟. . لماذا نحن دائماً في مؤخرة الرحل، لماذا نحن مسلوبو الحق دائماً، توالت عليَّ أسئلتها تلك كأنها بناء مشمخر قد خرَّ عليَّ.. لم أجد جواباً، وهي لم تجد حلاً فأطلقت لعينيها العنان، فجادت بدموع غزار، كدت أنا لولا تجلُّدي أن ألحق بها فأكون مثلها سواء بسواء. من هنا أناشد جميع المسؤولين: ألا فاتقوا الله في هؤلاء المواطنين، هم سواسية في الحقوق العامة، لماذا يفضّل بعضهم على بعض بسبب تلك المحسوبيات، لماذا يُسلب حق مواطن هو متمكن أمكن فيه ثم يُعطى لغيره؟ إن هذه الوساطة مرض خطير فرح بها القادر عليها، ومرض بسببها العاجز عنها.
|