إن المسلم في هذا الشهر يحرص كل الحرص على معرفة حال النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يتأسى به ويعمل مثل عمله؛ حتى يكون من الفائزين في هذا الشهر وخصوصاً في العشر المباركة، التي هي أفضل ليالي العام على الإطلاق، كما قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، فماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في هذه العشر التي كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها؟ تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر - أي: العشر الأخيرة من رمضان - شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله) متفق عليه. وفي رواية لمسلم: (كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في القيام والصلاة في العشر الأواخر تحرياً لليلة القدر، ولهذا كان يوصي أمته - صلى الله عليه وسلم- فيقول: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) رواه مسلم والبخاري وقال: (في الوتر من العشر الأواخر، وقد كان يعتكف في المسجد العشر الأواخر، كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر، حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده) متفق عليه. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى ليلة القدر، فاعتكف في أول رمضان ثم في وسطه ثم اعتكف في العشر الأخيرة من رمضان، كما روى أبو سعيد رضي الله عنه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال: (إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم أعتكفت العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف فاعتكف الناس معه) متفق عليه. لكن لم يذكر البخاري العشر الأول، كما قال الشوكاني. وقال: والحديث فيه دليل على أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان. ولعلنا نتساءل هنا ما السبب في اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر المباركة أكثر من غيرها، والاهتمام بها أشد الاهتمام، حتى أنه كان يشد مئزره كناية عن اعتزال النساء في هذه العشر، وقال بعض أهل العلم: كناية عن زيادة الاجتهاد في العبادة والقيام وقراءة القرآن ولهذا دلت رواية عائشة رضي الله عنها على أنه كان يحيي ليله أي يقوم طول الليل، وقال بعض أهل العلم أغلبه، قال الإمام الشوكاني أحيا ليله: أي سهره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه فيه لأن النوم أخو الموت والحديث فيه دليل على مشروعية الحرص على مداومة القيام في العشر الأواخر من رمضان، وإحيائها بالعبادة واعتزال النساء. ولهذا كان الحبيب صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيقاظ أهله، حتى يقوموا ويصلوا ويدعوا الله عز وجل. وقد روى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها، وهي أم المؤمنين: (لم يكن صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشر أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه) فإن السبب في ذلك هو الفوز بقيام هذه الليلة المباركة، التي هي خير من ألف شهر، وهي ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة, والعبادة في هذه الليلة خير من ألف شهر وهي ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة، والعبادة في هذه الليلة خير من العبادة في ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر. الله أكبر.. إنها ليلة فعلاً مباركة كما وصفها الله، وما أكرم الله سبحانه وهو الكريم الذي تفضل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الليلة المباركة، التي أنزل فيها القرآن، كما قال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} (3) سورة الدخان, وقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) سورة القدر, ومن قام هذه الليلة فقط ووفق لقيامها مؤمن محتسباً غفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه. فعلينا جميعاً أيها الفضلاء, أن نتحرى هذه الليلة، فإنها ليلة لا تمر في العام إلا مرة واحدة ولكن فضلها لا يخفى. إنها ليلة لكنها بآلاف الليالي، ومن حرم خيرها، فقد حرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الليلة، كما قال العلماء في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الأوتار أحرى، والدعاء فيها مستجاب، فقد روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت يارسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). أسأل الله أن يجعلني وإخواني القراء ممن يوفق لقيام هذه الليلة، وممن يكون قد وفق ونال القبول بقيامها إيماناً واحتساباً، وغفر ذنوبه وآثامه وحرم على النار عظامه، إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبة أجمعين.
|