حينما تتجه مدارسنا إلى تربية أبنائنا على ما فيه العقيدة وقوة الجسم وقوة النفس وقوة الإدراك وقوة الإرادة، فإنها تحشد من الطاقات والخبرات والإمكانات سعياً منها لتحقيق هذه الأهداف، وتضع من المناهج ما تؤمل فيها أن تحقق ذلك المسعى المحمود، ونجد القائمين على التعليم يحرصون على الوقوف على مدى تحقيق هذه المناهج أهدافها، بل نجد الساحة تمتلئ من حين لآخر بالآراء الناقدة فيما يقدم للأبناء داخل مدارسهم ما بين مستحسن ومطالب بالإصلاح، وكل ذلك حرصاً على الأفضل والأكفأ الذي يجب أن تقدمه مدارسنا. ولكن هل سمعنا ذات يوم عن مدرسة لم تجد من البشر إلا الاستحسان الكامل لأهدافها ولتوقيتها ولمناهجها، حتى وإن كانت الآراء نحو هذه المدرسة من غير من ينتسبون إليها؟ إنها مدرسة رمضان ذلك الشهر الكريم الذي خص الله به خير أمة أخرجت للناس فأنزل فيه القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، وفرض الله علينا صومه فقال: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وحثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قيامه فقال: (فمن صامه وقامه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). ولهذا فإن هذا الشهر الكريم قد مثل مدرسة كبرى في حياة المسلمين وصار في حياتهم رمز قوة لهم في كل جوانب حياتهم، لما يوفره الصوم من إصلاح وتهذيب للنفوس، وتعويد لها على الخيرات، وتربيتها على قوة الروح التي ترقى بالنفوس فتضبط السلوك على طريق الحق والهدى، فالصائم يرتقي بنفسه فيهذبها ويحرص على أن يتفادى ما يفسد صيامه، ويتحاشى كل ما يعكر للصوم صفوه، حتى إذا تعرض له إنسان بأذى فإنه يتمسك بصومه، اتباعاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) متفق عليه. وهكذا يقف الصوم حائلاً دون مجاراة الآثمين والذين يشعلون نار السباب بين الناس، فيتمسك الصائم بسلوك الصفح والعفو مع أنه قادر على الرد والانتصاف لنفسه من السفهاء الذين يسعون عندما يجدون من يجاريهم فيما هم فيه من قبح القول أو حماقة الفعل، غير أن الصائم هو الذي يكون في موقف يترفع به عن كل ذلك لأن هدفه أسمى، وقدره أعلى، وما يسعى إليه هو السلوك الأمثل الذي يجعله بعيداً عن السباب والفسوق والفاحش من القول. فالصوم يضيف للمسلم قوة إلى نفسه تجعله يتحكم في أقواله وأفعاله، وتسمو به عن العرف السائد في الرد على السفهاء، أو النزول إلى مستويات دنيوية زائلة، بل يشعر الصائم بقوة اليقين في نفسه، وروعة الإيمان في روحه ذلك الإيمان الذي يستشعره ويعايشه في هذا الشهر الكريم مع كتاب الله يتلوه ويتدبره، ومع أخلاقيات الإسلام التي حث عليها الدين الحنيف، فلا يتكلم إلا بالحق، ولا ينطق إلا بالصدق، يسعى جاهداً ليكون صمته فكراً ونطقه ذكراً، فهو يحث خطاه نحو الخير ويغالب حاجاته وشهواته طمعاً فيما عند الله من ثواب، وما أعده للصائمين المتقين، وهنا يكون مكمن القوة الحقيقية لدى الصائم، أن يجعل لسانه رطباً بذكر الله، فيربي نفسه على الفضائل في القول والفعل، وهذه القوة هي التي تحرك المسلم نحو الخير فتكون قوته في السمو بنفسه والارتقاء بها إلى منازل الصالحين. إن الصائم الذي يجاهد نفسه ويكافح رغباته يمثل قوة الإرادة عند المسلمين الذين نشروا الدين بأخلاقهم وحسن فعالهم وهم لله ذاكرون، ولم لا وهم الذين تمثلوا وامتثلوا ما حثهم عليه خاتم المرسلين في قوله الذي رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقيت إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه الترمذي وقال حديث حسن. وهكذا تكون قوة الصائم في تذكره الدائم ربه، ومراعاته له سبحانه في السر والعلن، رغبة فيما عنده، وطمعاً فيما أعده في الآخرة للصائمين، وهذا هو مصدر القوة الذي يجعل الصائم محافظاً على صومه، حتى إذا ما انقضى هذا الشهر الكريم خرج الصائم وقد امتلك من عناصر القوة في سلوكه وأفعاله وأقواله ما يمثل شحنة قوية تحركه في الحياة.
|