في منتصف ذي القعدة المقبل -إن شاء الله تعالى- يعقد اللقاء الوطني الخامس للحوار الفكري بمدينة أبها تحت عنوان (نحن والآخر.. رؤية وطنية مشتركة للتعامل مع الثقافات العالمية)، وذلك ضمن الجهود المثمرة التي ينهض بها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني وأمينه العام معالي الأستاذ فيصل بن عبدالرحمن بن معمر، بدعم من القيادة الحكيمة والرشيدة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- الذي أسس لانطلاقة المركز بغية نشر قيم الحوار وثقافته وتعزيز قيم المواطنة وتعضيد مكانة الإنسان السعودي ودفعه صوب قراءة قضايا الوطن سعياً لتطويره ورخائه. أول ما يلفت الانتباه أن هذه اللقاءات الوطنية للحوار الفكري قد أفرزت حراكاً مجتمعياً على مختلف الصُعد، وأصبح الحديث عنها فاكهة المجالس والمنتديات بدءاً بالشباب ومروراً بالرجال والنساء وانتهاء بالحكماء من الشيوخ والعلماء والمثقفين وأولياء الأمور. وبتنا نرى ترسيخاً جاداً لثقافة الحوار ونشراً متسعاً لقيم التسامح والاختلاف الإيجابي عبر مناقشة قضايانا الوطنية المختلفة، لاسيما في الجولات الحوارية التي تتخذ شكل ورش عمل تناقش محاور اللقاءات الفكرية وتتداول الرأي والنصح فيما يتعلق بالوطن والمواطنين، وقضايا الشباب والإصلاح السياسي والاقتصادي والمجتمعي والعلاقة مع الآخر وقضايا المرأة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، فضلاً عن الهجمة الإعلامية الشرسة التي تواجهها المملكة العربية السعودية قيادة وشعباً من قِبَل الصحافة الغربية المغرضة والهجمة الإرهابية من قِبَل الفئة الضالة التي اندحرت.. كل هذه القضايا والنقاشات أثمرت نتائج إيجابية كثيرة أهمها تمثل في الآتي: 1- تعزيز الانتماء الوطني ونشر ثقافة الحوار بين فئات المجتمع، وهو ما تجسد في الشعور الوطني الفياض أمام التحديات التي تواجهها المملكة. 2- إفساح المجال لحريات واسعة في التعبير عن الرأي وكفالة حرية الرأي والرأي الآخر، وتعزيز حرية الصحافة والإبداع بما كفل تنشيط الحركة الثقافية وتطويرها. 3- تأهيل المواطن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً مع بداية الانفتاح وطرح الشفافية. 4- تدعيم الحس الأمني عند المواطنين وتوعيتهم بمسائل الانحراف الفكري والإرهاب وخطورته على مستقبل الوطن والدين، فالأنظمة التي تسير عليها الحكومة في العمل مستمدة من الشريعة الإسلامية السمحة، وهذه الشريعة هي التي تربط بين الحاكم والمحكوم في عقد اجتماعي، وهي التي تؤدي إلى الانتماء الوطني الذي يؤدي بدوره إلى الشعور بالوحدة الوطنية تحت راية الإسلام والتوحيد واللباس الوطني والنشيد الوطني والتربية الوطنية. 5- تأطير الصلة بين المجتمع والدولة من جانب وبين أفراد ومؤسسات المجتمع من جانب آخر. 6- المساهمة في تحديد المفاهيم السليمة للمصطلحات ذات الصلة بالعلاقة مع الآخر مثل: الجهاد، والولاء والبراء، والتكفير، والوعي الشرعي بحقوق الآخرين المحفوظة في الشريعة الإسلامية وتثقيف أفراد المجتمع بها، والتركيز على البعد الإنساني في التعامل مع الآخر، والتواصل معه من خلال ترسيخ ثقافة معرفة الآخر وثقافة الاختلاف، وثقافة الحوار عبر قنوات التعليم والإعلام، وكذلك تبادل الأفكار والآراء حول إعادة صياغة خطابنا وفقاً لمعرفة وإدراك هذه الثقافات، والعناية بالنتاج الفكري، في أدب وفن الحوار وتوجيه المؤسسات ودور النشر إلى إعداد دراسات متخصصة وسلاسل علمية تناسب جميع ألوان الطيف المجتمعي ومستوياته التعليمية. 7- تحسين المهارات الشخصية والاتصال لدى النشء، وتدعيم دور الأخلاق في الحوار والتعامل مع الآخر. بداية منطلقة ومسيرة مظفرة: لعل ما يدعو إلى التفاؤل بمستقبل هذه التجربة الإصلاحية الواعدة هو أن أولياء الأمر في المملكة يقودون مشروع الإصلاح باقتناع وإيمان كبيرين بضرورة أن يكون الإصلاح شاملاً وأن تنعكس آثاره الإيجابية على كافة المواطنين ليحصدوا ثماره المختلفة في تحسين مستوى معيشتهم وتطوير نوعية الحياة التي يعيشونها في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد كان توجّه حكومة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين للأمور الإصلاحية توجها محمودا، إذ أُعلن عن بدء الحوار الوطني في شهر ربيع الثاني عام 1424هـ، وصدر قرار بتسمية مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وتعيين أمين عام له، وذلك بعد أن عقد المؤتمر الأول للحوار الوطني الذي تميز بالصراحة والحرية في طرح الآراء مع سعة دائرة القضايا والموضوعات وغلبة أطروحات التيار الإسلامي المعتدل وقوة أفكاره. وتسلم مركز الملك عبدالعزيز راية اللقاءات الحوارية فيما بعد، ابتداء من اللقاء الثاني الذي عُقد في مكة المكرمة تحت عنوان (الغلو والتطرف) وشهد اتساع دائرة المشاركين فيه والتي شملت عشر نسوة، واستكتاب عدد كبير من الباحثين. ثم توالت اللقاءات الفكرية والحوارية، فعُقد اللقاء الثالث، وتبعه اللقاء الرابع المهم والذي ناقش مشكلات الشباب تحت عنوان (قضايا الشباب: الواقع والتطلعات) وقام المركز بالتنسيق والإشراف على الجولات الحوارية التي سبقت اللقاءات الأساسية، واتخذت شكل ورش عمل تمتعت بحيوية وحرية في مناقشة جوانب القضايا المتعلقة بالحوار، وتحديد محاور النقاش. وعموماً فإن مبدأ الحوار في حد ذاته ليس عيباً، ولا يدل على ضعف ولكن نتيجة الحوار هي التي تحدد أهميته من عدمها.. والمسلمون تحاوروا قديماً مع أصحاب الطوائف والديانات الأخرى ولم ينقص هذا من مكانتهم. ومع أن اللقاءات الحوارية قد تباينت حولها ردود الفعل بين رافض لها جملة وتفصيلاً، وبين مقتنص لها وقد رأى فيها فرصة ثمينة لا تفوت لمهاجمة أشخاص أو أفكار وكأنه في معرض تصفية حسابات قديمة، وثالث يفصل فيها قليلاً، ورابع التبس عليه الأمر، إلا أنه في النهاية تبقى للحوار قيمته في تنفيس الاحتقان وإسكات المتربص وتعديل موازين القوى المؤثرة سعياً لنهضة المجتمع ونشر الوعي الفكري والسياسي والديني، وتحقيق السلام الداخلي بين الطوائف والجماعات. لقد أظهرت وقائع الحروب والمنازعات المدمرة أن التصادم داخل الجماعة البشرية الواحدة كان أشد ضراوة وفتكاً من تصادم الجماعات البشرية المختلفة، وما يجري من قتل وفظاعات وتدمير أعمى في بعض الدول -كما وقع في الجزائر وأفغانستان والقرن الإفريقي- يؤكد هذه الحقيقة، ويجعلنا نجزم بأن ضحايا الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي أكثر ألماً وفظاعة وتدميراً من كل الحروب الخارجية التي خاضتها البلدان العربية والإسلامية. ويكفي أن نشير إلى أن الصراع مع إسرائيل كلّف في العقود الستة الماضية حوالي 200 ألف من الضحايا، وأن الصراعات الأهلية والحروب الداخلية بين البلدان العربية والإسلامية كلّفت 2.5 مليون ضحية، ومن حيث التكلفة المالية فإن الصراع الأول كلّف الدول العربية 300 بليون دولار، أما باقي الصراعات فبلغت تكاليفها حوالي 1.2 تريليون دولار، وهكذا نجد أن 80% من الحروب والصراعات والنزاعات تقع تحت عنوان (الحروب الداخلية) التي تتنازع فيها القوى المختلفة حول السلطة والنفوذ. من هنا تأتي أهمية الحوار بين ألوان الطيف المجتمعي، ذلك الحوار الذي يمثل ضرورة أمنية لابد منها حتى ينشر السلام جناحيه على المجتمع، ويتفيأ ظلاله الكبير والصغير، فكفانا هجير الحياة، ونوازع الشر عند الأعداء. إننا لا نعدو الصواب حين القول إن السبب الرئيس في بوار العديد من مشروعات التنمية والتأخر الحضاري وشيوع قيم الاستهلاك يرجع بالدرجة الأولى إلى غياب الحوار وحرية التعبير عن الرأي. وتجربة الحوار بين الأفكار هي التي تثري أسئلة الحرية في الفكر والواقع، وهي التي تعطي لمضمون الحرية أبعاداً تاريخية وآفاقاً مستقبلية.. والحوار ليس من أجل إلغاء الخصم أو ثنيه عن أفكاره وقناعاته، وإنما من أجل الحرية وأفقها الإنساني والحضاري، والحرية لا تعني بأي شكل من الأشكال تجميد الاختلافات الفكرية والسياسية، وإنما تنظيمها وجعلها تسير في تجاه توافقي بنائي، وهو ما تقوم به الآن حكومة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله- من تسيير المشروعات الإصلاحية في مسارات متوازنة ومتضامنة تعمل على خلق البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المواتية لمجتمع متقدم مزدهر ينعم بالحرية والعدل والمساواة والأمان من خلال المشاركة الحوارية الفكرية والسياسية في صنع القرار والإيمان بالخيار الشوري (الديمقراطي) سبيلاً لصياغة المستقبل المنشود.
|