Thursday 27th October,200512082العددالخميس 24 ,رمضان 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "شهر الغفران"

كتب عليكم الصيامكتب عليكم الصيام
د.سلمان بن فهد العودة

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} «البقرة:183-184».
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا خطاب للمؤمنين، وغير المؤمن بحاجة إلى خطاب آخر؛ فيخاطب بالإيمان بالله وبالرسل وبالقرآن؛ فإن آمن أُمر بتكاليف هذا الخطاب، ولذا غالباً ما ورد خطاب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في العهد المكي، وخطاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} في العهد المدني، وإن كان يرد أحياناً من هذا وهذا.
قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} هذا اللفظ من إعجاز القرآن، فلأول وهلة يعلم منها قارئ الآية أن الصيام فرض على هذه الأمة، بخلاف التوراة والإنجيل، فرغم أن الله عز وجل كتب عليهم الصيام إلا أنك لا ترى ذلك في كتبهم بصيغة الإلزام والأمر، إنما هو مدح وثناء فقط له ولأهله، ولا تجد تصريحاً بالإلزام، ولعل ذلك مما حرف في كتبهم.
قوله تعالى: {الصِّيَامُ} الصيام والصوم مصدران يدلان على الإمساك والركود، قال تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} «مريم:26».
وهو هنا الإمساك عن الكلام.


خَيلٌ صِيامٌ وَخَيلٌ غَيرُ صائِمَةٍ
تَحتَ العَجاجِ وَأُخرى تَعلُكُ اللُجُما

والصوم هو الإمساك عن المفطرات، في وقت مخصوص، من شخص مخصوص مع النية.
وقد كان الصوم بمعنى الإمساك عن الطعام والشراب معروفاً عند العرب في الجاهلية، فقد كانوا يصومون يوم عاشوراء، ففي الصحيح عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ الْفَرِيضَةَ، وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ، فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ.
ولا يسمى صياماً إذا امتنع عن بعض الأطعمة أو الأشربة أو عن النساء فقط كما كان موجوداً عند العرب. يقول قائلهم:


وَإِن شِئتِ حَرَّمتُ النِساءُ سِواكُمُ
وَإِن شِئتِ لَم أَطعَم نُقاخاً وَلا بَردا

أو كما يفعله من يسمون بالنباتيين أو أصحاب الحمية، أو كما هو الحال عند بعض أهل الكتاب.
قوله تعالى:{عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يصح أن يشمل ظاهر الآية كل من سبقنا من آدم إلى عيسى- عليهما السلام- وليس اليهود والنصارى فقط، وأن كل من سبقنا كانوا يصومون، لكن لا يلزم أن يكون صومهم هو نفس صومنا الشرعي بمعنى الإمساك عن مخصوص في وقت مخصوص، ولا أن يكون فرض عليهم شهر رمضان، وإنما المقصود فرض عليهم أصل الصيام لا صفته.
قوله عز وجل:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، التقوى تبدأ بالإيمان والإسلام فمن آمن وأسلم فقد اتقى الكفر واتقى عذاب الله، فإذا صام فقد حقق ركناً من أركان الإسلام، وحقق قدراً من التقوى ولو كان في صومه بعض التخريق والخلل كما في الصحيح: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ).
وفي بعض ألفاظه: (عند النسائي وغيره (مَا لَمْ يَخْرِقْهَا).
من فوائد الآية:
الأولى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أي: فرض عليكم الصيام، وهذه الآية أصل في وجوب صيام رمضان، وقد أجمع أهل العلم كافة على أنه يجب على كل مسلم أن يصوم شهر رمضان، ومن أنكر وجوبه أو جحده فهو مرتد إلا أن يكون جاهلاً أو حديث عهد بالإسلام.
وَالأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإجْمَاعُ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ).فذَكَرَ مِنْهَا صَوْمَ رَمَضَانَ.
الثانية: أن الصيام كتب على الذين من قبلنا من الأمم السابقة.
الثالثة: أن من أسرار الصيام وآثاره: التربية على التقوى، فإن الله عز وجل لم يشرع العبادة لنتعذب بها، أو يصيبنا منها الحرج والمشقة بالامتناع عما نشتهي، ولكن لحكمة التربية على مراقبة الله عز وجل في السر والعلن والصبرعلى ذلك، وأن نترك الشيء لأجله سبحانه، حتى لو كان محبوباً مشتهى في النفوس.
فالتربية على الأخلاق الحميدة لا تخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبر عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن راض نفسه عليها، وما أروع قول القائل:


إذا المرء لم يترك طعاما يحبه
ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما
فيوشك أن تلفى له الدهر سبة
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

فمن امتنع عن مشتهى نفسه من أكل وشرب وغيره مما أحله الله طاعة لربه، وقُربة له وتعبداً حريٌ به أن يتولد في قلبه نفور وابتعاد عما هو محرم في الأصل، وإلا فما معنى أن يترك الصائم ما طاب مما أحله الله من طعام وشراب وغيره، ثم هو يقع في غيبة ونميمة وسوء ظن، وعقوق وشتم وسب وغير ذلك مما حرمه الله في رمضان وغيره، وفي الصحيح: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ).
الرابعة: من تأمل سورة البقرة وجد سياقاً طويلاً وآيات فسيحة تتحدث عن اليهود وأحياناً عن النصارى؛ فتذكر جدل اليهود وتلاعبهم وتلومهم وعنادهم وقتلهم أنبياءهم واختلافهم عليهم، وهذا أول مقدم الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ثم يذكر الله عز وجل في وسط ذلك كله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}سورة البقرة «183»، فما سر ذلك، مع أن المسلمين لم يكونوا في حالة ارتياح أو أنس مع من كانوا قبلهم؟
الظاهر- والله أعلم- هو تربية المسلمين على الفرز والفصل والعدل في التعامل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} « سورة المائدة 8» {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} « سورة الإسراء 15». (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ) وأن المسلم أولى باتباع الحق من غيره، وأن من كره أحداً فلا يجحد ما عنده من خير وفضل، وهذا كقوله سبحانه: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} «سورة البقرة 158». فالطواف إما ركن أو واجب، وقد كانوا في الجاهلية يطوفون عند الصفا والمروة، ويهللون لأصنامهم؛ فتحرج المسلمون أن يفعلوا ذلك وتوقفوا فيه، فذكر الله سبحانه أنه لا جناح عليهم في ذلك، وإن كان موجوداً في الجاهلية، إلا أنه من آثار الأنبياء.
ومثله صوم المسلمين لعاشوراء فاليهود كانوا يصومونه ويعظمونه، فقد ثبت في الصحيح أنه لما قَدِمَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ، رَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (مَا هَذَا؟).قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى.
قَالَ: ( فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ). فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
الخامسة: في قوله عز وجل : {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، فيه تعظيم وبيان لأهمية شعيرة الصيام، فإن الله عز وجل لا يشرع شيئاً لجميع الأنبياء والرسل والأمم السابقة إلا ويكون عظيماً ومهماً؛ ولهذا اتفق جميع الرسل والأنبياء على الدين العام وإن اختلفت تفاصيل الشرائع وفي الصحيحين: (الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ).
ومن هذا الدين العام الصوم؛ فيشعر المسلم أنه يؤدي شعيرة عظيمة اتفق عليها جميع الأنبياء.
السادسة: أن المسلم إذا علم أنه لم يُخصَّ بهذه الشعيرة وحده وأن الأنبياء كلهم صاموا، والأمم من قبله صامت كان ذلك عزاءً وتسلية له، وتقوية لقلبه على الصيام الذي أمر به كما أمر به من كان قبله من الأمم.
السابعة: في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الصيام الشرعي معروف، لكنه في هذه الآية غير محدد بزمن ولا عدد؛ ولهذا نقل عن معاذ وقتادة وغيرهما من السلف: أن الصيام كان في أول الإسلام مطلقاً غير محدد.
وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر، وقد تقدم أنهم كانوا قبل الإسلام يصومون عاشوراء، فلعل ذلك كان المرحلة الأولى من الصيام.
الثامنة: التدرج في التشريع.
وهذا من خصائص شريعة الإسلام في المأمورات كالصلاة والمنهيات كالخمر، فالصلاة كانت في بادئ الأمر ركعتين ركعتين، فزيدت في الحضر وبقيت في السفر.كما في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ.
والخمر لم يحرمها الله عز وجل دفعة واحدة؛ بل على ثلاث مراحل.
وفي آية الصوم معنى عجيب لمن تأمله، فالله عز وجل خاطبهم بالإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}وهذا فيه نوع من إثارة الإيمان بهم وتشجيعهم وحثهم على السماع والتنفيذ، ثم الإشارة إلى الكتاب أنه كتب عليهم، وهذا فيه حث لهم؛ لأنه لو كان هذا الأمر مسنوناً أو مستحباً فربما فرط فيه بعض الناس فقول ربنا سبحانه: (كتب) يعلم المستمع أن الكاتب هو الله الخالق سبحانه، فيحثهم هذا على التطبيق ثم يقول: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} أي: هذا أمر لم تنفردوا به عن غيركم، ثم يُبين سبحانه وتعالى أنهم هم المقصودون، وأن المصلحة لهم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. ثم يؤكد سبحانه أن الأمرلا يتجاوز أياماً معدودات، وهي جموع قلة، أي: ثلاثة أيام في الأصل، أو ثلاثين يوماً على مذهب الجمهور، وقد تقل عن ذلك، فهي أيام معدودة، ومع أنها أيام معدودة إلا أن فيها ألواناً من الرخص، ففي أول الإسلام على القول: إنه كان هناك رخصة لمن لا يريد الصيام أن يفتدي، وحتى بعد ذلك ما زالت الرخصة قائمة إلى اليوم لمن كان مريضاً أو على سفر أن يفطر ويصوم عدة من أيام أخر، ثم يعقب سبحانه ذلك كله بقوله: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
ففي الآية الكريمة ألوان من التدرج مع الناس، وفي هذا درس كبير للدعاة، فما دام الله سبحانه وتعالى، وهو يأمر عباده ويكلفهم بشعيرة هي ركن من أركان الإسلام، ومع ذلك في هذه الآية ما يزيد على اثني عشر درباً من دروب التدرج، والترغيب، والتحضيض، والتحبيب والتهوين على العباد؛ فكذلك الداعية ينبغي أن يحرص على تسويق دعوته إلى الناس بالحسنى، وأن يتدرج إليهم ويحرص على هدايتهم من أقرب الطرق وأسهل الأبواب والأسباب.
وسيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهديه أكمل هدي وسنته أعظم سنة، جعل الله سبحانه وتعالى فيها خاصية يشعر معها الإنسان بقرب تناولها وتطبيقها، ففي الصحيح عن أَنَس بْن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا.وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا.فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
نعم وُجد عند السلف- رحمهم الله- أشياء ليست خارجة عن السنة، ولا هي من اتباع السنة، ولكنهم قد يأخذون أنفسهم بالجد في بعض الأمور؛ فيكون عند أحدهم جانب من القوة في شعيرة معينة في السلوك والزهد والإعراض عن الدنيا، أو العلم والتحصيل، أو الإنفاق أو الجهاد؛ فإذا نظرت إلى سيرة واحد منهم خُيل لك أنك لا تستطيع اللحاق به، لكن إذا نظرت إلى سيرة سيدهم وإمامهم وقدوتهم محمد- صلى الله عليه وسلم- شعرت أنها في المتناول، قريبة المأخذ، ممكنة الاتباع، وهذا درس كبير للداعية في تقريب الأمر إلى الناس وتسهيله عليهم سواء كان أمر دعوة أو أمر تعليم أو أمر إصلاح أو خير، وليس من المصلحة للناس أن نشعرهم وهم يُقبلون على وجه من وجوه الخير أنهم داخلون في باب صعب يعزعليهم المضي فيه، بل هون عليهم الأمر وسهله لهم، وإذا دخلوا فيه وجدوا العون من الله تبارك.
التاسعة: الفرق الشاسع والبون العظيم بين أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- وبين بني إسرائيل، فبنو إسرائيل في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} «سورة البقرة 67».
لم يأتمروا بأمر الله مباشرة؛ بل شددوا فشدد الله عليهم، بينما الصحابة رضي الله عنهم عندما قال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} صاموا حسب وسعهم وفهمهم واستطاعتهم، ولم يترددوا.
العاشرة: في قوله عز وجل: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}.
فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر.
والثاني: أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء.
والثالث: أنها شهر رمضان، وهو الأصح، وتكون الآية محكمة في هذا القول وفي القولين قبله تكون منسوخة.
الحادية عشرة: قال الله عز وجل: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فغاير بين {مَّرِيضًا} و {عَلَى سَفَرٍ}ولم يقل سبحانه: مريضاً أو مسافراً، ولم يقل جل جلاله: فمن كان منكم عنده مرض أو على سفر، والظاهر- والله أعلم- أن مريضاً يقصد به المريض الفعلي، لأن المرض هو: كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة، وهذا يدخل فيه أقل شيء، حتى وجع الإصبع أو الصداع أو الزكام، فيوصف صاحبه بأنه مريض، بيد أن مثل هذه الأمراض لا تبيح الفطر عند جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة، فلا يفطر إلا من أثّر الصوم على صحته، وأخَّر برأه وشِفاه، أما من كان مرضه خفيفاً فلا يفطر.
أما السفر فقوله تعالى: {عَلَى سَفَرٍ} يعني: أيّ سفر، شريطة أن يطلق عليه مسمى سفر، حتى لو كان بالطائرة، وفيه ترف وراحة وأنس فله أن يتمتع برخصة الفطر.
الثانية عشرة: قوله جل وعلا: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لم يقل سبحانه: فصيام من أيام أخر؛ ليدل على أن من أفطر أياماً من رمضان فإنه يقضي أياماً بعددها فقط، فعدة أي: بعدد ما أفطر، وقول بعضهم من أفطر يوماً فإنه يصوم عشرة أيام باطل لا أصل له.
الثالثة عشرة: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يؤخذ منها أنه لا يلزم التتابع في القضاء، فإن الله عز وجل قد طلب منا شيئاً واحداً، وهو أن تكون أيام القضاء بعدد أيام الفطر، ولم يذكر شرطاً آخر، وهو مذهب الجمهور وهو الصحيح.
الرابعة عشرة: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} هذه نكرة، فلو صام في أي شهر لقضى ما عليه، ولا يلزم أن يقضيها ضرورة بعد رمضان، وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِي إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، قَالَ يَحْيَى الشُّغْلُ مِنَ النَّبِيِ أَوْ بِالنَّبِي - صلى الله عليه وسلم -.
الخامسة عشرة: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} لم يقل سبحانه والصيام خير لكم، وإنما عبر بالفعل المضارع مع أن المصدرية.
والظاهر أن المعنى واحد من حيث الأصل، لكن يظل اللفظ القرآني له رونقه وإعجازه، مما لا يتوفر لأسلوب غيره، فالفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث، بخلاف الاسم فهو أكثر جموداً {وَأَن تَصُومُواْ} تذكير لهم بمعنى الصيام، وتذكير بالنية فيه، وقصد الصيام وإرادته، ولهذا قال بعض العلماء: إن الصيام هو النية وقد ورد مرفوعاً: (الصيام لا رياء فيه) أي الصيام الحقيقي؛ لأن حقيقة الصوم: أنه سر بين العبد وربه.
السادسة عشرة: كيف يجمع بين قول الله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وبين الحديث المتفق عليه: ( الصَّوْم لي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ). فظاهر الآية أن الصوم للعبد والحديث الصوم لله.
فيقال: خير لكم أي لتقواكم: {لعلكم تتقون}، فمقصود الصوم تحقيق التقوى في النفوس والقلوب، فالصوم من جهة هو فعل العبد وأثر الصوم وثمرته وفائدته يرجع للعبد في تحقيق الثواب والتربية على الصبر وتحقيق الإخلاص، وأما نسبة الصوم إلى الله سبحانه وتعالى فباعتبار الإخلاص لله عز وجل، وأن الصوم لا يقع شرعياً إلا خالصاً له سبحانه وتعالى.
salman@islamtoday. net

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved