الشعراء الحالمون قد يفرون إلى عالمهم الخاص حين يصطدمون بقسوة الواقع، ومأساوية تحولاته. إن الشاعر يبحث عن القيمة، والبحث عن القيمة وفق الصيغة الإنسانية - الحياتية هو بحث شعري في المحل الأول. يلعب التزمين النصي دورا مهما في تعميق النص الشعري، وتحفيز دلالته وإنتاج شعريته بوجه عام. (7) من دلالات فعل الاستقبال: الحلم، والرؤيا، والتخيل، وهي كلها دلالات تسعى للاستبدال والتحول إلى واقع آخر، وهي دلالات تذهب بها الذات الشاعرة صوب غايات متعددة تهدف منها إلى تحقق عالم مثالي مختلف، هذا الهدف ناجم في جوهره من تأمل هذه الذات لأحوال العالم، وتيقنها من تجاربه، وعلى ذلك تلوذ بما هو مثالي أحيانا وتجعل منه عالما شعريا آخر يوازي العالم المحسوس.. إنها ليست آخرة الشاعر بالضرورة قدر ما هي ميتافيزيقاه التي يحلم بها، ولذلك فإن الشعراء الحالمين قد يفرون إلى عالمهم الخاص حين يصطدمون بقسوة الواقع، ومأساوية تحولاته. إن الشعر - فيما يقول جان كوهن - (لن يسلم قياده إذا ما اعتبر مجرد شكل من أشكال اللغة، وطريقة من طرق الكلام. إنه يريد أن يكون مثله في ذلك مثل العلم والفلسفة، تعبيرا عن حقائق جديدة، واكتشافا للمظاهر المجهولة من العالم الموضوعي) (جان كوهن: بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1986م ص46). ومع اليقين بأن الشعر ينتمي إلى جوهر الفن في التحليل الأخير، فإن الشاعر هنا يمزج بين الرؤيتين: الرؤية الفلسفية والرؤية الفنية، فالشعر أيضا وهو يبدي موقفه من العالم فنيا وجماليا، يبديه أيضا فلسفيا واجتماعيا ونفسيا بل وعلميا أحيانا، وهو إذ يتأمل في الحياة والوجود والإنسان إنما يتأمل في القيم الكونية جميعا. وتصور قصيدة: (قيمة الإنسان) هذا التأمل، وهذا العالم المثالي الذي تسعى له الذات الشاعرة، حيث تصور الأبيات الأولى من القصيدة الصورة المثالية التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان، وهي صورة ترتهن بما هو مستقبلي:
قيمة الإنسان أن يؤنس في الدنيا أخاهْ
أن يرى البسمة تزدان على كل الشفاهْ
أن يرى الغبطة والبشر على كل الجباهْ
قيمة الإنسان أن ينجح في صنع الحياهْ
(الديوان ص177) الدعوة للإخوة، والبسمة والغبطة والبشر تعطي للحياة قيمة، وتجعل الإنسان يشعر بأخيه الإنسان، وهي هنا دعوة مثالية يريد الشاعر أن تعم الناس بحيث يفضي ذلك إلى صنع الحياة ومعايشتها. إن الشاعر يبحث عن القيمة، والبحث عن القيمة وفق الصيغة الإنسانية - الحياتية هو بحث شعري في المحل الأول، فالشعر يبحث عن النقاء، عن النموذج، عن المثال عبر كل رؤاه، سواء التصويرية الجمالية والفنية، أو رؤاه المعنوية والمضمونية.. وينفتح مجال المقارنة المستقبلية إلى عالمي النبات (الزهر - الروض) والزمن (الفجر - الليل) وكيف يغدو حالها إذا حرمت مما تتسم به؟
كيف يغدو الزهر لو يحرم أسباب شذاهْ
كيف يغدو الروض لو يحرم ألوان جناهْ
كيف يغدو الفجر لو يحرم أنداء رباهْ
كيف يغدو الليل لو يحرم أحلام صفاهْ
(الديوان ص177) إنه لن يكون لها القيمة نفسها التي يتصورها الناس عنها، أو يصورها عالم الفن بكل صيغه وأنماطه؟ فما هي صورة الزهر دون شذى؟ وما هي صورة الروض دون ألوان جناه؟ كذلك الفجر دون أنداء، والليل دون أحلام؟ ستكون الصورة مغايرة، وستفقد هذه الأشياء معانيها الحقيقية التي تتجلى فيها، وتنبثق عنها.. وهكذا الإنسان حين يفقد أخوته لأخيه الإنسان، يغدو بلا معنى، وبلا قيمة. وهنا، يمر الزمن، وتتحول الأشياء، ويتكلس الإنسان، ويمضي إلى نهايته المحتومة، ولن يبقى سوى ما يسوقه القلب واليد من أفعال طيبة، وقيم إنسانية: سوف نمضي مثلما يمضي هناك الفرقدْ وستبقى كل ذكرى ساقها في الناس قلب ويدْ (الديوان ص 178) هذا يقين المستقبل، لن يحفظ سوى ما يعطى من قيم، وهذه القيم المعطاة هي الصورة المثالية التي يتوخاها الشاعر، وإن لم تتحقق فحسب الشعر أن أكد عليها، وصاغها في رؤية دالة تظل سبيلا لمن يتحسس الحياة ويعايشها. ومن الصياغات الاستقبالية فعل الرؤيا، كما أشرت سابقا، وقد خص الشاعر هذا الفعل برؤيا عاطفية وجدانية، جسدها في قصيدة تحمل عنوان: (الرؤى) وهي رؤى تصور علاقة بين عاشقين، يحلم العاشق، ويستدعي ويتخيل ويرى، فماذا في هذه الرؤى، وماذا تقول القصيدة: كما تشرق الشمس كل صباح.. تبث الحياة تعيد الضياء يسافر عبر البطاحْ كما ينتشي برعم.. للنسيم.. وتزهو رياض.. وتزكو أقاحْ.. كما يبعث البحر أمواجه.. تسابق في الليل كف الرياحْ أرى صوتك الحلو.. ينساب يبعث فيّ الحنين.. إلى ليلة يرقص البدر فيها على صفحة الماء.. طوراً.. وتخفيه طوراً خيوط الصباحْ أرى صوتك: الدفء.. والعطر.. والشدو.. والسكر.. ذاك الشهي المباحْ أراه هنا.. اليوم نجوى.. أراه غدا.. حلما يسافر عبر الزمان.. يسافر عبر المكان. بغير ركاب.. بغير جناح.. أراك إلى جانبي.. حين أمضي وحين أعود.. أراك الغداة.. أراك الرواحْ فهل أنت حقا معي؟! أم غفوت وأسلمت.. للحلم نفسي.. وأسلمتني لدروب الخيال.. وليل الجراحْ. (الديوان ص.ص 185 - 187). توغل القصيدة في استقصاء الرؤيا، لتصبح مجموعة متساوقة من الرؤى المتعددة التي تصب في موضوع واحد هو موضوع: (الحب)، وهي رؤى مشرقة مضمخة بالعطر، كما يتبدى من التعبيرات التي يزجيها الشاعر، ليست رؤى معتمة ولا قاتمة ولا غائمة، كأن الحب حين يطرح كموضوع يطرح من هذا الجانب المشرق الوضيء، ولهذا تستهل القصيدة هنا بالوضاءة: (الشمس، صباح، الضياء) إلى جانب دلالات: (برعم، نسيم، رياض، أقاح) ثم يكتمل هذان الجانبان بقبس من دلالات الطبيعة: (البحر، الرياح، صفحة الماء).. ثمة أفق رومانتيكي يتشكل حيالنا، كرؤيا مستقبلية يجاوز بها الشاعر قبح الواقع، إلى واقع آخر جميل وفاتن، ولقد آثار هذا الأفق استدعاء صوت الحبيبة، وهو استدعاء مجازي جزئي له دلالته الكلية التي تشير للحبيبة ككل، الصوت أيضا يتساوق مع الدلالات السابقة، فهو صوت حلو (وهو: الدفء، العطر، الشدو، السكر المباح) كأن المستقبل حين يتعلق بالحبيبة فهو مستقبل مختلف، رومانتيكي، طبيعي، مباح، طيع لا غموض فيه، راق لا ابتذال فيه. الشاعر كأنه يقاوم قبح الواقع بهذا الجمال كما ذكرت، وهو في مقاومته هذه يكرر دلالات الجمال المتعددة، وبين نجوى الصوت وحلمه تتحقق رؤيا القصيدة. ثم بعد هذه البهجة الجمالية التي يثيرها الشاعر في بدايات القصيدة، يغير مجرى الدلالة في نهاياتها بإشاعة التساؤل، وكأن السؤال هو قدر الذات الشاعرة الذي لا يتبدل حين يتعلق الموضوع الشعري بالمستقبل، كما لحظنا في القصائد السابقة. فهل أنت حقا معي؟! أم غفوت وأسلمت.. للحلم نفسي.. وأسلمتني لدروب الخيال.. وليل الجراحْ. الشاعر لا يريد أن يقنعنا تماما بأنه مطمئن تماما حيال المستقبل حتى لو كان الموضوع عاطفيا، فلا بد أن يتسلل إليه (ليل الجراح) مع ذلك، فإن جراح الحب يمكن تحملها، أما جراح المستقبل فهي المؤلمة، والحادة، والمأساوية. قصيدة الحب الحافلة بالرؤى، وتكرار فعل (أرى) لا تغفل الهم الواقعي حين تشير إلى الجراح، ولكنها تفر منه إلى أفق الطبيعة، والحلم الرومانتيكي، الذي يحقق قدرا من الانتصار الوجداني على قبح الواقع، هذا ما تشير إليه القصيدة في دلالتها الكلية بمعنى من المعاني. إن الشاعر يسعى إلى إبراز أقصى الطاقات الذاتية الوجدانية حين يعبر عاطفيا، كما أنه يلوذ بالمفارقة من جهة، والتأمل والرصد الحسي والمعنوي من جهة أخرى لتشكيل ملامح عالمه الشعري، وهو عالم فسيح رحب، مكنوز بالدلالة، وتنوعاتها الخصبة الثرية. (8) يلعب التزمين النصي دورا مهما في تعميق النص الشعري، وتحفيز دلالته وإنتاج شعريته بوجه عام، وإذا كنا هنا قد قرأنا قصائد الديوان من منظور زمنية الاستقبال الشعري، فنحن هنا إزاء عدة خواص لغوية وأسلوبية يتحقق عبرها هذا التزمين، تتمثل في استخدام بعض العناصر النحوية الدالة على المستقبل، فضلا عن بعض العناصر الدلالية التي تشير إلى الآتي والمقبل مثل: الغد، الصباح، الفجر، الطلائع، واستثمار آليات التخييل الشعري، والأحلام والرؤى.. وهذه العناصر جميعا تعطي عمقا تعبيريا للنص الشعري وتهبه طاقات لا تحد، كما تجعل القصائد الشعرية قصائد مفتوحة بشكل كبير للتأويل والقراءة المتعددة التي تكشف دائما عن شعريات كامنة وتصويرات ثرية، تشدنا إلى هذا العالم الشعري الرحب؛ لنتمعن في دلالته، ونفتش عن طواياه نزوعا لابتكار جواهره، واكتشاف بنياته الدالة المخايلة.