Saturday 22nd October,200512077العددالسبت 19 ,رمضان 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

من قضايا المجتمعمن قضايا المجتمع
المصروف الأسري بين الإسراف والتقتير
د. إبراهيم بن ناصر الحمود(*)

المال نعمة من الله - عز وجل - امتن الله بها على عباده، وهو من زينة الحياة الدنيا قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} سورة الكهف، وهو قوام الحياة وقد جبلت النفوس على حبه والسعي في تحصيله بالطرق المشروعة من أجل هذه الحياة التي لا بد لها من زاد يبلغها حتى تصل إلى الحد الذي قدر الله أن تنتهي إليه.
والناس في مواجهة هذه الحياة بما فيها من المتطلبات التي تجل عن الحصر ليسوا على حد سواء، فالنظر إلى المال يختلف من شخص لآخر.. فمن الناس من يحرص على جمعه بشتى الوسائل مهما كلفه ذلك من وقته وجهده، ومنهم من تأتيه الدنيا وهي راغمة دونما تعب ومشقة، وفي كلا الحالين امتحان من الله - عز وجل - لصاحب المال وكيف يواجه هذا المتاع الزائل، وما هو منهجه وأسلوبه في الانتفاع به؟
وفي المال حقوق كثيرة منها: حق الزكاة، وحق الصدقة، وحق النفقة، وحق الرفق بحال الآخرين.
وحق النفقة في المال على نوعين، إما إنفاق في سبيل الله - عز وجل - فهذا مرغب فيه شرعاً قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سورة البقرة.
وإما الإنفاق على نفسك وعلى من تعول ممن جعلهم الله تحت يدك وأمانة في عنقك كالأبويين والزوجة، والأولاد، وكل قريب أنت أولى به من غيرك، وهذا النوع الثاني هو المقصود في هذا الحديث لما له من الأهمية، ولما فيه من التفاوت الكبير بين الناس بين قابض وباسط، وإفراط وتفريط، وإسراف وتقتير، فما المنهج السليم لهذا الإنفاق الذي خاض فيه الكثير؟
لقد اهتم الإسلام بهذا الجانب وجعله جزءاً من أحكامه وتشريعاته، فشريعة الله شريعة العدل والحكمة والوسطية، ولكن واقع الكثير من الناس يخالف هذا المنهج الإلهي سعياً وراء العادات والتقاليد، دون أن يفكر في النتائج والناظر في حال المجتمع اليوم يحير فريقين من الناس.
الأول: فريق جعل شعاره في الإنفاق هو الإسراف في كل شيء، في المأكل والمشرب والمركب، والملبس، حتى في الأمور الكمالية المنزلية إما جهلا بالحكم أو تقليداً أعمى، وهذا هو الأقرب.
والمجالات التي يحصل فيها الإسراف في النفقة كثيرة وظاهرة عند كثير من الأسر سواء أكان رب الأسرة من الموسرين أم من ذوي الدخل المحدود فالنتيجة واحدة وهو الإسراف المذموم في كتاب الله - عز وجل - قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وقال جل شأنه {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}.
ولا سيما إن كان من ذوي الدخل المحدود فإضافة إلى ذلك تجده قد شغل ذمته بعدد من الديون دونما حاجة أو ضرورة، ولا يخفى خطر شغل الذمة بالدين.
وإذا كان الإسراف منهياً عنه في الأكل والشرب وهما من ضرورات الحياة فغيرهما من باب أولى، وإني لأعجب كيف تتحكم العادة والتقاليد في نفوس الكثير من الناس متناسين المنهج الرباني الذي رسمه الله لعباده وهو العالم بمصالح العباد.
أضف إلى ذلك، إن مما يدعو البعض إلى تحمل التكاليف المالية الباهظة في النفقة غير الواجبة إنما هو حب الظهور والفخر والخيلاء أمام الآخرين، وهذا مرض اجتماعي خطير، ويظهر هذا الأمر جلياً في بعض المظاهر الاجتماعية كما في حفلات الأعراس، التي تجمع بين المضحك والخيال والتنافس في حطام الدنيا، فمن النساء من تثقل كاهل زوجها بمصاريف تتجاوز حد الإسراف إلى التبذير في تلك الحفلات من أجل إظهار التحدي لزميلاتها، وإحياء لعامل التنافس المذموم، وهي لا تعلم المسكينة أنها بعملها هذا جلبت الخزي والعار على نفسها أولا ثم على زوجها المسكين الذي راح ضحية العادات والتقاليد أو ما يسمى بالموضة الحديثة، وهو يندب حظه ويواري وجهه عن أصحاب الديون الذين يلاحقونه بأبصارهم كل لحظة، كل ذلك نتيجة هذا التقليد الأعمى، وحب الظهور، والفخر والغرور بالنفس، فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه، ومن تواضع لله رفعه، والقناعة كنز لا يفنى، إلى متى ونساؤنا وشبابنا وبناتنا يعانون من هذه المدنية الزائفة - إن صح التعبير - وشريعتنا الإسلامية لا تكلف العباد إلا ما يطيقون قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فكيف بهذا العبد المسكين يكلف نفسه مالا يطيق حتى يقع في هم الدين ؟، بل ربما يجره إسرافه على نفسه وأولاده مع قلة ذات اليد إلى الكسب الحرام من أجل الحصول على النقد.. وإني لأعجب أيضا من طائفة من الناس تهتم بالكماليات اهتماماً كبيراً خاصة ما يتعلق بأثاث المنزل الذي اصبح التنافس فيه على قدم وساق، وكذلك التفاخر والتنافس في البناء الذي يكلف أموالاً طائلة.ومن العادات التي نراها في مجتمعنا عند بعض الأسر المبالغة في الإهداء إلى حد تكون فيه الهدية مقدمة على المستلزمات الضرورية، واضرب لك أمثلة على الإسراف في تلك الكماليات عند ذوي الدخل المحدود:
1 - رجل مرتبه الشهري لا يتجاوز ثلاثة آلاف ريال، وسكنه بالإيجار وعنده عدد من البنين والبنات، ومطالب بسداد ديون ومع ذلك تجده في المناسبات يلبس هو وأولاده أفخر اللباس، ويحلي نساءه بالذهب، ويشتري ما غلا ثمنه من العطور، ويصنع الولائم الباهظة، أليس سداد دينه أولى من ذلك كله، ولو ادخر هذه المبالغ لدفع الإيجار السنوي لكان أجدر به.
2 - وآخر من ذوي الدخل المحدود جداً يزور أحد أقاربه في المستشفى ويأخذ معه باقة ورد بمبلغ (150) مائة وخمسين ريال.
3- وثالث في مثل حالهم يقيم حفل زفاف ابنته في قصر أفراح بمبلغ (25000) خمسة وعشرين ألف ريال في الليلة.
والحالات المشابهة لهذا كثيرة فمتى يعي المجتمع دوره في الحياة ويعرف السبيل الأمثل في الإنفاق وهو الطريق الوسط المناسب للحال ماديا واجتماعياً.
الثاني: وهو المسمى بالمحروم الذي أنعم الله عليه وآتاه من فضله ولا ترى أثر هذه النعمة بداية على نفسه ولا على أولاده ومن تحت يده والله تعالى يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، فهو عكس الفريق الأول وهو الرجل الشحيح البخيل الذي يقتر على أولاده وأهل بيته في النفقة فلا يعطيهم ما يكفيهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم).
وقد اشتكت امرأة أبي سفيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت (يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وبني، أفآخذ من ماله بدون علمه؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -، خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف).
وهذا يدلنا على انه لا يجوز للرجل أن يقتر على أولاده فب نفقتهم الواجبة عليه شرعاً فكل راع مسؤول عما استرعاه حفظ أم ضيع، ولما استأذن عبد الله بن عمرو بن العاص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية بأكثر من الثلث قال - عليه الصلاة والسلام - (الثلث والثلث كثير إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، ولا شك أن المال متاع الحياة، لكنه متاع في حدود المأذون فيه شرعاً فلا إفراط ولا تفريط.
ومن العجيب أن بعض الآباء لا يعطي أسرته قدر حاجتها من النفقة مع قدرته على ذلك، ويصرف المال في أمور أخرى غير مكلف بها شرعاً بل ربما يكون في أمور غير مباحة، فهذا أشد خطراً من سابقه لأنه جمع بين محذورين: الشح في النفقة، وتبذير المال فيما ليس فيه مصلحة، ولو علم أن نفقته على قربية صدقة وصلة وهو مأجور عليها لكنه لم يفعل الواجب ولم يسلم من المحذور، بل تجده يعنف ويوبخ إذا طلب منه أحد أولاده مصروفه اليومي أو طلبت منه زوجته نفقتها الواجبة عليه شرعاً، ولا ينفق إلا وهو كاره، مع العلم أن النفقة على زوجته وأولاده من الحقوق الشرعية الواجبة في ماله.
* المنهج الإسلامي في المصروف الأسري:
لقد اهتم الإسلام بالمال وبين ما له وما عليه، وما يجب على صاحبه نحوه، ووضع التدابير الواقية لحفظه وصيانته من عبث العابثين ومن أحكام المال التي شرعها الإسلام، توجيه المسلم إلى الطريق الأمثل في إنفاقه بعد أن منَّ الله عليه بجمعه بالطرق المشروعة قال تعالى مبينا ذلك {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} سورة الإسراء.
فنهى الله عن التقتير في صدر هذه الآية ونهى عن الإسراف في آخرها ليبين أن المطلوب هو ما بين ذلك وهو الوسط بين التقتير والإسراف، وهو المسمى شرعاً الإنفاق بالمعروف أو حسب الحاجة، ولذا امتدح الله من سلك هذا المسلك بقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} سورة الفرقان.
نعم إن الواجب على المسلم أن يبذل النفقة الواجبة عليه لأسرته طيبة بها نفسه وعلى حسب الحاجة المتعارف عليها بين الناس ويسميها الفقهاء (نفقة المثل) أي النفقة التي تصلح لمن هم في مثل حالهم اجتماعياً ومادياً.
كما أن الاعتدال في النفقة يعد من شكر النعمة، وشكرا المنعم بها، ويحقق المساواة بين الناس في حدود الحاجة، لأن ما زاد عنها هو الإسراف المذموم، وما نقص عنها هو التقتير المنهي عنه.
ذلك لأن المال أمانة في يد صاحبه والله سائله يوم القيامة عن هذا المال ووجوه إنفاقه كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ذكر منها: وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟).
أخي المسلم.. إن عليك لنفسك حقا ولولدك حقاً ولأهل بيتك حقاً ولقريبك حقا فأعط كل ذي حق حقه ولا تبخس الناس أشياءهم ولا تسرف إن الله لا يحب المسرفين.
وفي الختام اليك الضوابط الشرعية في حال الإنفاق:
1 - أن يكون المال من كسب حلال، ففي الحديث (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).
2 - أن يكون الإنفاق في الوجوه المباحة شرعاً فلا تستعن بنعم الله على معاصيه.
3 - بذل النفقة الواجبة لأصحابها حسب الحاجة قال تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا}، وقال سبحانه: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}، وقال جل شأنه: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة.
4 - الاعتدال في النفقة وعدم التعدي فيها قال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) سورة الإسراء.
5 - مراعاة حال الزوج في يسره وعسره وعدم تكليفه ما لا يطاق قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} سورة الطلاق.
6 - مراعاة حال أفراد الأسرة في النفقة ولا تلزم المساواة بينهم فيها وإنما كل على حسب حاله لأنها نفقة واجبة تقدر بحسب الحاجة، بخلاف العطية التي يجب فيها العدل بين الأولاد.
هذه أهم الضوابط الشرعية االتي يجب على رب الأسرة مراعاتها في باب النفقة والمصروف الأسري.

(*) وكيل المعهد العالي للقضاء.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved