Friday 21st October,200512076العددالجمعة 18 ,رمضان 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "أفاق اسلامية"

مؤكدا أن للخطيب دورا في التحذير من أسباب الشر والفساد.. د. سعد البريك لـ( الجزيرة ):مؤكدا أن للخطيب دورا في التحذير من أسباب الشر والفساد.. د. سعد البريك لـ( الجزيرة ):
خطبة الجمعة أعظم الوسائل الإعلامية في الدعوة والتأثير حتى في زمن العولمة

* الرياض - خاص - (الجزيرة):
أكد فضيلة الشيخ الدكتور سعد بن عبدالله البريك الداعية المعروف أن المساجد ليست للعبادة فقط، ولا هي للرجال دون النساء كما يتصور البعض، بل إن المساجد مقرات للدعوة، وأماكن للتشاور والتخطيط ومحلات للقضاء والإفتاء، ومراكز لإدارة أمور الدولة، ولذلك كان الاهتمام عبر التاريخ الإسلامي منذ عهد الخلفاء الراشدين حتى الآن ببناء المساجد.
وقال د. سعد البريك: إن للمسجد رسالة مؤثرة في توجيه المرأة ودعوتها وتعليمها، فكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعظ النساء في المساجد، ويعلمهن الأحكام، مناشدا في حواره مع (الجزيرة) بضرورة الاهتمام بخطبة الجمعة، لأنها أكثر وسائل التأثير في الناس، وطالب الخطباء بالإيجاز وتفعيل الأداء، وأكد البريك على أهمية دور المسجد في تحقيق التآلف والتآخي والتعاون بين الناس.
وفيما يلي نص اللقاء مع فضيلته:
*******
* نريد من فضيلتكم إعطاء القراء نبذة عن أهمية المساجد في الإسلام؟
- المساجد هي بيوت الله عز وجل في الأرض، أطهر الأماكن وأنقى البقاع، فيها تنزل الرحمات وتهبط الملائكة، وتحل السكينة، تربت في أحضانها أجيال، تعلمت توحيد الله، نشأت على إخلاص العبادة لله، محبة وإنابة ورغبة ورهبة، وخوفا ورجاء وإخلاصا وتوكلا وذلا وتعبدا.
وللمسجد في الإسلام أهمية كبيرة ومكانة عظيمة، فعندما قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- المدينة شرع ببناء اللبنات الأولى لدولة الإسلام، فكان أول ما بدأ به بناء المسجد.ولأهمية المساجد وفضلها نسبها إليه عز وجل فشرفها وعظمها فقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}.
ويكفي في فضل المساجد أن الله تعالى رفعها وأعظم قدرها فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}
قال العلامة عبدالرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: {أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}؛ هذان مجموع أحكام المساجد، فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسات والأذى، وصونها من المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسات، وعن الكافر، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله. {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}يدخل في ذلك الصلاة كلها، فرضها، ونفلها، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، وغيره من أنواع الذكر، وتعلم العلم وتعليمه، والمذاكرة فيها، والاعتكاف، وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد، ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين: عمارة بنيان، وصيانة لها، وعمارة بذكر اسم الله من الصلاة وغيرها، وهذا أشرف القسمين).
ومن فضلها أن من بنى لله مسجدا بنى الله له في الجنة منزلا. عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: (من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة). رواه مسلم.
ومن فضلها أنها أحب البقاع إلى الله تعالى. عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: (أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها). رواه مسلم.
ومن فضلها أن من أحبها وتعلق قلبه بها نجا من أهوال يوم القيامة. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد. ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه). رواه البخاري.
* هناك من يرى أن المساجد هي أماكن للعبادة فقط، ويعزلونها عن التأثير في مجريات الحياة الأخرى. ما رأيكم؟
- هذا غير صحيح، فقد شهد التاريخ أن مساجد المسلمين لم تكن أماكن للعبادة فحسب، بل كان المسجد مقرا للدعوة، ومكانا للتشاور والتخطيط، ومحلا للقضاء والإفتاء ومركز إدارة أمور الدولة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: (وكانت المساجد مجامع الأمة ومواضع الأئمة. وقد أسس- صلى الله عليه وسلم- مسجده المبارك على التقوى، فكانت فيه الصلاة والقراءة والذكر وتعليم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون كلما حزبهم أمر من أمر دينهم ودنياهم) (مجموع الفتاوى 35-39).
ولذا، اهتم الصحابة- رضي الله عنهم- ومن بعدهم من المسلمين إلى يومنا هذا، بتشييد المساجد وعمارتها بالصلاة وغيرها من العبادات، اقتداء وامتثالا لأمره- صلى الله عليه وسلم-.
كتب عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو على البصرة يأمره أن يتخذ مسجدا للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع، وكتب بمثل ذلك إلى سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- وهو وال على الكوفة، وإلى عمرو بن العاص- رضي الله عنه- والي مصر.
والخلاصة أن أول ما يعنى به المسلمون في فتوحاتهم هو أن يقيموا مسجدا جامعا لأمور الدين والدولة، يحرصون على أن يكون موقعه في قلب التجمع العمراني، لكونه مركز ترابط بين أفراد المجتمع بعضهم ببعض.
* ما هي الرسالة الأبرز التي يؤديها المسجد؟
- دور المسجد كبير في مختلف مجالات الحياة، لكن أبرز ما يقوم به هو أنه يؤدي رسالة دعوية وتربوية هامة. حيث كان- صلى الله عليه وسلم- يعلم ويبين أصول العقيدة والإسلام في المسجد، عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال: لهم: أيكم محمد؟. -صلى الله عليه وسلم-؛ والنبي- صلى الله عليه وسلم- متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: ابن عبدالمطلب؟ فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: (قد أجبتك) فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك. قال- صلى الله عليه وسلم- : (سل عما بدا لك) فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: (اللهم نعم) قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: (اللهم نعم) قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: (اللهم نعم) قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (اللهم نعم) فقال الرجل: آمنت بما جئت به. وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر. رواه البخاري.
ومن المسجد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يرسل الرسل للدعوة إلى الإسلام ويكتب إلى الأمراء والملوك، مثل كسرى وهرقل والنجاشي ملك الحبشة الذي أسلم ومات على الإسلام وصلى عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- صلاة الغائب.
وبعث- صلى الله عليه وسلم- العلاء بن الحضرمي- رضي الله عنه- إلى المنذر بن ساوي العبدي ملك البحرين يدعوه إلى الإسلام، وكان ملكا رشيدا فلبى دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم-، وأسلم معه عدد كبير من رعيته.
وبعث عمرو بن العاص- رضي الله عنه- إلى جيفر بن جلندي الأزدي ملك عمان يدعوه إلى الإسلام، فقرأ رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- ودفعها إلى أخيه عبد، ومكث عمرو- رضي الله عنه- حتى أسلما، وأسلم معهما معظم قومهما.
وفي المسجد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يستقبل وفود القبائل التي تأتي مبايعة على الإسلام أو للسؤال عنه، فعندما قدم وفد قبيلة ثقيف برئاسة عبد ياليل بن عمرو؛ أراد المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- أن يستضيفهم؛ لكونهم من قومه، فأذن له النبي- صلى الله عليه وسلم- بذلك وأمره بأن ينزل لهم منزلا حيث يسمعون القرآن، وضربت لهم قبة خاصة في ناحية المسجد واستمعوا القرآن ورأوا شعائر الإسلام وصلاة المسلمين، فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم.
وممن وفدوا على الرسول- صلى الله عليه وسلم- في مسجده وفد عبد القيس، وقدم معهم بعض النصارى ومنهم الجارود بن بشر بن المعلي، وكان نصرانيا فأسلم ومن معه من النصارى، وكذلك وفد الطيء قدموا على النبي- صلى الله عليه وسلم- برئاسة زعيمهم زيد الخيل وأسلموا فسماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زيد الخير.
وقصة ربط ثمامة بن أثال- رضي الله عنه- في المسجد ليسمع القرآن معروفة، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: (ماذا عندك يا ثمامة)؟ فقال: عندي يا محمد؛ إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى كان بعد الغد، فقال: (ما عندك يا ثمامة؟) قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى كان من الغد، فقال: (ماذا عندك يا ثمامة)؟. فقال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (أطلقوا ثمامة).
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد! والله! ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي. والله! ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله! ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولا والله! لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
* لم يعرف السلف التعليم الأكاديمي بالمعنى العصري، كيف كانوا يتعلمون، وهل كان للمسجد دور في نشر العلم؟
- نعم، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يحث الصحابة- رضي الله عنهم- على ارتياد المسجد لتعلم كتاب الله ومدارسته. عن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصفة، فقال: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم)؟. فقلنا: يا رسول الله! نحب ذلك. قال: (أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل). رواه مسلم.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: (من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو يعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله). أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم، وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). رواه مسلم.
وسار الصحابة- رضي الله عنهم- على نهجه- صلى الله عليه وسلم- بتعليم الناس وتفقيههم، وكانوا يحضرون المساجد، ويلتف المسلمون حولهم، ويجيبون عن الأسئلة الموجهة إليهم بما حفظوه وفهموه عن النبي- صلى الله عليه وسلم-.
عن أنس- رضي الله عنه- قال: كانوا إذا صلوا الغداة قعدوا حلقا حلقا يقرءون القرآن، ويتعلمون الفرائض، والسنن، ويذكرون الله تعالى.
وكذلك نهج التابعون مسلكهم، أمثال الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وفيه جلس المحدثون لتبليغ حديث النبي- صلى الله عليه وسلم- وشرحه، وفيه عقدت حلق العلم والفقه.
وإلى يومنا هذا لم يزل المسجد يؤدي دوره التعليمي المطلوب، فتعقد فيه الدورات القرآنية، وحلقات العلم، ويكفيه فخرا أنه كان مهبطا لوحي السماء على خير الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعا.
* نلاحظ أن كثرة مشاغل الحياة وتشعب همومها أدت إلى انصراف كل إلى خاصة نفسه مما أدى إلى حدوث بعد وجفاء بين الجيران وأبناء الحي الواحد. كيف ترون رسالة المسجد في لم الشمل والتآلف بين المصلين؟
- هذا السؤال يقودنا إلى بيان أهمية رسالة المسجد الاجتماعية، هذه الرسالة فريدة، لم تأت بمثلها مراكز الأبحاث الاجتماعية، ولا الدراسات العصرية، لأنها تذيب الفوارق وتعزز روح الإخاء والتعاون والتعاطف والتكاتف والتكافل حينما يقف المصلون بين يدي الله تعالى في صفوف متراصة على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعمارهم، الكبير بجانب الصغير والغني مع الفقير، والعالم بجوار العامل، والتاجر بجوار الفلاح، والراعي بجوار الرعية، الجميع سواسية لا فضل لهذا على ذاك ولا لأبيض على الأسود إلا بالتقوى.
فبركة الجماعة تتمثل في التعارف والتآلف والتعاون على البر والتقوى والتكافل بين أفراد المجتمع، بالدعوة إلى ألوان من النشاط الخيري المتجدد، الذي يشق قناة تتدفق بالعطاء والبر والمودة، تصل بين أهل الحي لاجتثاث عوامل القلق والحقد والبغضاء في المجتمع وتحقيق الروابط الإيجابية بين أفراده ليكون كالجسد الواحد كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). رواه مسلم.
وفي المسجد يسأل الأخ عن أحوال أخيه، ويتلمس الجار حاجة جاره، فإذا فقده سأل عنه، وإذا مرض زاره، وإذا وقعت خصومة أو شحناء بينه وبين أخيه سعت الجماعة في فض النزاع وإصلاح ذات البين، وإذا نزلت به فاقة أو حاجة سعى الكل في إعانته كل بما يستطيع، فهذا يوجه ويرشد، وهذا يساعد بماله وذاك برأيه.
كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه مالا جمعه في المسجد، فيوزعه على الفقراء والمحتاجين فعن أنس- رضي الله عنه- قال: أتي النبي- صلى الله عليه وسلم- بمال من البحرين- فقال: (انثروه في المسجد)، وكان أكثر مال أتي به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدا إلا أعطاه. رواه البخاري.
* هل المساجد بنيت للرجال للانتفاع بها، أم للمرأة مكان؟
- لا شك في أن للمسجد رسالة مؤثرة في توجيه المرأة ودعوتها وتعليمها، فكان- صلى الله عليه وسلم- يعظ النساء في المسجد ويعلمهن الأحكام، وجعل لهن يوما في الأسبوع، وكن يشهدن الجمع والجماعات والأعياد والدروس والخطب فيفقهن المسائل ويسمعن التوجيهات، ويحفظن القرآن.
عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان- رضي الله عنها- قالت: (ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}إلا من وراء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بها الصبح). رواه النسائي. وفي رواية: (حفظت وقرأت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}من في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس). رواه ابن خزيمة.
* هل هناك أدوار أخرى للمسجد في الحياة العامة؟
- نعم، فالمسجد هو دار القضاء وإقامة العدل والإنصاف، بوب البخاري في صحيحه: (باب من قضى ولاعن في المسجد) ثم قال: ولاعن عمر عند منبر النبي- صلى الله عليه وسلم-. وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد، وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين عند المنبر، وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد). ثم قال: (باب من حكم في المسجد) وساق حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-، قال: أتى رجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربعا، قال: (أبك جنون)؟ قال: لا. قال: (اذهبوا فارجموه).
وكان الخلفاء الراشدون- رضي الله عنهم- بعده- صلى الله عليه وسلم- وبقية الصحابة- رضي الله عنهم- يفتون ويقضون في المساجد.
والمسجد مكان الإصلاح بين المتخاصمين:
عن كعب بن مالك- رضي الله عنه-، أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهو في بيته فخرج إليهما، حتى كشف سجف حجرته فنادى: (يا كعب) قال: لبيك يا رسول الله، قال: (ضع من دينك هذا) وأومأ إليه، أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله. قال: (قم فاقضه).
* كيف ترون تأثير خطبة الجمعة في الناس؟
- خطبة الجمعة من أعظم وسائل المسجد في الدعوة والتأثير، لا سيما في زماننا هذا، الذي يشهد ثورة عارمة في تقنيات الاتصال ووسائل الإعلام وأدوات التأثير، ولأهمية خطبة الجمعة أوجب الله على المسلم المكلف شهودها. فهي شعيرة عظيمة الشأن جليلة المقاصد عميقة التأثير، في كل أسبوع مرة، ولهذا التكرار أثر في الدعوة والتوعية والتذكير ومعالجة ما يستجد من أمر وما يطرأ من طوارئ.
ولا تزال خطبة الجمعة من أكثر الوسائل فعالية في نشر الهدى والخير، وبث الفكر الصحيح، ومخاطبة مختلف الفئات والطبقات والمستويات.
فعلى سبيل المثال أجري بحث عن أثر خطبة الجمعة في مصر طبقا لموقع (islam door) على الإنترنت أفاد بأن 78% من العينة يتأثرون دائما بما يقوله الخطيب، وتم الاتفاق مع أحد الخطباء على أن يخطب عن الربا وأجري استفتاء قبل الخطبة وبعدها، فكانت النتيجة أن 85% كانوا يعرفون المفهوم الصحيح عن الربا، وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 97%، وأن 33% كانوا يعرفون عقوبة الربا فارتفعت النسبة إلى 94% بعد الخطبة. وأن 50% كانوا يفضلون الاستثمار في البنوك الإسلامية فارتفعت النسبة إلى 64%، وأن 34% سينصحون الآخرين بترك الربا والتوبة من أكله، وأن 31% سيقاومون أي عمل ربوي.
* كيف تحقق الخطبة أثرها؟
- حتى يكون للخطبة دورها في التأثير والوعظ، شرع النبي- صلى الله عليه وسلم- اختصارها وتقليلها حتى يعقل السامع كلام خطيبه، وتعظم هيبة الدين في النفوس، وتجمع همة الحاضرين لأداء الصلاة بروح خاشعة وألباب واعية وقلوب داعية. عن عمار بن ياسر- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة). رواه أحمد ومسلم.
وكانت سنته- صلى الله عليه وسلم- العملية تقصير الخطبة. عن الحكم بن حزن الكلفي- رضي الله عنه- قال: قدمت إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- سابع سبعة أو تاسع تسعة، فلبثنا عنده أياما شهدنا فيها الجمعة، فقام رسول الله متوكئا على قوس، أو قال: على عصا. فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: (أيها الناس، إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كل ما أمرتم، ولكن سددوا وأبشروا). رواه أحمد وأبو داود.
فالخطبة تقوم على الإيجاز وعلى الفكرة السريعة الخطابية والإقناع ببراهين الوحي من الكتاب والسنة، وهي أشد تأثيرا وحكمة وحكما من براهين المنطق المجرد.
كما حرم- صلى الله عليه وسلم- الكلام أثناء الخطبة حتى تكون الأفئدة واعية والأذهان حاضرة تعقل ما تسمع وتعي ما يقال. عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت). رواه البخاري ومسلم، وعن أبي بن كعب- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم فذكرنا بأيام الله وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال: متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلى الآن، فأشار إليه أن اسكت فلما انصرفوا قال: سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني فقال: أبي: ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت. فذهب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له وأخبره بالذي قال أبي فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (صدق أبي). رواه ابن ماجة وهو صحيح.
* هل للخطيب دور في تفعيل أثر الخطبة؟
- وإن مما لا شك فيه أن مهمة الخطيب مهمة جليلة تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي والتحضير الجيد للخطبة متسلحا بتقوى الله تعالى وإخلاص النية له مع صواب الفكر وحسن التعبير وطلاقة اللسان وجودة الإلقاء، لأنه يحدث الناس بما يمس حياتهم وواقعهم وما يعالج مشاكلهم المعاصرة دون أن ينقطع عن ماضيهم، ثم يردهم إلى قواعد الدين ومبادئه، ويبصرهم بحكمه وأحكامه برفق، ويعرفهم آثار التقوى والصلاح في الآخرة والأولى، ويذكر ما يعين على إطفاء ثورة الغريزة، ويخفض حدة الأحقاد، ويشيع روح المودة، ويبث الإخلاص والتعاون، كل ذلك بحضور انفعال وانفعال روح، ليكون ذلك أوقع في النفوس وأقرب للتأثير في السامعين، روى مسلم عن جابر- رضي الله عنه- قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم.
فخطيب المسجد أشد فاعلية وتأثيرا في الشارع من كثير من أجهزة التأثير في المجتمع، لأنه بفصاحته ونصحه وإخلاصه وتجرده ينفذ إلى قلوب المصلين، والكلام إذا خرج من القلب ينفذ إلى القلب، فيعالج القضايا الشائكة ويحذر من أسباب الشر والفساد، ويحث على تقوى الله وخشيته ويرغب في حب الحق وقبول العدل ويربي النفوس على ما يرضي الله تعالى.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved