يهتم الآباء بأبنائهم، توجيهاً وإرشاداً ونصحاً، لأنهم ثمرة قلوبهم، ومناط فخرهم، إذا كانوا نجباء وصالحين، ونرى منهج ذلك في القرآن الكريم، فهذا أبو الأنبياء إبراهيم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}(35)سورة إبراهيم, وهذا نوح يدافع عن ابنه ليكون من الناجين من الغرق، ظاناً أنه قد شمله وعد الله بالنجاة، وهذا لقمان الحكيم ينصح ابنه بما فيه فلاحه وصلاحه.. وغير ذلك كثير. ونختار في هذا المجال، واحدة من النصائح، ذكرها ابن حبّان البستيّ المتوفى عام 354هـ في كتابه روضة العقلاء: وهي وصيّة الخطّاب لابنه فقال: يا بنيّ عليك بتقوى الله وطاعته، وتجنّب محارمه باتّباع سنّته، ومعالمه حتى تصحّ عيوبك، وتقرّ عينك، فإنها لا تخفى على الله خافية، وإني قد وسمت لك وسْماً، ووضعت لك رسْماً، إن أنت حفظته ووعيته، وعملت به ملأت أعين الملوك، وانقاد لك به الصّعلوك، ولم تزل مرتجى مشرّفاً يُحتاج إليك، ويُرْغب إلى ما في يديك، فأطع أباك، واقتصر على وصيّة أبيك، وفرّغ لذلك ذهنك، واشغل به قلبك ولبّك، وإيّاك وهذر الكلام، وكثرة الضّحك، والمزاح، ومهازلة الإخوان، فإن ذلك يذهب إليها، ويوقع الشّحناء, وعليك بالرزانة والتّوقّر، من غير كبر يوصف منك، ولاخيلاء تحكي عنك، والق صديقك، وعدوك بوجه الرضا، وكفّ الأذى، من غير ذلّة لهم ولا هيبة منهم، وكن في جميع أمورك في أوسطها، فإن خير الأمور أوساطها، وقلّل الكلام، وأفش السّلام، وأمشِ متمكّناً قصداً، ولا تخطّ برجلك، ولا تسحب ذيلك، ولا تلو عنقك ولا رداءك، ولا تنظر في عطفك، ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات، ولا تتّخذ السوق مجلساً، ولا الحوانيت متحدّثاً.ولا تكثر المراء، ولا تنازع السّفهاء، فإن تكلّمت فاختصر، وإن مزحت فاقتصر، وإذا جلست فتربع، وتحفّظ من تشبيك أصابعك وتفقيعها، والعبث بلحيتك وخاتمك، وذؤابة سيفك، وتخليل أسنانك، وإدخال يدك في أنفك، وكثرة طرد الذباب عنك، وكثرة التّثاءب والتّمطّي وأشباه ذلك مما يستخفّه الناس، ويفتخرون به فيك. وليكن مجلسك هادياً، وحديثك مقسوماً، وأصغ إلى الكلام الحسن ممّن حدّثك، بغير إظهار عجب منك، ولا مسألة عادة، وغضّ عن الفكاهات، من المضاحك والحكايات، ولا تحدّث عن إعجابك بولدك ولا جاريتك، ولا عن فرسك ولا عن سيفك، وإيّاك وأحاديث الرّؤيا، فإنك إن أظهرت عجباً بشيء منها طمع فيها السّفهاء، فولّدوا لك الأحلام، واغتمزوا في عقلك، ولا تصنّع تصنّع المرأة، ولا تبذّل تبذّل العبد، ولا تنتف لحيتك ولا تبطنها، وتوقّ كثرة الحفّ، ونتف الشّيب، وكثرة الكحل، والإسراف في الدّهن، وليكن كحلك غبّاً. ولا تلحّ في الحاجات، ولا تخشع في الطّلبات، ولا تُعلِّم أهلك وولدك - فضلاً عن غيرهم - عدد مالك، فإنهم إن رأوه كثيراً لم تبلغ به رضاهم، وإن رأوه قليلاً هُنت عليهم، وأخفهم في غير عنف، ولِن لهم في غير ضعف، ولا تهازل أمتك وخادمك، وإذا خاصمت فتوقّر، وتحفّظ من جهلك، وتجنّب عن عجلتك، وتفكّر في حجّتك، وأرِ الحاكم شيئاً من حلمك، ولا تكثر الإشارة بيدك وأنت تتحدّث، ولا تحفّز على ركبتيك، وتوقّ حمرة الوجه، وعرق الجبين. وإن سُفِه عليك فاحلم، وإذا هدأ غضبك فتكلّم، وأكرِم عرضك، وألقِ الفضول عنك، وإن قرّبك سلطان فكن منه على حدّ السنان، وإن استرسل إليك فلا تأمن من انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصّبي، وكلّمه بما يشتهي، ولا يحملنّك ما ترى من إلطافه إليك، وخاصّته بك، أن تدخل بينه وبين أيّ أحد من ولده، فأهله وحشمه، وإن كان كذلك منك مستمعاً، وللقول منك مطيعاً، فإن سقْطة الداخل بين الملك وأهله صرْعَة لا تنهض، وزلّة لا تّقال. وإذا وعدت فحقّق، وإذا حدّثت فأصدق، ولا تجهز بمنطقك كمنازع الأصمّ، ولا تخافت به كتخافت الأخرس، وتخيّر محاسن القول بالحديث المقبول، وإذا حدّثت بسماع فانسبه إلى أهله، وإيّاك الأحاديث العابرة المشنّعة التي تنكرها القلوب، وتقف لها الجلود، وإيّاك ومضعّف اللكلام مثل: نعم نعم.. ولا ولا، وعجّل عجّل وما أشبه ذلك. وإذا توضأت فأجدْ عرك كفيك، وليكنْ وضعك الأسنان في فيك، كفعلك بالسواك، ولا تنخّع في الطّسْت، وليكن طرحك الماء من فيك مسترسلاً، ولا تمجّ فتنضح على أقرب جلسائك، ولا تعضّ نصف اللّقمة، ثم تعيد ما بقى منها، فإن ذلك مكرمة، ولا تكثر الاستسقاء على مائدة الملك، ولا تعبث بالعظم، ولا تعبْ شيئاً مما يقرّب إليك على مائدة: بقلة خلّ أو تابل أو عسل، فإن السّحابة قد صيّرت لنفسها مهابة. ولا تمسك إمساك المثبور، ولا تبذّر تبذير السّفيه المغرور، وأعرف في مالك واجب الحقوق، وحرمة الصديق، واستغن عن الناس، يحتاجوا إليك، وأعلم أن الجشع يدعو إلى الطبع، والرغبة كما قيل تدقّ الرّقبة، وربّ أكلة تمنع أكلات، والتّعفّف مال جسيم، وخلق كريم، ومعرفة الرّجل قدره تشرف ذكره، ومن تصدى القدر, هوى في بعيد القعر، والصّدق زين، والكذب شين، ومعاداة الحليم، خير من مصادقة الأحمق، ولزوم الكريم على الهوان، خير من صحبة اللئيم على الإحسان، وزوجة السوء الداء العضال، ونكاح العجوز يذهب بماء الوجه، وطاعة النساء تزري بالعقلاء. وتشبّه بأهل العقل تكن منهم، وتصنّع للشرّف تدركه، وأعلم أن كل امرئ حيث يضع نفسه، وإنّما ينسب الصّانع إلى صناعته، والمرء يعرف بقرينه، وإياك وإخوان السوء، فإنّهم يخونون من رافقهم، ويُحزِنُون من صادقهم، وقُربَهم أعدى من الجرب، ورفضهم من استكمال الأدب، واستخفار المستجير لؤم، والعجلة شئوم، وسوء التدبير وهن. والإخوان إثنان: فمحافظ عليك عند البلاء، وصديق له في الرخاء، فاحفظ صديق البلاء، وتجنّب صديق العافية، فإنهم أعدى الأعداء. وتوقّ الفساد، وإن كنت في بلاد الأعادي، ولا تفرش عرضك لمن دونك، ولا تجعل مالك أكرم عليكم من عرضك، ولا تكثر الكلام، فتثقل على الأقوام، وامنح البشر جليسك، والقبول لمن لاقاك. وإياك وكثرة التبريق والتزليق، فإن ظاهر ذلك ينسب إلى التأنيث، وإياك والتّصنع في مغازلة النساء، وكن متقرّباً متعزّزاً، منتهزاً في فرصتك، رفيقاً في حاجتك، متثبتاً في حملتك، والبس لكل دهر ثيابه، ومع كل قوم شكلهم، واحذر ما يلزمك اللائمة في آخرتك، ولا تعجل في أمرٍ حتى تنظر في عاقبته، ولا ترد حتى ترى وجه المصدر (198 - 201). نكتفي بهذا القدر من هذه الوصية، ذات المعاني الجزلة، والآداب الرّفيعة، التي محض بها ابنه، لكي يرتفع بذلك قدره، ويعلو عند الناس ذكره. والإمام الشافعي رحمه الله، فيما نسب إليه، يؤكد على أهمية نجابة الأولاد، واعتزاز الآباء بذلك، ببيت شعر:
نِعَمُ الإله على العباد كثيرة وأجلّهن نجابة الأولاد |
وليت كثير من آباء هذا الزمان، الذين غفلوا عن أولادهم، أن يأخذوا من أمثال هذه الوصايا التي اهتم بها من قبلنا منهجاً توجيهياً، ونصائح جاهزة ليقدّموها لأبنائهم، ليتأدب الجميع بذلك، حتى يتكوّن المجتمع الصالح، ويسلم الشباب من التقليد، والانقياد للأفكار الضالة التي تضر بالأمة، ويفرح بها الأعداء. زوال النعم: يقول الشاعر وينسب هذا البيت للإمام الشافعي رحمه الله:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النّعم |
وإدامة النعمة يتمّ بشكرها، والعرفان لله سبحانه بالفضل، ويضرب المسعودي في كتابه التاريخي مروج الذهب: بما وصلت إليه (حُرقة بنت النّعمان) من نعمة وعزّ ثم زالت، فقد قال: قد كانت حرقة بنت النّعمان بن المنذر، إذا خرجت إلى بيعتها، يفرش لها طريقها بالحرير والديباج، مغشي بالخزّ والوشي، ثم تقبل في جواريها، حتى تصل إلى بيتها وترجع إلى منزلها. فما هلك النعمان نكبها الزمان، فأنزلها من الرّفعة إلى الذّلة، ولما وفد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وفتح القادسية، وصار أميراً عليها، بعد أن هزم الله الفرس وقتل رستم. فأتت حرقة بنت النعمان، في حفدة من قومها وجواريها، وهنّ في زيّها، عليهنّ المسوح والمقطّعات السود، في حالة بؤس مترهّبات، بطلب صلته، فلما وقفن بين يديه، أنكرهنّ سعد فقال: أفيكنّ حرقة؟ قالت: ها أنا ذِه, قال: أنت حرقة؟ قالت: نعم، فما تكرارك في استفهامي؟ ثم قالت: إن الدنيا دار زوال، ولا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالاً، وتعقبهم بعد حال حالاً، كنا ملوك هذا المصر، يجبى لنا خراجه، ويطيعنا أهله، مدى المدة، وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر، وانقضى صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا، وشتّت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد، إنّه ليس يأتي قوماً بمسّرة، إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف |
فبينما هي واقفة بين يدي سعد، إذ دخل عمر بن معد يكرب، وكان زوّاراً لأبيها في الجاهلية، فلما نظر إليها قال: أنتِ حرقة؟ قالت: نعم، قال: فما دهمك فأذهب محمودات شيمك؟ وأين تتابع نعمتك، وسطوات نقمتك؟ فقالت: يا عمر وإن للدهر لسطوات، وعثرات وعبرات، تعثر بالملوك وأبنائهم، فتخفضهم بعد رفعة وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عزة، إن هذا كنّا ننتظره، فلما حل بنا لم ننكره، فأكرمها سعد وأحسن إليها.
مروج الذهب 2: 79 - 80 |