نشرت صحيفة (الغارديان) خبراً مفاده أن بريطانيا والسعودية تجريان مباحثات سرية لعقد صفقة أسلحة مع بريطانيا تبلغ قيمتها 40 ألف مليون جنيه إسترليني (71 ألف مليون دولار) وأن السعودية اشترطت لتمرير الصفقة: إبعاد الفقيه والمسعري من بريطانيا، استئناف الخطوط البريطانية لرحلاتها الجوية إلى السعودية. هذا الخبر الذي نقلته الصحيفة نوع من (التفكير بالتمني) ويحمل في طياته الكثير من الإثارة والتشويق ويرى البعض فيه ابتزازاً سياسياً معتاداً إذا ما أخذ التوقيت بعين الاعتبار. الخبر ليس بغريب على وسائل الإعلام البريطانية التي انتهجت مثل هذا الأسلوب مرات عديدة بقصد الضغط السياسي للوصول إلى غايات سياسية واقتصادية. كما أن الحجج الرسمية التي عادة ما تتذرع بها الحكومة البريطانية بدعاوى استقلال وحرية الإعلام أصبحت أكذوبة لم تعد مقبولة عند البسطاء من العامة. ومن يقرأ كتاب (سلطة بدون مسؤولية) (Power Without Responsibility) يدرك تماماً كيف تستطيع الحكومة اللعب بالوسائل الإعلامية لخدمة أهدافها. لكن توقيت الخبر وانفتاح شهية بريطانيا للفوز بجزء من المداخيل المالية العالية للسعودية بسبب ارتفاع أسعار النفط يجعلنا نجادل أن ذلك هو ما يسمى (التفكير بالتمني). الأماني والآمال حق مشروع للأفراد والمؤسسات والدول أيضا. أن يأمل توني بلير وحزب العمال في الفوز بصفقة تساوي في حجمها ما فازت به مارجريت ثاتشر رئيسة حزب المحافظين في الثمانينات هو غيرة حزبية مشروعة. وأن تأمل الحكومة البريطانية في الفوز بصفقة أو عقد ببلايين الجنيهات والدولارات لتحجيم نسبة البطالة ودعم الاقتصاد البريطاني فذلك غيرة وطنية مشروعة أيضا. لكن، التفكير بالتمني على طريقة الصحيفة البريطانية وأسلوب وسائل الإعلام البريطاني لا يعدو كونه وسيلة رخيصة لا تقضي على الأماني والآمال المشروعة فحسب بل تقوض عقودا من المحاولات الدبلوماسية لإقامة علاقات احترام متبادل. واحد وسبعون ألف مليون دولار مبلغ ضخم بكل المقاييس ولا يمكن، من الناحية المنطقية والعملية، التباحث فيه سراً. هذا المبلغ الكبير لا يشكل قرضاً للحكومة البريطانية، أو لابتياع سندات خزينة، أو ديون يراد سدادها أو إسقاطها، بل عقد مستمر لتوريد أسلحة وطائرات ومعدات مما يتطلب جيشاً من المحامين والخبراء والفنيين. وبالتالي فإن السرية والشروط والعوائق المزعومة أصغر وأسخف من أن تكون عناصر مقايضة لمشروع بهذا الحجم. المعارضون والمنشقون الذين تم إيواؤهم في بريطانيا اتخذوا من الحرية النسبية في بريطانيا وسيلة لتصدير أفكارهم حتى تأثرت بريطانيا ذاتها من تلك الأفكار وقررت الحكومة البريطانية إعادة النظر في بقائهم، ضمن سلسلة من الإجراءات لم تقتصر عليهم وحدهم. ومقولة (لم أمر بها لكنها لم تسؤني) تصف التكتيك البريطاني في استبقاء المعارضين والمنشقين بغية الاستفادة منهم سياسياً في ظروف معينة، حتى أصبح بقاؤهم والاستفادة منهم غير مجديين. كما أن المعارضين والمنشقين قد فقدوا وهجهم وبالتالي أهميتهم وتأثيرهم السياسي، كما يؤكد ذلك بروفيسور بريطاني في العلاقات الدولية.إضافة إلى أن استمرار رعاية بريطانيا للمنشقين وأصحاب الفكر المتطرف قد يعيد ويكرر ما فعلته الولايات المتحدة برعايتها أسامة بن لادن في الثمانينات. من ناحية أخرى، لو تحدث أي من المسؤولين السعوديين في موضوع إيواء بريطانيا للمعارضين فلا يعدو، من وجهة نظرنا، عتباً سياسياً تماماً مثل عتب المسؤولين البريطانيين ودوغلاس هيرد على الولايات المتحدة عند استضافة الأخيرة لبعض رموز الحزب الجمهوري الإيرلندي وجيري آدم تحديدا، الذي كان صوته محرماً في وسائل الإعلام البريطانية المسموعة والمرئية.استئناف الخطوط البريطانية لرحلاتها الجوية إلى السعودية قضية تجارية بحتة وتوقفها يصب في مصلحة الخطوط السعودية (الناقل الوطني) من الناحية المادية، لكن استئناف الرحلات يظهر نوعاً من التضامن في الحملة ضد الإرهاب. الحكومة المصرية، على سبيل المثال، طالبت العديد من الدول بعدم إيقاف رحلاتها إلى شرم الشيخ بعد أحداث العنف الأخيرة، بل إن الحكومة المصرية ذهبت إلى أبعد من ذلك بتوجيهها الدعوة إلى عقد مؤتمر قمة عربي يعقد في شرم الشيخ لإظهار التضامن في رفض العنف والأعمال الإرهابية. وإذا كانت الحكومة البريطانية تجادل بعدم وجوب تغيير السياسة الخارجية بهدف عدم الإذعان للإرهابيين أو الإيحاء بذلك فحري بالحكومة البريطانية ألا تغير سياستها التجارية للغاية نفسها. أما قضايا التشهير بالمسؤولين السعوديين فهو قدر السعودية الذي اعتادت عليه. ولم يعد مستغرباً ذلك الأسلوب من وسائل الإعلام البريطانية كما لم يعد خافي الأهداف الحقيقية المختفية خلف ذلك الهجوم. وحينما كان القصيبي سفيراً للسعودية في بريطانيا انتهج أسلوباً قوياً وحكيماً في التعامل مع تلك الحملات وكيفية مواجهتها. العبث بمواضيع ذات حساسية بالغة في هذا الوقت بالذات قد يعيد إلى الأذهان جولات اللورد كارنجتون قبل أكثر من عقدين لرأب الصدع في العلاقات البريطانية السعودية حينذاك مما فوت على بريطانيا العديد من الفرص التجارية والاستفادة من مشاريع التنمية. لكن التساؤل الحقيقي هو: ماهي أهمية بريطانيا من الناحية الاستراتيجية أو السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية لكي يخطب ودها بمشروع كهذا؟ وهل تشكل بريطانيا رقماً مهماً في المعادلة الدولية أو توازن القوى لكي يتم عقد صفقة معها بهذا الحجم؟ فإذا كان رئيس الوزراء توني بلير يعاني من أزمة خانقة داخل الحزب مما يثير تكهنات بتنازله عن رئاسة الحكومة لقولدن براون. وحزب العمال يعاني أيضا بسبب سياسة بريطانيا الخارجية التي تدار من واشنطن ومشاركة بريطانيا في الحرب على العراق وانعكاسات ذلك على الوضع الداخلي في بريطانيا مما يضعف من شعبية الحزب يوماً بعد يوم. كما أن بريطانيا لم تعد قوة كبرى حتى على المستوى الإقليمي في أوروبا حيث تولت فرنسا وألمانيا عناصر التأثير والقوة في أوروبا الموحدة. أما دولياً، فقد سقطت بريطانيا كلياً مع نهاية عقد السبعينيات حيث تسلمت الولايات المتحدة زمام الأمور الدولية منذ عهد ريغان. وبالتالي فإن بريطانيا، القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، (العظمى) لم تعد عظيمة على الإطلاق في القرن الواحد والعشرين ولم تعد بريطانيا مغرية لأي من الدول إطلاقا لكسب ودها أو الاعتماد على قوتها المتهاوية. ويمكن لأي مراقب أن يقيس حجم القوة السياسية للدول من خلال قدرتها على التأثير في القرار الاستراتيجي الدولي في الحرب والأمن والسلم. ففي مجلس الأمن، على سبيل المثال، يمر القرار، أي قرار، بخطوات متعددة من الفكرة إلى المسودة إلى الطرح إلى التنسيق إلى التمرير وأخيرا إلى إصدار القرار. قدرة الدول على تعطيل أو تجميد أو وقف أو، الأهم من ذلك، عكس القرار هو الذي يحدد حجم التأثير والقوة للدولة. رفض القرار أو عكس القرار الاستراتيجي (Reversal of Strategic Decision ) تقوم به الدول العظمى فقط حيث استطاعت الولايات المتحدة أن تعكس قرار بريطانيا في حرب السويس، على سبيل المثال، كما استطاعت دول مثل روسيا والصين وفرنسا وقف قرارات. ولا تزال أحداث عرض ملف إيران النووي على مجلس الأمن شاهداً ماثلاً للعيان. لكن بريطانيا لا تملك أي من ذلك التأثير بحكم تبعيتها للولايات المتحدة. صورة بريطانيا في العالمين العربي والإسلامي تعتبر أقل إشراقاً. حيث فقدت بريطانيا رصيدها بالرغم من قرن كامل وأكثر من التواجد (الانتداب) في كثير من دول وشعوب ذلك العالم حيث يفترض المنطق أن تبدي بريطانيا مزيداً من التفهم والاحترام المتبادل مع الدول العربية والإسلامية وحرصاً أكبر على المشاعر والعلاقات مع تلك المجتمعات. وما زال العالمان العربي والإسلامي يعانيان من آثار بريطانيا السلبية في كشمير وفلسطين والعراق إلى يومنا هذا. كما أن الاستخفاف بمشاعر المسلمين بين الفينة والأخرى في كتاب سلمان رشدي (آيات شيطانية) وسخرية بعض البرامج التلفزيونية من بعض القضايا الإسلامية وما تتخذه الحكومة من إجراءات ضد المسلمين في بريطانيا حاليا يزيد من الهوة ويعمق الكراهية بين الشعب البريطاني والشعوب العربية والإسلامية. يضاف إلى ذلك ما يلتصق ببريطانيا سلبياً من جراء السياسة الخارجية للولايات المتحدة بدون أن يكون لبريطانيا تأثير استراتيجي يذكر. أما العلاقات البريطانية السعودية، فمنذ لقاء تشرشل بالملك عبد العزيز والعلاقات يمكن وصفها في أحسن أحوالها بالعادية. ذلك اللقاء الذي هب له تشرشل على عجل للحاق بالرئيس الأمريكي روزفلت، الخليفة الأبرز للعالم الجديد، لحجز مقابلة مع الملك عبد العزيز. روبرت ليسي في كتابه (المملكة) يصور لقاء تشرشل وابن سعود على أنه غير سار وفشل بسبب شخصية رئيس الوزراء البريطاني. هناك من يصف العلاقات (بالقلقة) لما مرت به من أزمات نتيجة فشل بريطانيا في فهم البيئة الفكرية والثقافية وتلمس النقاط الحساسة في المجتمع السعودي. آخرون يرون العلاقات على أنها من جانب واحد فقط. مجرد وقفة شهامة من السعودية ورحمة (بعزيز قوم ذل) ودعما ل(حضارة سادت ثم بادت) ولذلك تحاول السعودية إشراك بريطانيا في مشاريعها التنموية ومنحها جزءاً من الكعكة لدفع الميزان التجاري نحو التوازن، بالرغم من كثير من التصرفات والأعمال غير الشرعية لعدد من الرعايا البريطانيين في المملكة. نخلص إلى أن ما نقلته (الغارديان) خبر فيه الكثير من الرائحة السياسية الرخيصة تزكم العقول بأخطر من (إنفلونزا الطيور) وداء يتعدى (جنون البقر)، في وقت لم تعد فيه تلك الأساليب الإعلامية ذات جدوى على المستوى الفردي ناهيك عن تحقيق أمنية بحجم المشروع المشار إليه. كما أن المجتهد في البحث لا يجد مسوغاً منطقياً لمكافأة توني بلير أو حزب العمال أو بريطانيا بمشروع من نسج وتأليف وتصميم الخيال البريطاني. ثم إننا لنعجب أكبر العجب! ألم يكن بمقدور الخيال البريطاني أن يطلق عنانه في النواحي المدنية ويقدم فكرة مدنية حضارية مشتركة يستفيد منها الطرفان في الصحة أو التعليم، أو التدريب الفني والتقني، أو السكك الحديدية أو غير ذلك؟ ولماذا هذا الجهد الفكري السلبي (الغبي) في خلق فكرة مشروع عسكري وتوليف حزمة من الأسلحة ومحاولة إقناع الآخرين بوهم العدو المحتمل؟ ألم تسقط بريطانيا في شراك خداعها للشعب البريطاني في موضوع العراق؟ ألا يعتبر ذلك إهانة مفرطة لذكاء الدول والأمم والشعوب؟ فإذا كان توني بلير أو حزب العمال أو الحكومة البريطانية يأملون في إبرام صفقة بحجم 71 ألف مليون دولار لخلق مزيد من فرص العمل ودعم الاقتصاد البريطاني فهذا بالضبط ما يأمله الملك عبد الله وتسعى إليه الحكومة السعودية ليس لمزيد من الرفاه للمجتمع البريطاني، بل لمزيد من الوظائف للمواطنين السعوديين ودعم للاقتصاد ورفاه للمجتمع السعودي. ولا نظن أن في صفقة طائرات ومعدات عسكرية مع بريطانيا أي تخفيف لمعدل البطالة في السعودية أو دعم للاقتصاد السعودي. ومن دون الدخول في تفاصيل دقيقة، فإن (مشروع اليمامة) الذي سبق توقيعه مع بريطانيا قد فشل في الوصول إلى الحد الأدنى في إضافة فوائد عسكرية أو استراتيجية ولا إلى تحقيق مفهوم (التوازن الاقتصادي)، على الأقل. كما لا تشكل المعدات البريطانية أحسن المعروض في العالم الغربي من الناحية الفنية اللوجستية. أما الطائرات المقاتلة بشكل عام فإنها تفقد أهميتها الاستراتيجية يوماً بعد يوم في ظل عدد من المعطيات والمتغيرات في العناصر الاستراتيجية مثل: النظام الدولي، الدولة، المجتمع، الفرد، الخطر، الآلة، والكلفة. الأهم من ذلك، أن العلاقات السعودية المستقرة مع دول الجوار تنفي الحاجة لمزيد من القوات الدفاعية أو الهجومية المعقدة. حتى في حال حدوث قلاقل هنا أو هناك على المستوى الإقليمي بتأجيج من الدول الكبرى لتنفيذ مآرب سياسية واستراتيجية، كما جرت عليه العادة ويشهد بذلك التاريخ، فالحكمة السعودية والنضج السياسي لدول المنطقة كفيلان بكشف ذلك والتغلب عليه. وبالتالي فإن قائمة الأولويات التنموية السعودية، حسب تصورنا، لا تحمل في طياتها أي طائرات أو معدات عسكرية بذلك الحجم. فالتخلص من الفقر وتقليص البطالة ومحاربة العنف وإصلاح التعليم وتطوير التدريب الفني والمهني وتعميم الخدمات الصحية وخفض الدين العام والتعامل مع نقص المياه وتحديث وتوسيع البنية التحتية وتهيئة الاقتصاد والمجتمع لحقبة العولمة والاستثمار في الصناديق التي تنعكس مباشرة على رفاه المواطن السعودي هي أولويات الأجندة السعودية.ولذا يجدر بالتفكير البريطاني أن يعيد الأماني ويطلق الخيال بما يتوافق وتلك الأولويات. أما إذا فكرت السعودية وقدرت وقررت أن تعقد صفقة بحجم 71 ألف مليون دولار أو أكثر أو أقل لشراء معدات عسكرية أو مدنية لخدمة مصالحها الوطنية العليا أو الحيوية أو الحساسة من بريطانيا أو غيرها، فلها الحق كل الحق أن تشترط ما تري. أليس (العميل دائماً على حق) ؟ وستظل بريطانيا دولة صديقة مثل غيرها، إذا أرادت، وعليها أن تعيد حساباتها في تعاملها مع الآخرين بتواضع أكبر واحترام أكثر. فأسلوب الاستعلاء والغطرسة وأوهام العظمة ومفهوم (إعطني حسنة وأنا سيدك) منطق لم يعد مقبولاً لدى الأفراد ناهيك عن الدول، ودولة مثل السعودية بالتحديد.وإذا كانت بريطانيا تصرُّ على تتبع خطى الولايات المتحدة فلماذا لا تفعل شيئاً إيجابياً مماثلاً لجولة كارين هيوز مساعدة وزيرة الخارجية للدبلوماسية العامة في رحلتها الشرق أوسطية، التي بالرغم من إجماع المراقبين على فشلها أو محدودية تأثيرها إلا أنها محاولة وجهد لإصلاح ما يمكن إصلاحه من إنقاذ وتحسين سمعة الولايات المتحدة وتخفيف مشاعر الكراهية. أليس جدير ببريطانيا أن تقدح زناد فكرها وتعصر مخيلتها لفعل الشيء نفسه وتقوم بتحسين صورة مختلة عمرها أكثر من مئة عام؟ فالخيار لبريطانيا وحدها، إما أن تتعامل بمنطق عقل البشر أو (جنون البقر).
(*)باحث سعودي |