خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسان في أحسن تقويم، وفي أحسن صورة، وميّز بينهم في أجسادهم وألوانهم وقدراتهم المختلفة، لحكمة يراها الخالق - عزّ وجلّ - فإن من الناس من يبتليه الله تعالى بالحرمان من بعض الحواس والنعم الذهنية والجسدية التي أنعم بها على الآخرين، وهؤلاء المعوقون الذين اصطلح على تسميتهم (ذوي الاحتياجات الخاصة) هم - بلا شك - فئة غالية وعزيزة جداً على قلوب الجميع، ولبنة صالحة من لبنات المجتمع، قدّر لهم أن يكونوا عاجزين عن أن يوفروا لأنفسهم بصورة كلية أو جزئية ضرورات حياتهم الخاصة والاجتماعية بسبب قصور خلقيّ في قدراتهم الجسمانية أو العقلية. ولقد كانت خدمة المعوقين وتأهيلهم التأهيل السليم وتمكينهم من حقوقهم من الثوابت الرئيسية لسياسة المملكة العربية السعودية التي ارتكزت في ذلك على مبادئ ديننا الحنيف، ونهج أصيل نابع من الثقة المطلقة بأن الإعاقة لم تكن يوماً من الأيام عقبة في جسم مَن يعاني منها، بقدر ما هي عقبة في قلب من ينكر على هذه الفئة الغالية إمكانية إعادة تكييفها وإدماجها في الحياة العملية في المجتمع؛ فالمتتبع واقع الإعاقة في المملكة يلاحظ - بلا شك - الجهود الكبيرة والمشرفة التي تتمثل في الخدمات والتسهيلات والحوافز المقدمة للمعوقين، والتي تغطي احتياجاتهم أينما كانوا. وبغض النظر عن شدة إعاقتهم حرصاً من الدولة - وفقها الله - على أن تتاح للمعوقين فرص متكافئة من التربية والتعليم والتأهيل والإعداد للحياة. ورغم هذه التجربة الرائدة للمملكة والناجحة بكل مقاييس النجاح في مجال رعاية المعوقين، والتي تخطت كل العوائق التي كانت تقف أمام مسيرتهم نحو النجاح وتحقيق الذات، إلا أنه ما زالت - مع مزيد الأسى والأسف الشديدين - شريحة كبيرة جداً من أفراد المجتمع لا يدركون حتى الآن مدى تدني وسلبية نظرتهم للمعوق، وهي نظرة - في واقع الأمر - تفتقد الوعي والإنصاف التام لهذه الفئة الغالية على قلوبنا، ويشوبها في مواقف كثيرة نوع من الاستهزاء والتهكم والاستغراب بما يولد الشعور لديه بالنقص الذي يعاني منه، وبالابتلاء الذي ابتلاه الله به وبأنه إنسان غير طبيعيّ، وعالة على الآخرين يستحق الشفقة والعطف والرحمة والإحسان بشكل يؤذي مشاعره ويجرح كرامته ويؤثر في نفسيته تأثيراً سلبياً؛ فتدفعه للاكتئاب والإحباط والانطواء والانسحاب من المجتمع الذي يعيش فيه والمحيط به. وهذه النظرة السلبية لا تقتصر فقط على مجرد هذا التصوّر الخاطئ والقاصر الذي يحمله كثير من شرائح المجتمع تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة، بل إنها تتعدى ذلك إلى السلوك الممارس تجاههم وكيفية التعامل معهم في الحياة اليومية، وهناك الكثير من الأمثلة والشواهد والوقائع التي تؤكد ذلك، ومنها تجربتي الشخصية التي عايشتها - قبل أيام قلائل - عندما كنت في زيارة لمتجر كبير بمدينة الرياض مصطحباً معي أحد أبنائي ممن لديه قصور وضعف في قدراته العقلية بسبب إصابته بمرض الصرع العصبي الذي عانى منه منذ ولادته. وبينما نحن ننتظر دورنا لدفع قيمة مشترياتنا وقف بجانبنا طفل صغير برفقة والدته يشير بإصبعه نحونا ويسألها سؤالاً لم يكن جديداً علي عن حالة (ابني) التي كان عليها!!.. فردت عليه والدته بكل بساطة ودون اعتبار أو مراعاة لمشاعر الغير وهي تقول: (هذا جزاء كل واحد ما يسمع كلام أمه أو أبوه)!!! حزت كثيراً هذه الكلمة في نفسي، وتمنيت أن هذه (الأم الفاضلة) قد حمدت الله وشكرته أن عافاها وابنها مما ابتلي به غيرها، بدلاً من أن تنتقص أو تهزأ بطفل إعاقته جاءت بقضاء من خالقه - سبحانه وتعالى - وقدره الذي كتبه عليه. هذا الموقف ذكرني بمنظر طفل جميل ووديع شاهدته في أحد الأماكن العامة، وكان يكلم أبويه بأدب جمّ للغاية، وهو على كرسيّ متحرك. وكان كلما نظر إليه طفل من الأطفال أنزل رأسه إلى الأرض بدون أن يحاول أن يبادلهم النظرات أو يلاعبهم كما يفعل الأطفال مع بعضهم.. فمتى يتجاوز المجتمع هذا النفق المظلم في تعامله مع ذوي الاحتياجات الخاصة ويربأ بنفسه عن هذه النظرة الخاطئة والسطحية التي تعتبر بمثابة إعاقة حقيقية في عقلية البعض منا، وهي بلا شك تزيد الإعاقة والمعاناة على صاحبها؛ وبالتالي تزيد من عمق المشكلة؟!! في وقت أضحت فيه النظرة الإيجابية للمعوق انعكاساً ومرآةً لحضارة البلد وثقافة مواطنيه. إن المعوق مما لا شك فيه جزء مهم لا يتجزأ من كيان هذا المجتمع، ومكمل له وشريك فاعل في التنمية، له حقوق وعليه واجبات، ومخطئ كل الخطأ من يعتقد غير ذلك؛ ولذلك أصبح من الضروري العمل على دمجهم مع بقية أفراد المجتمع وفق أسس علمية سليمة بدلاً من حصرهم في مدارس ومراكز معزولة؛ فكل فرد فيه له دوره في الحياة، والمشاركة والتفاعل والتكامل في عملية البناء هي سمة من سمات المجتمعات الناجحة والمتحضرة والواعية. كلمة أخيرة لكل أبناء هذا الوطن الغالي كلاً في موقعه ومكانه، وكلاً بحسب اختصاصه ومسؤوليته في أن ننظر جميعاً إلى هذه الفئة الغالية على قلوبنا النظرة الإيجابية والداعمة لهم، ترسيخاً لمفاهيم المواطنة الصالحة بين جميع أفراد المجتمع، بما يعزز ويقوي شعورهم وقناعتهم بمدى أهميتهم وقيمتهم ومكانتهم كمواطنين صالحين فاعلين.. ونداء أخير إلى وسائل الإعلام في المجتمع وللأقلام المؤثرة فيه من العقول المتفتحة والواعية بالمساهمة في توعية أفراد مجتمعنا وتعريفهم بآمال هذه الشريحة الغالية والسعي إلى تحقيقها وإبراز آلامهم والعمل على إزالة أسبابها. أخشى ما أخشاه.. هو أن تؤدي النظرة القاصرة والسلبية من بعض أفراد المجتمع لذوي الاحتياجات الخاصة إلى حرمان وطننا ومجتمعنا من ثروة وطنية مؤهلة وفعالة من أبنائه قادرة على العطاء والإبداع والإنتاجية، بل يمكن الاعتماد عليها في مجالات العمل المختلفة ومواقع المسؤولية فيما لو توافرت لها الفرصة، وأعطيت لها الثقة واختفت نظرات الشفقة التي تظهر على الوجوه لتحل محلها نظرة تقدير واحترام وإعجاب، مثلما أسهمت في السابق - وللأسف - نظرتنا الدونية إلى العمل المهني في تحويل المئات من ملايين الريالات شهرياً إلى البلاد الأخرى, وأصبحنا لا نستغرب أن نسمع عن حلاق هنديّ دخله الشهري عشرة آلاف ريال أو ميكانيكي باكستاني يربح عشرين ألفاً، ومع هذا لم تفتح هذه الأرقام شهيتنا للعمل المهني!
|