Friday 30th September,200512055العددالجمعة 26 ,شعبان 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

الوافد الكريمالوافد الكريم
د. محمد بن سعد الشويعر

بعد ساعات قليلة يقدم على المسلمين وافد كريم، تعمُّ بركات أيامه ديار الإسلام، إنه شهر رمضان الذي كتبه الله على أمة الإسلام، وقد فرضه الله في السنة الثانية من الهجرة، فصام عليه الصلاة والسلام وصام المسلمون معه تسع سنين قبل وفاته صلى الله عليه وسلم. وقد كُتِبَ على الأمم السابقة، ولكنهم قصَّروا في حق الله، وبدَّلوا في شرعه. فكان من فضائل هذه الأمة أن التزموا أمر الله، وتأسَّوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في المسابقات إلى الخيرات في هذا الشهر؛ لأنه من أفضل الشهور، إذ قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شهرٌ أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار).
وقد جعل الله فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر؛ أي مَن قام ليلها حصل له أجرُ مَن تعبَّد ألف شهر خالية منها، وهذا يعني بالحساب (ثلاثاً وثمانين سنة وثلث السنة). وقلَّ من الناس مَن يبلغ عمره هذا المقدار.
فالصوم له مكانة كبيرة في العبادات: أجر عظيم عند الله، وتزكية للنفس، ومضاعفة للأجر، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، وللصائمين باب لا يدخل معه غيرهم اسمه الريان، فإذا تكاملوا أُغلق، وفيه تُصفد مردة الشياطين، وتضيق مسالك مجرى الشيطان، إذ أخبر صلى الله عليه وسلم أنه (يجري من ابن آدم مجرى الدم). وفي هذا الشهر تلين القلوب، ويكثر الناس من فعل الخيرات والصدقات.
كما أن من فضائل هذا الشهر أن أنبياء الله، وهم صفوة الخلق، يحرصون عليه عبادةً وصياماً، فكان أفضل الصيام أثناء السنة صيام داود: يصوم يوماً ويفطر يوماً. ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كان يشد المئزر في العشر الأواخر، ويعتكف ويجتهد مع الصوم في العبادة، وما ذلك إلا أن العامل يُوفَّى أجره مع نهاية عمله، ولذا كان عليه الصلاة والسلام يرغِّب أمته وهو قدوتهم.
وقد نصر الله الإسلام في معركة فاصلة في شهر رمضان في يوم 17 منه، هي معركة بدر الكبرى التي قُتل فيها صناديد الكفار من قريش وجبابرة المشركين، وعلى رأسهم فرعون هذه الأمة أبو جهل.
وقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده إلى واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست ٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان).
وفي توضيح كيفية نزول هذه الكتب السماوية على أنبياء الله يقول ابن عباس رضي الله عنهما، الذي رُوي عنه من طرق متعددة حسبما جاء عند ابن كثير في تفسيره، قال: أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أُنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان، في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}, ثم نزل بعده مفرقاً بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يثبت دخول شهر رمضان بآراء الفلكيين أو بالحساب، وإنما يثبت بالرؤية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً). فالشهر حسب الرؤية إما أن يكون ثلاثين يوماً، أو تسعة وعشرين يوماً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أمة أمية: فالشهر هكذا وهكذا وهكذا). قال راوي الحديث: وأشار عليه الصلاة والسلم بأصابعه كاملة يعني ثلاثين، وخنس إصبعاً في الثانية يعني تسعة وعشرين يوماً، وما ذلك إلا أن الشهور العربية تنبني على منازل القمر. وقد جعل الله منازل القمر؛ صغراً وكبراً، دلالة للناس لمعرفة أوقاتهم كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: ما بالُ القمر يبدأ صغيراً ولا يزال يكبر حتى يكون بدراً، ثم يرجع تنازلاً في الصغر حتى يأتي المحاق، فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189).
وإن رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم، ويدخل الشهر برؤية واحد عدل، أما بقية الشهور فلا يُقبل إلا عدلان. وقد أوجب الله الصيام على مَن شهد الصيام وكان صحيحاً، يعني ليس به مرض، وبالغاً مكلفاً؛ أي: ليس بصغير, فإنه يلزمه الصيام كما قال تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أيام أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة: 185).
فالمسافر إذا قدم لزمه الإمساك ويقضي ما أفطر فيه من أيام، والكافر إذا أسلم لزمه الإمساك ذلك اليوم ويقضيه ثم يواصل بقية الشهر، ولا يلزمه صيام الأيام التي قبل إسلامه، ومثله الصبي إذا بلغ، والمجنون إذا أفاق. والحائض والنفساء لا تصومان حتى ينتهي عذرهما وتقضيان.
أما المريض فيقضي إذا برئ وصار قادراً على الصيام، لكن لو كان شيخاً هرماً، أو مريضاً بمرض لا يرجى بُرْؤه، وهما لا يستطيعان الصيام لما بهما، فإنهما يُطعمان عن كل يوم مسكيناً كما رُوي عن الإمام مالك رحمه الله أنه طال به العمر فصار لا يستطيع الصيام، فأطعم عن كل يوم، ولم يقضِ لتعذُّر القضاء عليه.
أما الحائض والنفساء فقد سُئلت عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض والنفساء تقضيان الصوم ولا تقضيان الصلاة؟ فقالت: هكذا أُمرنا، يعني الاستسلام للأمر التشريعي، سواء عرفت العلة أو لم تعرف، مع أن بعض العلماء يلجؤون إلى بعض التعليلات والمبررات، ولكن الحكمة التشريعية عندهم قد تكون مقنعة وقد لا تكون، وأوامر الشرع لا نلزمها بأن تخضع لمقاييسنا، كما نرى من بعض الأطباء من نظرات صحية وفوائد استنتجوها من الصوم، فقد يأتي يوم من الأيام يتفتَّق ذهن الإنسان عن فوائد تختلف عما يذكرها الإنسان في وقت سابق، لكن حكمة الله بالغة.
ولا يجب أن نخضع شرع الله لمقاييسنا القاصرة؛ فإن علياً رضي الله عنه يقول: لو كان الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على ظاهره، ولكن نعمل ما أُمرنا به على الوجه الذي بان من كتاب الله وسنة رسوله.
وفي صوم الفريضة لا بدَّ من تبييت النية من الليل، أما صوم النافلة فليس بشرط. والحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أفطرتا وقضتا فقط، أما إذا كان الخوف على ولديهما فإنهما تفطران وتقضيان وتطعم كل واحدة منهما عن كل يوم مسكيناً.
وعن النية في الصوم فقد روت حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (مَن لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه الخمسة.
والصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لقوله سبحانه: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}(البقرة: 187).
ومَن أكل شاكاً في طلوع الفجر فلا قضاء عليه، أما إن أكل شاكاً في غروب الشمس فإن عليه القضاء، ومثل ذلك إن أكل معتقداً أنه ليل فبان نهاراً فإنه يمسك ويكمل ويقضي.
أما مفطرات الصوم فكثيرة، ذكرها الفقهاء قديماً وحديثاً، ومنها: الأكل والشرب، أو استعطَّ أو احتقن، أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه، أو اكتحل بما يصل إلى حلقه، أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان، أو استقاء فقاء، أما إذا ذرعه القيء فلا يفسد بذلك صومه، ومَن جامع في نهار رمضان فسد صومه وعليه القضاء والكفارة: عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً. والإبر في العضد وأخذ عينة للتحليل والسواك ومعجون الأسنان لا تفطر، ولله أعلم.
مَن نُعيت إليه نفسه
جاء في كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار: إن سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي كان سبب موته أن استدعى يوماً الجارية التي كانت على خزانة ملابسه، فقال لها: ائتني اليوم بثياب صفر، فأتته بحلة صفراء وعمامة صفراء وطيلسان أصفر من أحسن ما يكون، فتنظَّف ولبس وتطيَّب، واستدعى صاحبة الوجه، واستدعى بالمرآة، فرأى وجهه وما عليه من البزة الفاخرة ونضارة الملك، فأعجبته نفسه، وقال: والله لأخرجنَّ اليوم على الناس، وأصعد على المنبر، وأتكلم من أحسن الكلام بما يليق بهذه الحالة.وخرج يتبختر في مشيته زهواً وعجباً بنفسه، فعرضت له جارية يعرفها من جواريه، فسلمت وقالت: ما أحسن هذه الحالة التي أنت فيها لو تمَّ، ثم أنشدت:


ليس فيما بدا لنا منك عيب
عابه الناس غير أنك فانِ
أنت نعم المتاع لو كنتَ تبقى
غير أنْ لا بقاء للإنسانِ

فقال لها: يا فلانة، ما حملك على هذا في هذا الوقت؟ وتغيَّر عليه الحال، ثم إنه أكذب نفسه، وتحامل على عقله بهواه، ومضى لوجهه، حتى خرج على قومه في زينته، فأعجب الناس به، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله بصوت يستوي في سماعه أقصى مَن في المجلس وأدناه، وأبلغ وأسهب فأعجب، وأوجز فأعجز.
فبينما هو في أطيب ما يكون من الكلام أخذته الحمى، فتحامل عليها، فما زالت تخفض من صوته إلى أن سقط مغشياً عليه، ثم أفاق فحُمل إلى منزله ورجلاه تخطُّ في الأرض ضعفاً مع قوة في المرض، فلما دخل منزله استدعى الجارية التي تعرَّضت له عند خروجه بالبيتين في صحن الدار، فحضرت بين يديه، فقال لها: يا فلانة، أعيدي عليَّ ما قلتِ عند خروجي، فقالت: يا سيدي، ما أعرف ما تقول، والله ما تعرَّضتُ إليك، وكيف أجرؤ على التعرض إليك في صحن الدار وليست مرتبتي؟!
فعلم سليمان أن نفسه نُعيت إليه، فأوصى ولبث أياماً ومات. (2: 281- 282).

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved