نقف اليوم بجلال وإكبار ونحن أمام جلل عظيم.. نقف والكلمات تتلعثم في الأفواه عاجزة عن الكلام والوصف.. كنّا نفتخر حين نقرأ قصص الأجداد عن بطولاتهم وتضحياتهم وكم يعتصرنا الألم ونشعر بالأسى عندما تبتعد المسافات بيننا وبين الأجداد في وقت يخيّم فيه علينا الصمت والخنوع حيال ما يجري في فلسطين، فيمر شريط الذكريات في خيالنا يحمل بين طياته صوراً لخولة بنت الأزور والخنساء ونسيبة بنت كعب وأم سعد بن معاذ وغيرهن. إننا أمام ظاهرة جديدة، ظاهرة (أم نضال فرحات).. هذه المرأة المجاهدة التي أوت في بيتها ذات مرة القائد المجاهد الشهيد عماد عقل والتي كانت تستشعر أمومتها لكل مجاهد فلم تؤثر الصمت وظهرت في شريط الفيديو وهي تودع ابنها المجاهد وهي تعلم أنه لن يعود إليها. هذه المرأة العظيمة مدرسة بأكملها بإيمانها، بتواضعها، بصبرها، وثباتها ورباطة جأشها.. إنها حجة على الأمة، وقفت شامخة بكل تواضع تدعو إلى الجهاد، تدعو الأمهات وتدعو شعب فلسطين. ظهرت في الشريط وهي تعلم أن هذا قد يعرضها للأذى، ولكن ظهورها أمر ضروري ليكشف عن حياة هذه الأمة وحيويتها، إن هذه الأمة التي أنجبت الخنساء قادرة على أن تنجب خنساوات كثيرات في كل عصر طالما أن المحرك هو نفسه الذي حرك الأوائل، ألا وهو الإيمان. إن شريط الذكريات توقف ليتحول إلى حقيقية حين نقف أمام التضحيات الجسام التي تقدمها الأم الفلسطينية المؤمنة التي تتقبل استشهاد فلذة كبدها بالزغاريد وتحمد الله وتشكره على هذه النعمة التي أنعم عليها الله بها. الأم الفلسطينية المجاهدة أم نضال فرحات هي من الأمهات الفلسطينيات اللاتي دفعن الغالي والنفيس من أجل وطنهن الغالي فلسطين، يطلق عليها اليوم (خنساء فلسطين) وما أكثرها اليوم في فلسطيننا الحبيبة، أم نضال فرحات التي دفعت ولدها في عتمات الليل لتجعل من جسد ولدها شعلة مضيئة على طريق تحرير فلسطين. هكذا هي الأم الفلسطينية وهكذا عودتنا دائماً أن تكون مصنعاً للرجال، أم نضال هي أم الأسير، وهي أم الشهداء الثلاثة محمد فرحات من سكان حي الشجاعية بمدينة غزة أحد أبطال عزالدين القسام، والشهيد القائد نضال فرحات أحد القادة الميدانيين لكتائب عزالدين القسام والشهيد المجاهد رواد فرحات. فباستشهاد المجاهد القسامي رواد فتحي فرحات في غارة إسرائيلية على سيارته في مدينة غزة يوم السبت 24-9-2005م، تكون (خنساء فلسطين) السيدة الفاضلة أم نضال فرحات قد قدمت ثلاثة من أبنائها المجاهدين في سبيل الله فداء للوطن وللقضية. لم تجزع أم نضال فرحات عند سماعها بنبأ استشهاد ابنها (رواد)، بل قالت بصوت ملؤه الثبات إنها مستعدة لتقديم كل أبنائها للمقاومة. وأضافت: (ابني رواد، الله يرضى عليه، يسعى دائماً للجهاد والمقاومة، والحمد لله بكل فخر واعتزاز استقبل هذا الخبر، وأريد أن أقول إنه صحيح أن فراق الابن صعب، خاصة أنه أصغر أبنائي وعزيز على نفسي، لكن لا يعز شيء على الله عزّ وجلّ، والحمد لله فهو منخرط في صفوف القسام منذ صغر سنه، وهو يعمل عمل الشباب الحمد لله والله يتقبل كل الشهداء يا رب). عندما تسمع عنها يخيل إليك أنها أتت من زمان غير زماننا وغرس في قلبها حب المقاومة والوطن، كيف بها تطلب من ابنها إيواء مطاردين لجيش الاحتلال في بيتها رغم معرفتها أنها يمكن أن تفقد أولادها الستة لهذا السبب؟ وكيف تدفع بابنها (محمد) ليتسابق في نيل شرف مقاومة جيش الاحتلال، وتوصيه بالثبات حتى يلقى ربه شهيداً؟! مريم محمد فرحات (أم نضال فرحات) نذرت أبناءها لله، فقالت لهم ذات يوم: محمد.. نضال.. مؤمن.. وسام.. رواد.. أرضكم مدنسة وأنتم تنظرون، أريدكم منتصرين أو على الأعناق محمولين! استجابوا للنداء على الفور، لأنهم بكتاب ربهم مؤمنون، وبسنة نبيهم متمكسون، وسام - هو الآن - في ظلمة السجون بعد أن ضاق به المحتلون، أما محمد ونضال ورواد فقالوا: (إنا لفلسطين منتقمون)، فكان نصيبهم أنهم في حواصل طير خضر يسرحون ويمرحون إن شاء الله. السيد (أم نضال فرحات) والدة الشهيد (محمد) والشهيد (نضال) والشهيد (رواد) والمعتلق (وسام) - رغم المرض الذي ألم بها - ضربت أروع مثل في صور جهاد المرأة الفلسطينية التي تدفع أولادها ثمناً لتحرير الوطن. لقد سجلت أم نضال فرحات أروع الصور لجهاد المرأة الفلسطينية، وضربت مثلاً بدفعها ابنها محمد للمشاركة في اقتحام مستوطنة صهيونية وقتل العشرات من مستوطنيها رغم صغر سنه، بعد أن نمت الجرأة في قلبه وهي تقول له: (أريدك أن تقاتل بالسلاح لا بالحجر)، لذلك سرعان ما فكر في البحث عن عمل ليدخر منه ثمن السلاح الذي لا تستطيع هذه الأسرة أن توفره لولدها، حثته أمه على العمل والكد حتى يستطيع أن يمتلك السلاح، ويحافظ عليه لأنه عرف مدى صعوبة الحصول عليه. تقول أم نضال: (كان من أجمل أيام حياتي عندما امتلك محمد السلاح فأحضره لي ليسعد قلبي به، ويؤكد لي أنه أصبح رجلاً يمكن أن يسير في طريق الجهاد). لم تبدأ فصول مقارعة السيدة أم نضال فرحات للعدو الصهيوني بدفع ابنها (محمد) للجهاد، بل في عام 1992م حيث آوت في بيتها المتواضع المناضل الذي وصفه الإسرائيليون (بذي الأرواح السبع).. إنه القائد (عماد عقل) قائد الجناح العسكري لحركة (حماس) الذي قال عبارته المشهورة: (إن قتل الإسرائيليين عبادة أتقرب بها إلى الله) والذي استشهد في منزلها بتاريخ 24-11-1993م بعد أن تحول إلى جبهة حرب بينه وبين ما يزيد على مائتي جندي صهيوني قبل اقتحامهم المنزل واستشهاد عماد عقل. وليس غريباً على مثل هذه الأم أن تتمنى أن يرزق الله جميع أولادها الشهادة وحب الاستشهاد ليسيروا على درب عقل، وهي القائلة: (من يحب الله والوطن فلا يتوان عن تقديم أبنائه فداء له، والأم التي تحب ولدها تطلب له النجاة في الدنيا والآخرة وتدفعه للجهاد ولا تجزع عند فوزه بها، ولا تشمت الأعداء بشعبنا بدموعها على شاشات التلفزة). (تزحزح قليلاً يا بني، ضع يدك على كتفي، دعني أقبلك قبلة الوداع، هيا التقط صورتك أيها المصور وأنا أزف ولدي إلى الشهادة). صورة تكاد تنبض فيها الحياة وتدور بينه وبينها حوارات طويلة.. هكذا كانت اللقطة التاريخية التي سجلتها أم نضال مع ابنها محمد فرحات وهي تزفه إلى الشهادة أو في مفهوم البعض إلى الموت. لقد سنّت أم نضال سنّة حسنة جديدة ربما في الواقع هي قديمة بقدم تاريخ الأرض والتقطت لها صورة مع محمد في شرائط الفيديو المعتادة التي كانت تسجل مع الشهيد قبل عمليته، فالشهيد هذه المرة لم يكن وحيداً، بل كان معه والدته. الصورة الرمز التي تخفي وراءها جيشاً من الأمهات والآباء الصابرين.. هي ولا شك نقلة نوعية في مشاعر الأمومة، فالكثير يتحدث عن نقلة نوعية في أساليب المقاومة في انتفاضة الأقصى، إلا أن أحداً لم يذكر مع تلك الأسلحة هذه النقلة الجديدة التي سجلت براءتها أم نضال ومثيلاتها.. وهي التي أضافت قائلة: (ابن الشهيد هو خير من يبرني فهو الذي سيشفع لي بشهادته.. من كانت تحب ولدها فلتعطه أغلى ما تستطيع.. وأغلى ما يمكن أن تقدمه هو الجنة).. كانت هذه الكلمات هي الإمضاء الذي سطرته على طرف صورتها.
|