Wednesday 21st September,200512046العددالاربعاء 17 ,شعبان 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

إضاءات قبل الحوار الخامسإضاءات قبل الحوار الخامس
عبدالله عبدالرحمن سليمان العايد /القصيم - بريدة

مع بدايات انطلاقة فعاليات اللقاءات الحوارية التحضيرية للمرحلة الأخيرة من اللقاءات التحضيرية للقاء الوطني الخامس للحوار الفكري الذي سيقام منتصف شهر ذي القعدة من هذا العام والمزمع انعقاده بمدينة أبها، سيكون لقاء هذا العام تحت عنوان مثير تحدد ب(نحن والآخر.. رؤية وطنية مشتركة للتعامل مع الثقافات العالمية). ومن المُسلَّمات أن قصة الحياة منذ بدايتها تتمركز على محورين أساسيين فيها هما: محور الخير والاصلاح، ومحور الشر والإفساد.
وما زالت أحداثها تدور حولهما إلى هذه اللحظة، هكذا أراد الله ليبتلي عباده الذين خلقهم وأسكنهم هذه الأرض وجعل لهم فيها رزقهم ومعاشهم وأعطاهم من العقول والإمكانات ما به يقومون على مصالحهم، وترك لهم الحرية لاختيار الطريق التي عليهم سلوكها في هذه الحياة. ومن رحمة الله سبحانه بعباده المسلمين أن امتنَّ عليهم بنِعَم كثيرة لا تُعَدّ ولا تُحصى، ومن أعظمها ابتعاثه إليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، رؤوفاً رحيماً بهم، بدينٍ يُسر لا عُسر، وبشريعة سمحة سهلة، قال عنها صلى الله عليه وسلم: (بُعثت بالحنفية السمحة).. مع العلم أن دين الكفار باطل سواء كان في الأصول والعقائد والفروع من التحليل والتحريم والصبغة والهدي والأخلاق، إلا ما وافق الفطرة الصحيحة والشرع الذي شرعه الله لنا؛ ولذلك أمرنا الله أن نقول للكفار إذا دعونا إلى دينهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، وحذر الله رسوله في آيات كثيرة من أن يطيع الكفار ولو في شيء يسير مما يدعونه إليه مخالفاً بذلك أمر الله كما قال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً. إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}وهذا تهديد عظيم للرسول لو ركن إلى الكفار ولو في شيء قليل.
وفي هذا المعنى أيضاً يقول تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} وقال أيضاً: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ}وهذه كلها آيات ناهية للرسول صلى الله عليه وسلم أن يطيع المشركين والكفار ولو في شيء قليل مخالفاً بذلك ما أنزله الله إليه. وقد هدد الله رسوله هنا بكل أنواع التهديد إنْ هو فعل ذلك.. ومعلوم أن الرسول لا يفعل ذلك وإنما هذا تهديد لنا بطريق الأحرى والأولى.
ولا شك أن طاعة الكفار في شيء من تشريعهم هو من أكبر أنواع التولي لهم، وبالتالي هو أعظم أسباب الكفر والخروج من الدين والتعرض لسخط رب العالمين؛ ولذلك فإعلان البراءة من الكافرين وكفرهم هو الأمر الثاني واللازم للالتزام بدين الله وحده واتباع صراطه المستقيم، فمن اتبع صراط الله واهتدى بهدي رسوله وجب عليه أن يعلن مفارقة كفر الكافرين ومخالفة هديهم ودينهم كله.
ولا تعني البراءة من الكافرين حجب دعوة الإسلام عنهم وتركهم لما هم فيه من ضلال، بل يحتم الإسلام على أهله دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والحرص على هدايتهم والرغبة الأكيدة في تحولهم إلى الإسلام.
ولما كان هذا لا يأتي لا بالدخول إلى النفوس من مداخلها واستجلاب رضاها وراحتها فإن الإسلام جعل سبيل الدعوة مع الكفار وغيرهم هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى كما قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}؛ وذلك أن النفوس الشاردة والقلوب القاسية لا تعود إلى الإسلام ولا تلين إلا بالملاينة والملاطفة وإظهار العطف والشفقة والحرص؛ ولذلك قال تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، وهكذا صنع موسى مع فرعون، لاطفه في أول لقاء له وشرح له دعوته وجادله بالحسنى ووكل أمره لله بعد أن أعلن فرعون عداوته له.
وهكذا أيضاً فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين والكافرين والمعاندين ممن عرض عليهم دعوته سواء كانوا من العرب المشركين أو اليهود أو النصارى، جادلهم رسول الله بالحسنى ودعاهم باللين والبيان وصبر معهم صبراً طويلاً، ولم يثبت قط أنه أهانهم أو أغلظ عليهم عند عرض الدعوة أبدا وذلك امتثالاً لقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}وقوله{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}وقوله: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}ولم يقل: فاغلظ لهم القول وسبهم واشتمهم.
وهذه الآيات كلها ومثلها بالمئات في القرآن الداعية إلى الحكمة والصفح الجميل عن المكذبين لا تناقض قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وذلك أن الغلظة المأمور بها هنا إنما هي الغلظة في القتال فقط، وهذا مقام يحتاج إلى شدة وغلظة بخلاف مقام الدعوة، ولكل مقام مقال، كما يقولون.
وذلك بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً}، فلم يتصف بالشجاعة والقوة والغلظة على مَنْ يقاتلونه لا ينتصر، فلو رحمه أو لاينه أو أشفق عليه فإنه لا يقتله.. ومما يوضح ذلك جلياً ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين في موقعة بدر، فقد رصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ودعا المؤمنين إلى الشجاعة في القتال، وفي هذا غاية التحريض على بذل النفس، ولكنه بعد المعركة وهزيمة الكفار وأسر سبعين منهم لاطف الأسرى ولاينهم وداوى جراحاتهم وأمر الصحابة بإكرامهم فقال صلى الله عليه وسلم (أكرموا الأسرى)، حتى أن الصحابة كانوا يؤثرونهم بالطعام الجيد على أنفسهم.. وأنزل القرآن في ملاطفة الاسرى ودعوتهم للإسلام فقال تعال{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وهذا غاية الملاينة والملاطفة في دعوتهم إلى الإسلام وأن الله سيعوضهم عن الفدية التي أخذت منهم إنْ هم أذعنوا للإسلام وآبوا إلى الله ورسوله.
وبهذا يظهر لنا جلياً التفريق بين مقام القتال ومقام الدعوة، فمقام الدعوة هو مقام اللين والملاطفة وتخير الألفاظ وإحسان القول رغبة في تطميع الكافر في الدين واستمالة لقلبه إليه.
والجاهلون بهذا لا يميزون بين مقام ومقام، ويظنون أن البراءة من الكفار تعني سبهم وشتمهم وإغلاظ القول لهم في مقام الدعوة وهذا غاية الجهل والحماقة، وهذا حتى لو كانوا محاربين أيضاً.
وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لطوائف كثيرة من الكفار ليهديهم الله، كما جاء في مسلم أنه قال: (اللهم اهد أم أبي هريرة) وذلك عندما طلب أبو هريرة من الرسول أن يدعو الله لأمه الكافرة كي تسلم، ولذلك جاء في البخاري عن أبي هريرة قال: قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله فقال الطفيل: يا رسول الله، إن دوساً قد كفرت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس.
فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد دوساً وائت بهم). ولقد دعا رسول الله لثقيف فقال: (اللهم اهد ثقيفاً) وكانوا قد تحصنوا منه بعد فتح مكة في ديارهم وامتنعوا من المسلمين ولم يستطع المسلمون فتح الطائف، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهديهم فأسلموا وقدموا المدينة.. وفي كل هذا استحباب الدعاء للمعاندين من الكفار لعل الله يهديهم.
وقد جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إلى عمر بن الخطاب حلة من حرير فقال: يا رسول الله تكرهها وترسلها لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لم أرسلها لك لتلبسها ولكن البسها بعض نسائك) فأهداها عمر بن الخطاب لرجل مشرك بمكة، وهذا دليل واضح أيضاً على أنه يجوز الإهداء للكفار ما لا يحل لبسه للمسلمين كالحرير، وكذلك قَبِل رسول الله هدايا المقوقس (ابن خزيمة وأبو نعيم) وقَبِل الشاة المصلية من اليهودية في خيبر (البخاري وغيره عن أنس). وقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: (أسلم) فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار).
وقد روى سعيد بن المسيب عن أبيه انه قال: (لما حُضِر أبو طالب جاءه النبي صلى الله عليه وسلم)، وهذا مشهور في قصة عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على أبي طالب في مرض موته وقول عمرو بن هشام له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فمات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب.
والشاهد من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد المشركين واليهود. وكذلك روى البخاري وغيره عن أسماء بنت الصديق أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن أمها قد أتتها وهي راغبة - أي عن دين الإسلام - أفتتصدق عنها؟ فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلها، وهذا بالطبع موافق ومقرر لقوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}
والخلاصة من كل هذا أن الصدقة والإحسان على الكفار جائزة بل مستحبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (في كل كبد رطبة أجر)، مع العلم أنه قد عرفت اجتهادات بعض علماء الشريعة الإسلامية في المسائل الاجتهادية بالتشدد، وأخرى بالاعتدال، ولكن تظل هذه كلها آراء أصحابها، وما يرونه من أدلة تثبت حجتهم في ذلك الأمر، ويبقى كذلك الأجر فيها لهم إن أخطؤوا وإن أصابوا وكانوا كلهم مجتهدين، ويعترف كل منهم لصاحبه بالفضل، ولا يطعن أحد منهم في الآخر لا في علمه ولا في دينه وإن اختلفوا؛ وهذا لأنهم يفهمون حكمة هذه الشريعة السمحة وما جاءت به للناس، وكل منهم كان يعلن ويصرح بأن رأيه إن ظهر ما يخالفه من كتاب وسُنّة فليأخذ الناس بهما، ويضربوا برأيه عرض الحائط.. هكذا كل العلماء والفقهاء من السابقين واللاحقين، وهذا الاختلاف في حد ذاته من رحمة الله بعباده، ولكن بعض الناس المتأخرين عمدوا إلى بعض الآراء الفقهية المتشددة، فتمسكوا بها وأرادوا أن يلزموا جميع الناس بالاستمساك بها، وإن لم يتبعوهم فيما يريدون وخالفوهم بدؤوا في التشكيك بهم، وإلى ما هنالك من أساليب.
ولكن لا نقول إلا هذا ما أمرنا به الإسلام..
وهذا ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم..
وهذا هو منهاج السلف الصالح الذين نحرص على الانتساب إليهم..
فما أحوجنا إلى فَهْم ديننا كما أراده الله وكما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.
سدد الله الخطى وبارك في الجهود.. والله من وراء القصد.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved