لو كانت الدُّنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً مخلَّدا |
في يوم الاثنين 26-6-1426هـ الموافق 1 أغسطس 2005م انتقل إلى رحمة الله تعالى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وقد كان لوفاته - رحمه الله - أثر كبير وعظيم داخل المملكة وخارجها، وذلك لما يتمتع به من مكانة، وقد نعاه الكثير من الدول العربية والإسلامية، وأشاروا إلى دوره القيادي في جميع الأصعدة، وقد كتبت الصحف داخل المملكة وخارجها عما قدَّمه - رحمه الله - لبلاده وأمته. وقد خفَّف من المصاب الجلل إذاعة نبأ إعلان تولِّي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يحفظه الله الذي اختار صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز - يحفظه الله - ولياً للعهد، وقد تمت البيعة بتأييد من الأسرة الحاكمة وجميع الشعب؛ فهو خير خلف لخير سلف، ونرجو من الله العلي القدير أن يوفِّقهما فيما يصبوان إليه في دينهما ودنياهما، وأن يعينهما ويسدد على طريق الخير خطاهما. وعندما أذاعت وسائل الإعلام نبأ وفاة الملك فهد - رحمه الله - تكلمت جميع وسائل الإعلام العالمية عن هذا القائد الفذ الذي قاد بلاده وأمته بكل حكمة. أيضاً كتبت الصحف المحلية عن المصاب الجلل حتى بلغت الصفحات في بعض الصحف ما نيَّف على 160 صفحة كتب فيها عن تلك الإنجازات العظيمة ما يليق بمكانة الفقيد الغالي. وقد تأخرتُ في كتابة هذا النعي لكثرة تلك المقالات، مع أن العين تذرف دمعاً، والقلب يعتصر حزناً، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. وهذه الأسطر قليلة من كثير عمَّا قدَّمه - رحمه الله - من أعمال جليلة خلال 24 عاماً غير السنوات التي تولَّى فيها منصب وزير المعارف ومنصب وزير الداخلية وولايته للعهد ونائب رئيس مجلس الوزراء. وبما أن لديَّ من الإلمام والمعرفة عن الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - منذ حداثة سنه قدراً أفخر به؛ حيث كنتُ ضمن مجموعة نشأت في خدمة الملك فهد وإخوانه الأشقاء المعروفين بآل فهد بن عبد العزيز منذ ما نيَّف على ستين عاماً؛ إذ إنه أوكل إليَّ - رحمه الله - بعض المهام. والذي أطلق اسم (آل فهد) هو الملك عبد العزيز رحمه الله، أطلقه على البيت الذي تسكنه والدتهم الأميرة حصة بنت أحمد بن محمد السديري رحمها الله. إن الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - من الشخصيات التي وهبها الله منذ صغر سنه رزانة العقل والتواضع وحسن التصرف والعاطفة النبيلة التي تميز بها، إضافة إلى مكارم الأخلاق الفاضلة وبره بوالدته والتواضع أمامها؛ حيث إنه بعد زواجه الأول يأتي إلى والدته وإخوانه وأخواته الأشقاء في اليوم الواحد أكثر من ثلاث مرات، ويرعى شؤون إخوانه ويرشدهم ويعطف عليهم، وكأنه لهم والد حنون بار في معاملته لهم، مع أنه - رحمه الله - يقدِّر الأسرة كافة كل تقدير، سواء كانوا أعمامه أو إخوانه أو أبناء أعمامه، ويكنُّ لهم كل احترام ومحبة، كما أن معاملته مع مرافقيه المعروفين ب(الخويا) هي معاملة الأخ لأخيه، فلا يجرح شعور أحد منهم، ولا يمس أحداً بأذى؛ لأن لديه من التواضع ورزانة العقل ما يجعله لين الجانب؛ إذ إنه يقدر كبير السن ويعطف على الصغير ويهتم بالفقراء والمساكين، وهو يتمتع بخصال حميدة كثيرة، فهو لا يقبل النميمة ولا التشهير ولا التجريح بأحد، ولا يقبل التملق وكثرة المبالغة، وهو يحب عمل الخير ويفضل ألاَّ يطلع عليه أحد من المخلوقين، ولا يحب أن يقول: عملنا لفلان أو أعطينا فلاناً، فهذه من خصاله وأعماله الخيرة قبل أن يتولى أي منصب، وهو أيضاً لا يتجاوز الأنظمة أو الإخلال بها، ويحرص أشد الحرص على عدم مخالفة ما يصدر من التعليمات من جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه. ومما يدل على ذلك أن مَن يكونون في القنص ويجتازون الدهناء إلى الصمان والدبدبة والحدود الشمالية كانوا إذا احتاجوا بعض الأشياء الضرورية التي يتطلبونها يرسلون سيارة إلى الكويت لإحضار ما يحتاجون إليه؛ لأنه - في ذلك الوقت - لم تكن توجد مراكز بين المملكة والكويت تمنع السيارات. وفي عام 1369ه كان الملك فهد - رحمه الله - في القنص، ومعه إخوانه الأشقاء الأمير سلطان والأمير عبد الرحمن والأمير تركي والأمير نايف والأمير سلمان والأمير أحمد، وكانوا في الحدود الشمالية للقنص، عند ذلك أمرني الأمير فهد أن أُحضر بعض الاحتياجات التي يحتاجون إليها، وكان أقرب بلد لنا هو حفر الباطن، ولم يكن فيه إلا قصر الإمارة والآبار التي تشرب منها البادية في الصيف، فأمرني - رحمه الله - أن أذهب إلى الكويت لإحضار هذه الاحتياجات، وأن أذهب إلى أمير حفر الباطن حينذاك صالح بن عبد الواحد رحمه الله، وأعطاني كتاباً لأذهب إلى الكويت في سيارة المركز، وقال لي: (إن مخيم الأمير فهد مملوء بالسيارات التابعة لهم فكيف تحتاجون إلى سيارة المركز؟!) فقلت له: (لا بدَّ أن نظر الأمير فهد أبعد مما تتصوره، وهو أدرى بذلك). وفعلاً ذهبتُ بسيارة المركز، وكانت أوامر الأمير فهد لي أنني حينما أشتري ما يلزم من احتياجات وأعود إلى حفر الباطن يجب أن أوقف السيارة في جمرك الحفر للاطلاع على ما تحتويه السيارة، وهذا من بُعد نظره رحمه الله؛ حيث رأى ألاَّ يتجاوز الأوامر الصادرة من الملك عبد العزيز؛ حتى لا يقال: إن سيارات الأمير فهد دخلت الكويت وهرَّبت بضائع. وعندما أنهينا إجراءات الجمرك في حفر الباطن استلمنا بياناً من الجمرك ليطَّلع عليه الأمير فهد. وهذا مثال يدل على بُعد نظره وحسن تصرفه بتطبيقه للأنظمة واحترامه لها. والحقيقة أن هذا قليل من كثير، ولو كتبنا ما نعلم عنه - رحمه الله - من الصفات الجليلة والخصال الحميدة لملأنا الصفحات الكثيرة، ولكن كما يقول المثل: (ما كلُّ ما يُعلم يُقال). ونودُّ أن نتكلم عن الوقت الذي تولَّى فيه الملك فهد - رحمه الله - مقاليد العمل الحكومي؛ إذ كان أول وزير للمعارف ونهض بالعلم في أنحاء المملكة، وكان - رحمه الله - حريصاً كل الحرص على تأسيس وزارة المعارف على أسس متينة، فعيَّن الرجال المخلصين الذين تتحقَّق بهم التطلعات ويسيرون على توجيهاته، حتى وصل التعليم في المملكة إلى ما وصل إليه من تقدم وازدهار، وإن أول جامعة أنشئت في الرياض كانت زمن توليه وزارة المعارف، وهي المعروفة اليوم بجامعة الملك سعود، وعندما اكتمل البناء الأول لهذه الجامعة التي كانت بدايتها بتبرُّع من سكان الرياض ومتابعة من أمين مدينة الرياض حينذاك الأمير فهد بن فيصل آل فرحان - رحمه الله - أمر الأمير فهد أن يتسلم الأستاذ ناصر المنقور الجامعة، وعيَّن لها مديراً حينذاك هو عبد الوهاب عزام تحت إشراف وزارة المعارف. وتحققت الطموحات والتطلعات له - رحمه الله - بعد تولِّيه منصب وزير المعارف، كما أنه - رحمه الله - عندما عُيِّن وزيراً للداخلية أرسى قواعد الأمن على أسس سليمة، ونتج عن ذلك هذا الأمن والاستقرار الذي تعيشه بلادنا. وبعد تعيينه - رحمه الله - ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء تحققت النهضة العظيمة للمملكة العربية السعودية في جميع المجالات، فعادت على البلاد بالخير حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من تطور وازدهار. وقد كان من أهم المشروعات الخيرة والجبارة التي أولاها الملك فهد - رحمه الله - جل اهتمامه وأشرف عليها واطَّلع على مخططاتها وتابع مراحل تنفيذها شخصياً توسعة الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وإنشاء الطرق في مكة المكرمة، ووضع الميادين، وشق الأنفاق في الجبال، كل ذلك اهتم به - رحمه الله - لخدمة الإسلام والمسلمين حجاج بيت الله الحرام الذين يصل عددهم إلى مليوني حاج سنوياً. وكان من أهم المشروعات كذلك توسعة حرم المدينة المنورة وميادينها التي كلَّفت نزع ملكيتها مليارات الريالات، كل ذلك بتوجيهاته وإشرافه رحمه الله. وقد أضاف لبنة خير في المدينة النبوية بتأسيس مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة الذي طُبعت منه ملايين النسخ وتم توزيعها على العالم الإسلامي والمراكز الإسلامية في جميع أنحاء العالم في أرقى أنواع الطباعة والتجليد، وكذلك طباعة تفسير القرآن الكريم بلغات عديدة تم توزيعها على الجاليات المسلمة في كل مكان، وقد وجدت هذه المشروعات الخيرة كل الدعم والمتابعة والاهتمام والإشراف منه - رحمه الله - حتى وصلت إلى المستوى المشرِّف، فنالت هذه المشروعات الإعجاب من جميع المسلمين في كل مكان. وقد اهتم - رحمه الله - بإنشاء الطرق التي اخترقت صحاري المملكة وجبالها وعمَّت المملكة من غربها إلى شرقها ومن شمالها إلى جنوبها، فأصبحت المملكة من الدول المتقدمة لوجود شبكة طرق نُفِّذت وصُمِّمت على أحسن مستوى وبأرقى تصميم. وقد أولى الملك فهد - رحمه الله - جل اهتمامه للجانب الزراعي، فصدرت التوجيهات بإنشاء البنك الزراعي الذي أعطى المزارعين قروضا ًطويلة المدى دون فوائد، ومن هذه القروض قسم غير مردود. وكذلك أعطى وزارة الزراعة والمياه الصلاحيات المطلقة لمنح المواطنين أراضي شاسعة يمتلكونها بعد مدة قليلة من إحيائها. وفي الميدان العمراني أنشأ الملك فهد - رحمه الله - الصندوق العقاري الذي نهض بجميع المدن والقرى وهجر البادية بقروض مجزية طويلة الأجل؛ مما حقق نهضة عمرانية عمت أرجاء المملكة، وكذلك مشروعات التنمية الصناعية بدعم من صندوق التنمية الصناعية الذي قدَّم قروضاً بمئات الملايين طويلة الأجل دون فوائد نهضت بالصناعة في المملكة العربية السعودية. وخير شاهد على ذلك الهيئة الملكية في الجبيل وينبع لإقامة قاعدة صناعية ضخمة وضعت المملكة في مصافِّ الدول الصناعية الكبرى المتقدمة. كما صدرت توجيهاته - رحمه الله - بمنح الشركات المساهمة أراضي ومساعدات وامتيازات وقروضاً حتى اكتفت البلاد بما تحتاج إليه وكانت قبل ذلك تستورده من الخارج. كما قامت كثير من الشركات باستعمال الخامات المحلية كشركات الأسمنت وشركة الجبس الأهلية وشركة الأسمنت الأبيض وغيرها. ومن أعماله الجليلة - رحمه الله - توجيهاته السامية للوزارات والمصالح الحكومية بما يحقق الأمن والاستقرار وإنجاز المشروعات التي تعود بالخير على الوطن والمواطن. ومن المشروعات العظيمة التي تمَّت بتوجيهاته ومتابعته الشخصية - يرحمه الله - مشروع تحلية مياه الشرب من الجبيل التي مدَّت أنابيبها مع الصحاري والرمال إلى مدينة الرياض والقرى المجاورة لها، ومدّ أيضاً خطوط الأنابيب لسقيا مدن سدير والقصيم وغيرها من القرى والهجر المجاورة لها، ومشروعات مد الأنابيب إلى مدينة حائل وما جاورها من مدن، وكذلك محطات التحلية في جدة على البحر الأحمر التي أُقيمت لمد المياه إلى جدة وما حولها وإلى مكة المكرمة وما حولها، وكذلك محطات التحلية التي وُضعت على ساحل البحر الأحمر لمدّ أنابيب اخترقت جبال كرا لسقيا الطائف وغيرها من المدن المجاورة بالمياه العذبة المحلاة من البحر، ومثلها مشروع التحلية المقام في ينبع البحر على البحر الأحمر لسقيا مدينة ينبع وما جاورها من المدن على الساحل الشمالي، ومد الأنابيب إلى المدينة المنورة وما حولها، وكذلك مشروع التحلية في جازان لسقيا مدينة جازان وما حولها من مدن الساحل من المياه المحلاة من البحر، ومد أنابيب المياه مع السروات وجبال عسير لسقيا مدينة أبها ومدينة خميس مشيط وما جاورهما من القرى. ومن المشروعات حفر الآبار في جميع المدن والقرى، وجلب معدَّات تحلية غير ما استُخرج من البحر، ووضع السدود التي أفادت منها البلاد في تخزين مياه الأمطار، ومنها سد نجران الذي أفادت منه مدينة نجران وما حولها، كذلك سد جازان وسد أبها وسد بيشة العملاق وسدود كثيرة لو أردنا أن نتحدث عنها لملأنا الصفحات من المشروعات الخيرة. أما على الساحة الدولية، فالملك فهد - رحمه الله - له جهود جبارة على جميع الأصعدة، وأهمها القضية الفلسطينية، وهي القضية الأولى للمسلمين والعرب التي أولاها اهتماماً خاصاً؛ إذ قام بالدعوة إلى عقد قمم إسلامية عدة عُقدت برئاسته - رحمه الله - أو شارك فيها وقدَّم فيها ما يدعم الحق الفلسطيني وإعادة أرضه المغتصبة ظلماً وعدواناً، وكان ذلك الدعم في المجال السياسي، كما كان في الجانب المادي؛ إذ تبرعت المملكة بمئات الملايين من الريالات للفلسطينيين، ومن ذلك ما تم من إنشاء صندوق الأقصى الذي قدمت المملكة فيه من التبرع ما يواسي أبناء الشعب الفلسطيني. كما أننا لا ننسى الموقف النبيل للملك فهد - رحمه الله - في الأزمة العصيبة إثر احتلال العراق دولة الكويت؛ إذ قام - رحمه الله - بدور تاريخي كان له الأثر بعد الله في عودة الكويت وتحريرها من الاحتلال، فقد قام- رحمه الله - ببذل جميع السبل الممكنة لعودة الكويت، وتم ذلك بتوفيق من الله ثم بالحنكة السديدة، وقد سخَّر جميع إمكانات المملكة على جميع الأصعدة، فسجَّل التاريخ للملك فهد بن عبد العزيز الدور الريادي في عودة دولة الكويت وتحريرها من الاحتلال. ولا ننسى تلك المشاعر عندما أعلنت دولة الكويت حكومة وشعباً أساها وحزنها على فقيد الأمة الملك فهد رحمه الله؛ فقد تحدث الجميع عبر وسائل الإعلام عن بالغ حزنهم وخالص دعائهم بأن يغفر الله للفقيد، وأن يسكنه فسيح جناته، ولن ينسوا ذلك الموقف التاريخي للملك فهد - رحمه الله - تجاه الكويت وشعبها. كما أن للمملكة العربية السعودية ممثلةً في الملك فهد رحمه الله جهوداً جبارة في مجالات الإغاثة والإعانة، فلا تجد دولة حدثت لها نكبة إلا وتجد مبادرة كريمة تغمرها العاطفة من الملك فهد - رحمه الله - بتقديم الإغاثة لهؤلاء المنكوبين أو اللاجئين، ومنها ما تم تقديمه لدول منها: أفغانستان، والبوسنة والهرسك، والشيشان، والسودان، واليمن، وباكستان، وبنجلاديش، ودول إفريقيا، وغيرها من الدول المنكوبة؛ إذ أُرسلت هذه المعونات بشكل عاجل بأمر من الملك فهد رحمه الله، مصطحبةً معها المواساة لهؤلاء المنكوبين. هذه نبذة قليلة من مشروعات الخير والنماء التي تحقَّقت في عهد الملك فهد - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - يحفُّ بها الأمن والاستقرار الذي تنعم بها هذه البلاد في ظل كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتحكيم الشرع المطهَّر ونصرة المظلوم ودحْر الظالم والعدل والمساواة بين الناس بالحق وإعطاء كل ذي حق حقه، فنسأل الله العلي القدير أن يرحم فقيد الأمة الملك فهد بن عبد العزيز، وأن يديم على هذه البلاد أمنها وقيادتها، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - يحفظه الله - وسمو ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز يحفظه الله.
|