أهدى إليَّ صاحب عزيز رواية شيفرة دافنشي تأليف داون براون، وكتب على غلافها هذه العبارة (ترجمت إلى أكثر من 50 لغة وطبع منها أكثر من 8 ملايين نسخة) هالني الرقم وعادت بي الذاكرة إلى الكتب العربية التي طبع منها الملايين، وأول ما اتقد في الذهن كتاب الشيخ عائض القرني (لا تحزن)، فتساءلت ما سر هذا الحزن في النفس العربية؟، وما سر الإقبال على هذا النوع من الكتب النفسية؟ وقبل الجواب عن ذلك تذكرت عاجلاً عنوانات كتب الحزن فاتقد في الذهن أيضاً كتاب راضي صدوق الحزن أخضر دائماً وإعجاب الفتيان العرب برواية فرانسواز ساغان (صباح الخير أيها الحزن). حتى قال أحد الكتاب (يحتل الحزن أكثر المساحات في أرواحنا، له أحلى وأجمل الأشعار والأغاني.. صوته الأكثر صدقاً لبلاد تنتشر فيها القبور.. حتى في أعراسنا نغني عن افتراق المحبين). وجر ذلك الذاكرة إلى الذكرى والشجن صدقاً. الحزن عليك لا يفتر سيدي، يعتصر الفؤاد حتى يكاد يختنق بدموعه، ويشرق بملوحتها، كل المفازات لم تعد رحبة وكأنها سم الخياط، هنا ظلام وذهول، واليل تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ على رأي الشاعر الجاهلي، فأي حزن تبعثه الأشياء في هذا الصمت المخيف، لقد تجاوز الحزن المطر يا سياب، فالشعر محتج والقافية مقيدة، تعال فانظر بأي حرمان نستقبل الصباح، وبأي بكاء نودع النهار، فالحزن في كل مكان كما قال الروائي العربي ذات يوم حزين من عام 1960م، لم تزل سيدي تحتفظ ذاكرتي بحديثك عن طقوس الحزن وتصرفات المحزونين فقلت لك إن أصدق ابتسامة هي التي تخرج من بين الدموع شاهدة على اجتماع ضدين في لحظة واحدة وفي عين حزينة وثغر مبتسم في محيا واحد. أتذكر حين قلت لك إني أحرص دائماً على رؤية الابتسامة في ثغر أي طفل يبكي أمامي مهما كلفني ذلك فقاطعتني لتحدثني عن أشهر ابتسامة في التاريخ، ابتسامة موناليزا أو الجيوكاندا وهي لوحة فنية رسمها الإيطالي ليوناردو دا فنشي، وقد بدأ برسم اللوحة في عام 1503، وانتهى منها بعد ذلك بثلاث أو أربع سنوات. تعد هذه اللوحة من أكثر اللوحات شهرة في العالم، ذلك أن ما يميزها هي تعابير وجه المرأة المرسومة، وابتسامتها الخفية. وقد جلب ليوناردو الصورة إلى فرنسا عام 1516 واُشتريت من قبل ملك فرنسا فرنسيس الأول. ووضعت الصورة أولاً في قصر شاتوفونتابلو ثم نقلت إلى قصر فرساي، وبعد الثورة الفرنسية علقها نابليون الأول بغرفة نومه، واللوحة تعرض حالياً في متحف اللوفر في باريس بفرنسا. فقاطعتك وقلت إن أعظم ابتسامة هي ابتسامة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها في وجه المصطفى وهي تحتضر خشيةً عليه من الحزن لفراقها، تصور ذلك الموقف والروح تُنْتَزَعُ من الجسد بكل أَلَمٍ وقوة، وصاحبها يبتسم لمن جلس عند رأسه رضا ورحمة، لقد حزن عليه حتى جاءت حادثة الإسراء والمعراج تسليةً له صلى الله عليه وسلم، فالعظماءُ يحتاجونَ لتسليةٍ من هذا النوع تليق بالبكاء عليهم سيدي. كيف يمكن للغياب أن يكون عادياً على مَنْ هو حاضر الدمعة، رقيق المشاعر، شديد الخوف من الله جل وعلا، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله...) الحديث.. وقام ليلة يصلي فلم يزل يبكي، حتى بل حجره! قالت عائشة: وكان جالساً فلم يزال يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته! قالت: ثم بكى حتى بل الأرض! فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: (أفلا أكون عبداً شكورا؟ لقد أنزلت عليَّ الليلة آية، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها! {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} الآية. يَبكي المصطفى ويَبكي الصحابةُ لبكائه بأبي هو وأمي وهو المختار من ذرية آدم ليكون خاتم النبيين، وليعطي مَنْ بعده درساً في تقبل الحزن والابتلاء، وعلى قدر الإيمان يكون ذلك حتى إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يشكون في إيمان مَنْ لا يُبتلى، هي الدنيا مَنْ عرفها لم يرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء قد جعلها الله دار بلوة، وجعل الآخرة دار عقبى. ومن يمعن الفكر وينعم النظر في حياته صلى الله عليه وسلم يجد أنه اُبتلي بأشد الابتلاء فصبر واحتسب ولم يخرجه ذلك من رضاه على ربه حتى قال (إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي)، اُبتلي في نفسه، وقومه، وعرضه. وأحب أن نقف مع عام الحزن ذلك العام الذي عصف بفؤاده صلى الله عليه وسلم حيث توفي عمه أبو طالب، ومما زاد الحزن عليه أنه توفي كافراً، فعن سعيد بن المُسيَّب عن أبيه أنه أخبره أنه قال (لما حضرت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك ما لم أنهَ عنك فأنزل الله تعالى فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، قال ابن هشام، أحد كتاب السيرة: كان أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم عضداً وحرزاً في أمره، ومنعة، وناصراً على قومه، وذلك قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنوات، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه التراب. وتوفيت زوجته خديجة رضي الله عنها في ذلك العام لعشر خلون من رمضان، وهي في سن خمسة وستين عاماً بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام، وفي رواية أخرى بشهرين وخمسة أيام، ففقد أهم شخصيتين في أصعب الظروف (شخصية تمثل العالم الخارجي له ولدعوته، وشخصية تمثل العالم الداخلي)، فاستحق ذلك العام أن يُسمى عند أهل السير بعام الحزن. لقد غاب الحبيب في وقت الحاجة، ومما زاد فرجتها ما يلاقيه من استهزاء وأذى من قريش وما جره الحصار عليهم في الشعب، أين ذاك الوجه الذي يدفع الحزن والضيم بكلمات ترفع من المعنويات وتتحطم على جوانبها خلجات الحزن ومرارة الخذلان، تصوروا زوجة تبتسم رضا في وجه زوجها وهي تحتضر ونفسها في النزع الأخير، تصوروا زوجة تتبع زوجها في الوهاد والفيافي والجبال بالأكل والطعام خارج مكة (أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)، فالله أكبر تخفي عنه ما يعصرها من ألم نتيجة نزع الروح خشيةَ أن يراها فيحزن، الله أكبر أي امرأة خديجة تلك التي تخشى على زوجها من الحزن بعدها وقد تزوج المصطفى بعدها بنساء كثير ولم ينسَ السيدة الأولى، ما أعظم وفاء رسول الله لها، لأنها راجحة العقل، قوية العزيمة ولا أدل على ذلك من جوابها على حديث جبريل أن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام، ورحمة الله وبركاته، ما أجمل الخطاب وما أروع الإجابة (يا رسول الله)، تقطر أدباً واحتراماً وتقديراً للزوج الحبيب الذي لم ينسها ألبتة حتى قالت عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد). ولم ينسَ صلى الله عليه وسلم صوتها بعد سنين طويلة فقد استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة، على النبي الكريم، فارتاح لذلك الصوت الذي يشبه صوتها فقال اللهم هالة، فغارت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما تذكر من عجوز، من عجائز قريش حمراء الشدقين، يعني ليس في فمها سن، فقد جاء في مسند أحمد عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها قال ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء). فغضب على عائشة حتى خافت فقالت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بالخير، وقد جاء في الحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خيرُ نسائها مريم ابنة عمران وخير نسائها خديجة)، وفي مسند أحمد أيضاًَ عن ابن عباس قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط قال تدرون ما هذا فقالوا الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران رضي الله عنهن أجمعين). أذكر أنك سيدي سمعتني حتى انتهيت وكنت مستمعاً ومنصتاً بذهول وطلبت مني بعد ذلك كتاباً في السيرة النبوية لتقف على جوانب مهمة من حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ والله من وراء القصد.
(*) الإمارات العربية المتحدة
|