عهدي بالشاعر عبد الله بن ثاني كاتباً في صحيفتنا الغراء (الجزيرة) يكتب مقالات من العيار الثقيل، ولعل شاعريته ظهرت حديثاً على الكبر، وهذا ليس غريباً؛ فقد قالوا إن النابغة الذبياني الشاعر الجاهلي المشهور ظهرت شاعريته بعد الأربعين، ولذلك سمَّوْه النابغة، وهو من بني ذبيان، فسُمِّي الذبياني، وهو أحد أشعر الشعراء الأربعة، قالوا: أشعر الشعراء امرؤ القيس إذا ركب (شعر الأسفار)، والأعشى إذا طرب (شعر الخمر)، وزهير بن أبي سلمى إذا رغب (رغب في عطاء الحارث بن عوف وهرم بن سنان)، والنابغة إذا رهب (خاف عقاب النعمان بن المنذر؛ لأنه تغزَّل في أخته في قصيدة المتجرِّدة، فأقسم النعمان ليقتلنَّه، فكتب عدة قصائد يعتذر فيها إلى النعمان)، ومنها: أتاني - أبيتَ اللعن - أنك لُمتني وتلك التي أنصب منها وأغضبُ أتاني - أبيتَ اللعن - أنك لمتني وتلك التي تستكُّ منها المسامعُ ومنها البيت المشهور الذي ضُرب به المثل فقالوا (ليلة نابغية): فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ من الرقش في أنيابها السمُّ ناقع ومن أشهر قصائد النابغة قصيدته التي ألحقوها بالمعلقات، ومطلعها: يا دار ميَّةَ بالعلياء فالسندِ أقوت وطال عليها سالف الأمدِ ومنها البيت المشهور الشاهد على أداة الاستثناء (حاشا): ولا أرى واحداً في الناس يشبهُهُ وما أحاشي من الإخوان من أحدِ وما أحاشي: أي لا أستثني، (ولا علاقة له بالحاشي ولا القعود). ونبغ الأعشى حتى صارت تضرب له خيمة في عكاظ ويتحاكم إليه الشعراء، وقد حكم للخنساء (تماضر بنت عمرو) بأنها أشعر النساء، فغضبت لأنه لم يقل إنها أشعر النساء والرجال. وإلى القصيدة: العنوان (وشاح الدلال)، والوشاح: شيء ينسج من أديم (جلد) عريضاً، ويرصع بالجواهر، تشدُّه المرأة بين عاتقيها (كتفيها)، والوشحاء: العنز الموشَّحة ببياض، والدلال (الدلع في العامية) الانبساط، عكس الانقباض، والدلال فيه التمنع والمماطلة والتفاخر والتكبر وله عليه دالة (بيمون) كما تقول العامة.. قال حافظ إبراهيم يعاتب صديقا له لم يصله منه كتاب (رسالة أو جواب باصطلاح المصريين (الأحبة): أدلال ذاك أم كسلُ أم تناسٍ منك أم مللُ أم - وقاك الله - في كدرٍ أم على الأعذار تتكلُ قد مضى شهر وأعقبه ضعفه والفكر منشغل أي (3 أشهر) لا كتابٌ منك يطفئ ما في فؤادي بات يشتعلُ لا ولا ردٌّ يعللني لو على التسليم يشتمل وقصيدة شاعرنا (الثاني) من البحر الخفيف: يا خفيفاً خفت به الحركاتُ فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن 1- أخمُارٌ أم شطحةٌ من خيالِ أم سرى طيف من أحبُّ ببالي؟ والخُمار بالضم غطاء الرأس للمرأة والشطحة ما يقوله المتصوفة في حالة الغيبوبة وسرى: سار ليلاً والطيف: الخيال والشاعر شطح به الخيال لرؤية الخمار فكيف لو رأى ما تحته، والطيف يمر بالبال يراه اليقظان مغمض العين قال جورج جرداق فيما غنت أم كلثوم (هذه ليلتي): فادنُ مني وخذ إليك حناني ثم أغمض عينيك حتى تراني ومطلع قصيدة هذه ليلتي: هذه ليلتي وأنس حياتي بين ماضٍ من الزمان وآتِ حرفها بعضهم: (هذه زوجتي وتلك حماتي) والبيت الأول ذكرني ببيت حافظ إبراهيم: شبحاً أرى أم ذاك طيفُ خيال لا بل فتاةً بالعراء حيالي وسرى الطيف.. قال الشاعر: نعم سرى طيف من أهوى فأرقني والحب يعترض اللذات بالألمِ والطيف سريع شبهوا العمر به: العُمر مثل الطيف أو كالضيف ليس لهُ إقامه 2- صاحِ ما بي من الهُيام دعاني مستهاماً أبلّ بعد اعتلالِ صاح: يا صاحبي وحذف الباء يسمى الترخيم قال ابن مالك: ترخيماً احذف آخر المنادى كيا (سُعا) فيمن دعا سعادا والهيام: الجنون من العشق والمستهام مثله.. وأبل : شفي بعد اعتلال: بعد مرض. وندعو (يا مثبت العقل والدين). أرجعتنا لمجنون ليلى 3- أذكرتنيه طلعةَ البدر لمّا جاء في موكب النجوم اللآلي مجيء البدر في مواكب النجوم المتلألئة أذكره بصاحبة الخمار والطيف والخيال. وتشبيه الحبيب بالقمر ما أكثره، قالت فايزة احمد: يمّه القمر ع الباب نوّر أناديلو (مصابيحه) يمه أرد الباب ولا أناديلو (أناديله) 4- وتهادى بتاجه دون كبرٍ في وشاح الدلالِ والإجلالِ وتذكير الحبيب المؤنث معروف: - يا جميل يا جميل يا جميل على حبك بان لي دليلْ - حبيبي لما يوعدني تبات الدنيا ضحكالي - حبيبي حبيب يكتم الناس أنه لنا حين تلقانا العيون حبيب (أبو تمام) أما الوشاح والدلال فعرضنا لهما عند معالجتنا العنوان والتاج: هل هو الخمار أم تاج الجمال، دون كبر. تكبر الحبيب (الحبيبة) مطلوب دون التواضع: (أصون كرامتي من قبل حبي). والتاج والجمال والصبا: الصبا والجمال ملك يديكِ أي تاجٍ أعزُّ من تاجيكِ؟ 5- فكأن الزمان أعطى أماناً من شبيه له فليس يبالي والبيت معقد: من شبيه له: شبيه لمن؟ الضمير يعود على أقرب اسم وعلى ذلك فالهاء تعود على الزمان.. ثم ليس يبالي.. لا يبالي بماذا؟ والزمان لا يعطي ولا يمنع، ولا مانع من ذكر بيت البحتري في سينيته: وكأنّ الزمان أصبح محمو لاً هواهُ مع الأخسِّ الأخسِّ 6- أتلع الجيد صاغه من نضارِ حين صاغ الأنام من صلصالِ وأتلع الجيد: طويل العنق وهو ذهبي (من نضار) بعكس البشر من صلصال: من طين قال تعالى {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}، وقال سبحانه {مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} وطول العنق جميل (زرافة) ويلزمه قرط طويل (زي حلق وردة الجزائرية). 7- غير أن العيون بها سهام ثقَّفتها الصبا بسحرٍ حلالِ والسهام في العيون قديمة: ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضتْ وقع السهام ونزعهن أليمُ والسهام لا تثقف وإنما تثقف أعواد الرماح بعرضها على النار لتشتد وتقوى. قال ابن زيدون في رسالته الجدية: (فهل أنا إلا يدٌ أدماها سوارها، وجبين عضّ به إكليلُه، وسمهري (رمح) عرضه على النار (مثقفه) ومنه الثقافة culture والصِّبا (مذكر) ولعله يقصد (الصَّبا) ريح خفيفة تهب على نجد من الشرق: ألا صبا نجد متى هجت من نجد؟ لقد زادني مسراك وجداً على وجدِ والسحر الحلال يقال عن الكلام الجميل وفي الحديث الشريف: (إن من البيان لسحراً، ومن الشعر لحكمة). والبيت ألفاظ سهلة ومضمون الله أعلم به. 8- واحمرار الغروب في وجنتيها طار منها الصواب قبل عقالي والوجنتان (الخدان) فيهما احمرار الغروب الشفق الأحمر الذي بمغيبه يخرج وقت المغرب، وإذا ذهب فماذا يحصل للوجنتين؟ الصواب: الصح ويقال عنه العقل والعقال طار من على رأسه، أم الذي طار العقل لا العقال (والحال من بعضه). ولأول مرة نلحظ التأنيث (وجنتيها). 9- بارقٌ لاح للعطاش بقيظ دونه طعنة الرماح الطوالِ والبارق (البرق) صادق أو كاذب (خُلَّب): قال حافظ: إيه يا دنيا اعبسي أو فابسمي ما أرى برقك إلا خُلَّبا أما الصادق فمنه بيت النبط: سرى البارق اللي له زمانين ما سرى صدوق المخايل بريقه يجلب الساري والرماح الطوال: أحسن: الرماح العوالي.. قال صفيّ الدين الحلي: سل الرماح العوالي عن معالينا واستشهد البيض هل خاب الرجا فينا والبيض السيوف، ومنها البيوت المشهور: بيضٌ صنائعنا، سود وقائعنا خضر مرابعنا، حمرٌ مواضينا والمواضي: السيوف.. حمر من دماء الأعداء وصفيّ الدين الحلي أخذ من المرقش الأكبر (جاهلي): بيض صنائعنا، تغلي مراجلنا نأسو بأموالنا آثار أيدينا والصنائع البيض: هي المعروف، وفي الحديث الشريف: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء). والمراجل: القدور فيها الذبائح (كرم) والقدور (الطناجر والحلل الكبيرة)، نأسو: نداوي آثار أيديهم: القتلى أي أنهم يدفعون الديات لمن يقتلون. 10- ظامئٌ قد أودعتها في عروقي كم أقامت على العيون الخوالي والصحيح أنني ما استطعت إعادة الضمائر لأهلها إلا أن يكون أودع الرماح في عروقه قال أبو فراس: (إذا متُّ ظمآنا فلا نزل القطرُ) وقال الحسين بن مطير: فلا نزلت عليَّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا والعيون الجافة لا الخوالي والخوالي صفة الأيام الماضية: قال المجنون: (تذكرت ليلى والسنين الخواليا) وقال أحمد فتحي في قصة الأمس التي غنتها الراحلة كوكب الشرق أم كلثوم: ذكريات داعبت أفق خيالي بارقاً يلمع في جنح الليالي نبهت قلبي من غفوتهِ وجلت لي ستر أيامي الخوالي أما الخوالي من العيون (عيون الماء) فهي خالية من الوُرّاد (المستقين) 11- تمتطي صهوة الغياب بعدها جاثٍ تحت عرش الجمالِ والصهوة مؤخرة السنام واستعيرت للحصان (ظهره) وصهوة الغياب (استعارة مكنية) يعني غائبة، جاثٍ: على الركبتين قال تعالى {وَتَرَى كُلَّ أمة جَاثِيَةً}والعرش كرسِي الملوك throne وعرش الجمال (استعارة مكنية). ولعل الشاعر استوحى شوقي: الله في الخلق من صب ومن عاني يفني الجمال ويبقى حسنك الفاني صوني جمالك عنا إننا بشرٌ من التراب وهذا الحسن روحاني أو فابتغي فلكاً تأوينه ملكاً لم يتخذ شركاً في العالم الفاني 12- أنتِ الصباح مني بعيدٌ يصطلي في ديجورها كل صالِ أين أنتِ؟ الصباح مبتدأ وبعيد خبر والديجور الظلام ولعله يتكلم عن سود العيون: قال جرير إن العيون التي في طرفها حورٌ قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهنّ أضعف خلق الله إنسانا والحَوَر: شدة سواد سواد العين وشدة بياض بياضها وهي عيون المها (بقر الوحش) قال علي بن الجهم: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدرى ولا أدرى أما عيون البقر الإنسي فهي تميل إلى الاحمرار قال أبو الطيب غاضباً: عليَّ نحت القوافي من مكامنها وما عليّ إذا لم تفهم البقرُ 13- فاسألي الليل حين قام بعيني يبتغي ثأراً فوق ظهر السعالي والظاهر أن أهل الشاعر كانوا يخوفونه بالسعالي والغيلان وهو صغير.. قال الشاعر: لقد رأيت عجباً مذ أمسا عجائزاً مثل السعالي خمسا يأكلن ما في رحلهن همسا لا ترك الله لهن ضرسا 14- هتف الحسن من هواك ولبى وأصاختْ لرجعه أطلالي إذا هتف الحسن فالمفروض أن يُلبَّى لا أن يلبِّي وحكمة أصاخت لا تعجبني ماذا لو قلت أنصتت؟ والأطلال خرائب بالية: بليتُ بِلى الأطلال إن لم أقف بها وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمهْ لمن طللٌ أسائلهُ معطلةٌ منازلهُ لمن طللٌ بذات الجي شِ أمس دارساً خَلِقا كتبت هذا لمن يظن الأطلال شيئاً جميلاً قياسا على أطلال أم كلثوم. 15- وتخلت لك الذُرا في سماها فأصابت بفرقديك الليالي والفرقدان ينيران ويضيئان الليالي وليسا مصيبة تصيبها، تخلت لك الذرا، تفضلي واجلسي محلها. 16- هذه الدنيا كم تفانوا عليها كيف هانت من أجل عين الغزالِ قال أبو الطيب: ومراد النفوس أصغر من أنْ نتعادى فيه وأن نتفانى وعين الغزال تستاهل، وعين الغزال بلد في فلسطين. أما بعد: فقد كنت في معالجتي هذه القصيدة أنحت من صخر وعادتي أن أغرف من بحر.
نزار رفيق بشير /الرياض |