صدرت الأوامر الكريمة بزيادة رواتب الموظفين في القطاع العام وزيادة مخصصات الصناديق المتخصصة كنتيجة طبيعية لحالة الوفرة الاقتصادية التي نعيشها في هذه الأيام وكنتيجة طبيعية لزيادة قدرة الدولة على الإنفاق بعد الزيادة الكبيرة في الإيراد الحكومي المنسوب في مجمله إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية إلى مستويات قياسية. وإذا كنا نعلم بأن هذا الارتفاع لن يستمر طويلاً إما لأسباب اقتصادية أو لأسباب سياسية، فإن المنطق السليم يفرض علينا الاستعداد الكامل لإدارة هذه الوفرة الاقتصادية بالطريقة التي تحقق أفضل عائد ممكن وتكفل تحقق أسس التنمية المستدامة التي ربما لم نكن قادرين على تحقيقها إبان فترة الوفرة أو الطفرة السابقة. وفي هذا السياق أرى أن من أهم المطالب الفنية لإدارة الوفرة الاقتصادية العمل على تعميم النظرة الشمولية عند التعامل مع المشاريع الاستثمارية أو إقرار آلية الاستفادة من الأراضي الحكومية والبلدية بحيث لا يكون العائد المباشر هو المحدد الأهم لإقرار المشروع أو تأجير الأراضي للمستثمرين في القطاع الخاص، إذ لا بد من النظر إلى العوائد غير المباشرة على الاقتصاد الوطني والتنمية المجتمعية مثل استغلال الموارد المتاحة وتحسين تنمية المنطقة أو المدينة أو القرية وخلق فرص وظيفية جديدة وغيرها من العوائد التي تحسن من مستوى رفاهية المواطن وتقلل من الضغط على الإنفاق العام. ففي حالات كثيرة نجد أن القطاع الخاص يواجه بتكاليف عالية تحد من قدرته على التوسع في الاستثمار المحلي نتيجة لانخفاض العائد المتوقع وتدفع به قسراً إلى البحث عن البديل المناسب في الدول المجاورة التي تستفيد من التعقيدات الإدارية وقلة المحفزات الاستثمارية لدينا في دعم مكونات اقتصادياتها برؤوس الأموال السعودية التي يفرض عليها المنطق الاقتصادي السليم البحث عن الفرص الاستثمارية التي تحقق أفضل عائد ممكن. وأسوأ ما في الأمر أن الكثير من الفرص الاستثمارية لدينا ظلت معطلة نتيجة لارتفاع تكاليف الاستثمار وقلة المحفزات الاستثمارية مما حرم القطاع الخاص من الفرصة وحرم القطاع العام من العائد المباشر وحرم الاقتصاد الوطني من استغلال الموارد المتاحة وتحسين مستوى تنمية الفرد والمجتمع خاصة أن القطاع العام لا يمتلك المقدرة على القيام باستغلال هذه الموارد ذاتياً مما جعلنا نفقد قدرات وفرص استثمارية هائلة بسبب بيروقراطية إدارية ومالية ضحت بالكثير من أجل القليل. وهنا أجد أننا مع هذه الوفرة الاقتصادية نحتاج إلى إدارة مالية جديدة لا تتوقف عند العائد المباشر لخزينة الدولة وتركز بشكل أكثر على العائد المباشر وغير المباشر على التنمية الوطنية والمجتمعية. ومن المطالب المهمة عند التعامل مع معطيات لهذه الوفرة المالية العمل على توزيع القروض الزراعية والصناعية والعقارية بما يحقق التوازن التنموي بين مناطق المملكة المختلفة خاصة أننا جميعاً نعلم بأن هنالك بعض المناطق التي تفتقر لأسبط مقومات التنمية مما جعلها عاجزة عن تجاوز مرحلة عنق الزجاجة لمرحلة الانطلاق وجعلها عاجزة عن خلق فرص الجذب الاستثماري والاجتماعي. فإذا كان من غير المنطقي بقاء هذه المناطق متخلفة مقارنة ببقية المناطق، فإن الإدارة الفاعلة لهذه الوفرة المالية تتطلب التركيز على المناطق الأقل نمواً وخلق المحفزات الاستثمارية والبنيوية التي تشع القطاع الخاص على الاستثمار في هذه المناطق وتخلق فرص الاستقرار الاجتماعي للأسر وتسهم في تجسير الفجوة التنموية بين أرجاء المملكة المختلفة. وفي ظني أن المرحلة الأكثر إلحاحاً للتخلص من النظرة السائدة لدى بعض الجهات الحكومية التي ترى أن منطوق النظام يجب تطبيقه في جميع المناطق بشكل متساوٍ بغض النظر عن الفوارق التنموية التي تؤثر بشكل مباشر في القرار الاستثماري للقطاع الخاص. ومن المطالب المهمة التي أتمنى على كل من لديه علاقة بإدارة الوفرة الاقتصادية أن يأخذ به أو بأحسن منه الإيمان بأن القطاع العام لا يستطيع أن يكون مسؤولاً عن التنمية الوطنية ولا يمتلك الآلية الفاعلة لاستغلال الموارد والفرص المتاحة مما يعني ضرورة العمل على مد جسور التعاون مع القطاع الخاص الذي يمتلك الدوافع الاقتصادية لتحسين الأداء وتطوير الإنتاج ونبذ الفساد المالي والإداري. هذا اليقين لا بد أن يدفعنا أولاً إلى تبديل الثقافة الإدارية لدينا بثقافة أخرى تقوم على احترام دور القطاع الخاص والشعور بأن له من الفضل الاقتصادي ما يستحق بموجبه الدعم والمؤازرة وتقديم التسهيلات الممكنة وتجاوز التعقيدات الإدارية التي تحافظ عليه من الإغراءات التي تمنح له خارج حدود الوطن، وثانياً إلى وضع استراتيجية وطنية تقوم على إشراك القطاع الخاص في القرار الاقتصادي والابتعاد تدريجياً عن القيام بالأدوار التي أثبتت التجارب المحلية والدولية أنها من أدوار القطاع الخاص. بعبارة أخرى نحن في مرحلة مناسبة جداً لتحقيق الخصخصة التي كنا في السابق ننادي بها ولم نستطع تحقيقها بشكل مناسب لارتفاع تكلفة التحول وقلة مصادر تمويل الخزانة العامة، أما اليوم فإن البترول يقدم لنا فرصة جديدة لبث روح القطاع الخاص ومثالياته في ميادين الإنتاج التي تتناسب والمزايا النسبية لاقتصادنا الوطني ويقدم لنا الفرص لعمل ما يمكن لتخفيف الضغط على الإنفاق العام والمسؤولية عن القطاع العام في توفير سلع وخدمات هي من خصوصيات القطاع الخاص. بشكل عام لدينا فرص نحتاج إلى استغلالها ولدينا مطالب إدارية لا بد لنا أن نتخذها حتى نكون أكثر فاعلية في استغلال الفرصة التي لن تدوم. فهل يتحقق ذلك؟ أتمنى ذلك.. إشارة
حتى لا نستمر نصف أنفسنا بأننا مجتمع استهلاكي لا بد أن نعي الحقيقة التالية (تقاس مقدرة الاقتصاد على تحقيق النمو المستدام بمدى قدرته على رفع نسبة المدخرات إلى الدخل ومدى قدرته على نبذ السلوكيات الاستهلاكية غير المنتجة).
|