|
انت في
|
أي والله كان عبدالعزيز بن فايز خليل صدق ومحبة ووفاء.. وكان نديم أنس وظرف وبراءة.. وكان عف اللسان، مأمون السريرة، صالحا تقياً.. طاب بيني وبينه عيش ومشرب. وصفت بيني وبينه صحبة واخوة، وألفت خلاله وعشقت خصاله.. وعجبت كيف جاد الزمان بمثله، وأنه بأضرابه لبخيل. يقولون عن الاسفار: انها محك الرجال، ومختبر الصداقة، ومظنة الخلف.. وكان اتحاد المشرب وتجانس الهواية، وظروف الزمن.. جعلت اكثر صحبتي لابن فايز صحبة سفر.. لقد طويت معه ربوع الجزيرة مشرقا ومغرباً ومشملا ومجنباً.. فسبرت من خلال ذلك خلقه، وقرأت دخيلته، وعجمت عوده.. فوجدت منه نفساً أبية رضية، وخلقا كنسيم السرح غب المطر، وزجاجة عطر تنفح بما يشوق ويروق. آه كم أمسية في ربوع الجزيرة الوادعة، حططنا الرحل فيها بجانب روضة، أوفي حضن جبل، أو على أديم وعساء، أو على ظهر كثيب.. انتظم فيما هنالك عقدنا، وطالب انسنا، وجرى الحديث بشؤونه وشجونه.. فكان ابن فايز واسطة العقد، وصدر المتحدثين وله القول الفصل بين المعقبين والمعلقين. كان جهيزة المنتدى وجهينته.. يكون الحديث جداً فيضطلع بالجد وكأن على رؤوس المستمعين الطير.. ويكون دعابة فيملأ المجلس مرحاً وفرحا، ويطيب لبعضهم أن يماحكه، أو يضاحكه.. معترضا أو مخالفاً.. فيأبى خلق ابن فائز أن يقابله بالعوراء، أو يجاريه في الهراء.. وإنما يسوق الحديث ويتصيد في أضعافه نكتة تبلغ مبلغها، وهي على شكل دعابة أو في قالب طرفة تنطوي تحتها قصة طريفة ظريفة.. من أمثال: (رحم الله هندا) أو(نحن والذئب نصلح) أو (أسرع قسم) أو (حل مشكل) أو (هنا دار ثريا) وما شاكل هذه الجمل المرموزة الموجزة. وابن فائز مرجع، واسع، ثبت، في انساب القبائل العربية المعاصرة، وأخبارها، وحروبها.. ومرجع أول في الشعر الشعبي في جزيرة العرب منذ عصر بني هلال إلى عصرنا هذا.. وهو راوية لابن سبيل، وسعيدان المطوع، وشعراء وسط نجد بادية وحاضرة.. وحفي بأشعار شمالي الجزيرة وأخبارها، وقصص أهلها، ملم بشعر المصارعات في قلب الجزيرة بين حكامها وقبائلها، وأسرها. وله مشاركة جيدة في حفظ الادب الفصيح وتذوقه، وادراك دقائقه، ومعمياته. كانت آخر رحلة قمنا بها الى (وادي الثمامة) من (العرمة) قبيل وفاته بأيام قليلة، وكان معي جزء من كتابي المخطوط (الشوارد) وكنت أقرأ على رفقة السفر من هذا الكتاب، ونت حينما استدق المعنى أحاول شرحه فيسبقني - رحمه الله - إلى بيان القصد ومغزى البيت. وابرز جانب من جوانب شخصيته الادبية.. أنه شاعر مبدع، بينه وبين فحول الشعراء مطارحات، ومساجلات، وشعره في الذروة من بين شعراء عصره المجيدين. فمن قصيدة له معارضاً قصيدة للشاعر الشعبي فهد الخريجي (ويبدو أنها آخر قصيدة نظمها). يقول منها:
إلى أن قال:
ومن مفاكهاته، ودعاباته الشعرية اننا يوم 1-3- 1392هـ في رحلة بوادي (غبرية) قريبا من (صلبوخ) فكان يوماً مملوءاً بالانس، فطاب له - رحمه الله - أن يفاكه اخوته، ويثني على هذا الوادي، فقال: ان اسمه ليس (غبرية) وإنما هو (العنبرية) فأخطأ في النقط واضعه فصارت (غبرية) تصحيفا.. وتردف ذلك بأبيات حلوة طرية.. قال:
ويحدثنا - رحمه الله - عن المصير الذي آل إليه الآن، وعن مصير كل حي في بيتين كلهما يقين وإيمان فيقول:
طاب لي أن أقف عند الجانب الادبي من جوانب شخصيته العامرة أكثر من سواه، لانه الجانب الذي كاد يكون مجهولاً فيه، لأنه - رحمه الله - لا يحب الظهور، ولا يحاول أن يفرض شخصيته الادبية فرضاً.. إلى جانب أن سوق الادب كاسدة، وبضاعته مزجاة.. وأهله في هذا العصر هم وسواد الناس سواء، وكأنما عناه الشاعر بقوله:
وقفنا عند قبره - رحمه الله - بعد مواراته للعزاء فكان حديث المشيعين الثناء عليه، في أمانته وصيانته، وكفافه، وعفافه، وطاعته وخلقه، ولم أسمع واحداً منهم يقول: أن أحاديث الرجال، والحكم والامثال، والرواية والدراية من عالم أدب الجزيرة قد دفن علم من أعلامه هنا. لقد كنت بجواره في اللحظات الأخيرة من حياته، وهو يجود بنفسه، وتتشبث أنفاسه بالحياة، فيغالبها الموت.. يالله أما كانت هذه الانفاس قبل تمتد وتمتد بما يشوق ويروق، ويعجب ويطرب.. كنت أقول آنذاك: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}. واستذكر قول التهامي:
إننا يا ايا محمد على طريقك سائرون، وإلى مصيرك منتهون، ويحق لنا أن نقول:
لقد وقفت على قبرك بعد ما انفض القوم، فقلت بعد التلقين قول متمم بن نويرة:
رحمك الله، وعفا عنك، وجعل عقبك خير خلف لخير سلف.. وألهمنا معهم الصبر والسلوان.
|
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |