* الجزيرة - خاص: الإسلام دين الأمل والعمل لعمارة الأرض وسعادة الإنسان، لذا يرفض كل سلوك أو فعل يتنافى مع هذا المقصد العظيم واليأس والقنوط من هذه السلوكيات المرفوضة في شريعة الإسلام، لأنهما يعطلان المسلم عن القيام بدوره في رقي مجتمعه وخدمة أمته فضلا عن تحقيق ذاته وطموحه دون تعارض بين العام والخاص.. إلا أن كثيرا من الناس قد يصابون بداء اليأس نتيجة لفشل ما أوضياع أمر ما من رزق أو مال أو فقد ابن أو صديق أو عزيز فيشعرون كما لو أن الحياة انتهت، ويزهدون في العمل ظنا أنه لا جدوى من ذلك، فما هو اليأس؟ وما هي مضاره للفرد والمجتمع؟، وأسباب رفض الإسلام لمثل هذا السلوك؟ وكيف دلتنا الشريعة الغراء على تجاوز لحظات اليأس، ومواصلة مسيرة الحياة. *** جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. *** في البداية يقول د. مسفر بن علي القحطاني رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، اليأس سلوك أو شعور معطل متى تمكن من نفس إنسان والإسلام الذي جاء لسعادة الدنيا والآخرة حذرنا من أي سلوك يضر بالفرد أو الجماعة، وجاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طيرة وخيرها الفأل، قال: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم)، وقد أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رفعه (كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة)، قال الحليمي، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لان التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال. وقال الطيبي: معنى الترخص في الفأل والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك. وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله. وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم المزج بين التفاؤل والتخطيط والعمل، ففي خبر مقدمه - عليه الصلاة والسلام - للمدينة مهاجراً أنه (نزل في علو المدينة، في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف) كما في البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وهذا تفاؤل له ولدينه بالعلو. وفي أوقات الأزمات والشدائد تعظم الحاجة لاستحضار الفأل الحسن، ومن هنا كان - عليه الصلاة والسلام - إذا استسقى بالناس قلب رداءه بعد الخطبة (ثم حوَّل إلى الناس ظهره): ومن الحكمة في ذلك التفاؤل بتحوله عن الحالة التي كان عليها - وهي المواجهة للناس - إلى الحالة الأخرى؛ وهي استقبال القبلة واستدبارهم ليتحول عنهم الحال الذي هم فيه - وهو الجدب - بحال آخر وهو الخصب، والمتأمل في جميع أحواله صلى الله عليه وسلم منذ بداية البعثة وما تعرض له وأصحابه من محن وابتلاءات ما كان حدثه لهم إلا حديث المبشر والواعد لهم بالنصر والتمكين والغلبة ورفع معنوياتهم في أحلك الظروف، أما في غزواته وحروبه التي خاضها صلى الله عليه وسلم مع كثرة عدوه وقلة عتاده ففيها نسمع أحاديث البشارات وأخبار الفتوح للشام، والعراق، واليمن ما لا نسمعه في أوقات السعة والرخاء. الضعف والهوان
ويضيف د. القحطاني: إن حال المسلمين هذه الأيام الشديد الصعوبة وكثرة الأزمات التي تمر بها الأمة والمتراكمة من أخطاء الماضي إضافة إلى ذلك الصورة القائمة من الضعف والهوان الذي تلبس به أجيال الحاضر، وتكرار توصيف هذا الواقع وحديث المآسي والمحن كل ذلك لن تكون نتائجه إلا مزيداً من اليأس والخور والقنوط.. فالنفوس البشرية قد تقادم كل أصناف الشدائد ما دامت في حالة من التفاؤل والاستقرار وقد تنهار الشعوب وتنهزم الجيوش مهما بلغت من قوة بسبب ضعف النفوس وانهيارها الداخلي. لهذا كان صلى الله عليه وسلم يكثر من التعوذ من الهمِّ والغمِّ والعجز والكسل، وكأن هذه الأحوال متعاقبة على النفوس اليائسة ومتأكدة الوقوع بتوالي الهموم على الإنسان المهموم. فإذا قاوم المسلم الهمّ بالتفاؤل واليأس بالأمل فإن قوته لا تهزمها كل قوى البشر المادية وسنن الحق والكون جارية وشاهدة لذلك فحتى أهل البغي والكفر إذا ساروا وفق هذه السنن غلبوا وعلوا فهذا (نابليون بونابرت) لما سئل عن سر انتصاراته العظيمة في أوروبا وشمال افريقيا كان يجيبهم بأن اليأس لم يدخل إلى قلبه وكلما جاءه جندي يتردد قال له حاول وستنجح، ومن جاءه خائفاً قال له: أقدم وستنتصر، ومن جاءه عاجزاً قال له: أعمل ولا تيأس. فالتفاؤل بالخير والنصر والسؤدد سيجده الإنسان إذا استلهم معانيه واستشرفه في حياته وأفكاره، والعكس بالعكس فقد جاء في الأثر (تفاءلوا بالخير تجدوه) وعلى قدر الأمل والفأل تثمر الخطط وتتحقق الأهداف وتنتصر النفوس. ولها كان مؤشر الصعود والهبوط للأمم والشعوب هو مقدار فألها أو يأسها. اليأس والقنوط
ويعرف الشيخ عبدالله بن محمد الشهري الداعية بمركز الدعوة والإرشاد بمكة المكرمة اليأس فيقول: اليأس في اللغة: مأخوذ من مادة (ي أ س) التي تدل على قطع الأمل، وفي الاصطلاح: القطع بأن الشيء لا يكون هو ضد الرجاء، وقال ابن الجوزي: القطع على أن المطلوب لا يتحصل لتحقيق فواته. والفرق بين اليأس والقنوط والخيبة: أن القنوط أشد مبالغة من اليأس، وأما الخيبة فلا تكون إلا بعد الأمل، إذ هي امتناع نيل ما أمل، وأما اليأس فقد يكون قبل الأمل، وقد يكون بعده، والرجاء واليأس نقيضان يتعاقبان تعاقب الخيبة والظفر، ويستفاد مما ذكر: أن اليأس الا يأمل في وقوع شيء من الرحمة، بينما القنوط تصمم على عدم وقوعها. واليأس منه ما هو مذموم وهو الغالب ومنه ما هو محمود: ومن صور اليأس المذموم: اليأس من رحمة الله، قال تعالى: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، أي لا تقنطوا، وعبر هنا باليأس عن القنوط، لأن القنوط ثمرة اليأس، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، من كبائر الذنوب، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والامن من مكر الله والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله). ويتبع ذلك، اليأس بعض المذنبين الراغبين في التوبة، من أن يغفر الله له ذنوبه، أو يقبله تائباً، لكثرة ما ارتكبه من موبقات، وفجور، وكفر، وإفساد في البلاد، وأذية للعباد، فيقنطه الشيطان من رحمة الله، ويدعوه للتمادي في الإسراف في جنب الله، وقد قال - عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار). ومن أكثر الصور شيوعاً: اليأس من انفتاح الرزق وانفراج الحال، وتبدل النقم إلى نعم، فتجد بعض الناس إذا اشتدت به الحال يقول: انسدت أبواب الرزق في وجهي، وما أظنها تفرج! وقد قال تعالى في وصف نحو هذه الحال: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ}. وحقيقة الأمر أن الرزق يتبع الإنسان ما دام حياً، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم في حديث حسن كما في السنة لابن أبي عاصم: (إن الرزق ليطلب البعد كما يطلبه أجله، وفي لفظ: أكثر مما يطلبه أجله) ونحن نعلم أن الأجل يطلب صاحبه ولو كان في بروج مشيدة كما أخبر الله، وعليه فإن الرزق يطلب العبد ولو كان تحت تخوم الأرض!!. وقد قال - عليه الصلاة والسلام - ناصحاً لشابين من الصحابة: (لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما) كناية عن الحياة (فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله عز وجل) رواه ابن ماجه وصححه البوصيري. ومن صور اليأس أيضاً تمني الموت لعدم القدرة على مواجهة الواقع من فقر، أو مصائب حلت بالإنسان وهذا لا يليق بالمؤمن، ولا يجوز له، فإن أبى فليمتثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت من ضر اصابه فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) رواه البخاري. أسباب اليأس
ويضيف الشيخ الشهري من صور اليأس كذلك اليأس من تحقق مطلوب فات بسبب إخفاق في نجاح ما، أو فقدان وظيفة، أو فوات مرغوب فيه كامرأة يأمل الزواج بها. وقد فات هذا اليائس أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر ما يشاء، ويختار لعبده ما يريد، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(68)سورة القصص، فإن الله تعالى قد يمنع عن العبد مرغوباً فيه، لحكمة يريدها الله ولربما يكون الخير في عدم تحقيق هذا المرغوب، وكم يحزن الإنسان على فوات ما يرغب، ثم يتضح له في المستقبل فائدة هذا الفوات، وصدق الله تعالى حيث قال: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}(19)سورة النساء وقال تعالى: {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(216) سورة البقرة. أما أسباب اليأس فترجع إلى ضعف الدين، وقلة الإيمان بالله، وعدم اليقين به، فالمؤمن له قاعدة إذا طبقها لم تختل عنده الموازين لا في الضراء ولا في السراء، بل إنه يسعد بهذه القاعدة سواء في حال البلاء، أو في حال الرخاء والسرور، هذه القاعدة متمثلة في قوله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) رواه مسلم. ففي حال السراء تجده مغتبطاً بنعمة الله شاكراً لها مستشعراً لفضل الله عليه، غي مسرف، ولا جاحد لأنعمه، وإن نزلت به الضراء، وأحاط به البلاء، رأيته صابرا محتسباً، راضياً بقدر الله وقضائه، سائلاً المولى أن يأجره على مصيبته. وحول مضار اليأس على العبد يقول الشيخ الشهري إن اليأس يجلب الإثم للإنسان هو آية السخط على قدر الله كما أن اليأس يتعب نفسه بالهم والاغتمام بلا فائدة، ولا ثمرة، إضافة إلا أنه يضعف القوى، ويقتل الجسد. وعلاج اليأس: يكون بأن يقوي المسلم إيمانه بالله، بأداء فرائضه واجتناب المحرمات، والفواحش، ويحافظ على الذكر بأنواعه وعلى الدعاء، فإن أغلب اليائسين هم من المفرطين في حقوق الله المنغمسين في معاصيه، ولو تأملت حال المنتحرين لوجدتهم كذلك، كذلك أن يقوي توكله على الله ويقينه به، ويكثر سؤاله ودعاءه له، ويستشعر افتقاره له، وأن يعمل بالقاعدة التي قدمنا فهي من نفع ما يكون، وهي أن يكون شاكرا في السراء صابرا في الضراء، وليعلم أن هذا من صفات المؤمنين، وأن يتحلى دائماً بالتفاؤل، حتى في وسط المصائب فيصنع من الفشل نجاحا، ومن الهزيمة انتصاراً مستشعراً أن الله تعالى قادر على أن يغير الحال في طرفة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وإذا أصابته مصيبة، أو أخفق في مشروع ولم يحقق نجاحاً عليه أن يقول الدعاء الوارد في صحيح مسلم، فعن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالت: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له فقلت إن لي بنتاً، وأنا غيور فقال: أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة. وعن اليأس المحمود يقول الشيخ الشهري: هو اليأس مما في أيدي الناس ففي معجم الطبراني أن سعد بن عمارة: (وكانت له صحبة) جاءه رجل فقال له: عظني في نفسي يرحمك الله؟ قال: إذا أنت قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء فإنه لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا إيمان لمن لا صلاة له، ثم قال إذا أنت صليت فصل صلاة مودع واترك طلب كثير من الحاجات فإنه فقر حاضر، واجمع اليأس مما في أيدي الناس، فإنه هو الغنى، وانظر إلى ما تعتذر منه من القول والفعل فاجتنبه. اليأس الممقوت
أما الشيخ خميس بن عبدالهادي الغامدي إمام جامع السلام ببلجرشي فيقول: عرّف العلماء رحمهم الله تعالى اليأس بأنه انقطاع الامل من الشيء وانتفاء الطمع فيه تقول: يئس من الشيء الذي انقطع أمله منه، وقد يفضي انقطاع الأمل من الشيء إلى الذل والتصاغر والخضوع. واليأس آفة ذميمة لا يتخلق بها إلا القوم الكافرون، وإسلامنا الناصع النقي يحرم علينا اليأس ويدعونا إلى الثقة وحسن الأمل والرجاء في الله تعالى وفي رحمته ولطفه ونصره، فلا ييأس من فرج الله وتنفيسه {إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} لعدم علمهم بالله تعالى وصفاته، أما المسلم الصاقد العارف بسنن الله الواثق بوعد الله فإنه لا ييأس بحال من الأحوال. ويضيف الشيخ الغامدي: ومن مظاهر اليأس الممقوت ما نراه اليوم من عرض تاريخ الأمة الإسلامية عرضا مشوها وكذلك ضعف الهمم وفتور العزائم والنظر إلى حالات الفشل ونسيان حالات النجاح ومنها وهو أشده التحزب والتفرق والفرقة والقطيعة فهذا سبب قوي جدا يوقع في اليأس والقنوط فدين الله تعالى لا يمكن له من التمكين الصحيح إلا بجماعة تتمتع بكل مواصفات الجماعة كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا معشر العرب الأرض الأرض إنه لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا ببيعة ولا بيعة إلا بطاعة) فإذا دبت القطيعة بين أبناء الأمة الواحدة زال عنها مبعث الأمل والرجاء من نفس المسلم، لذلك يجب الحرص كل الحرص على تحقيق وحدة الأمة الإسلامية والمحافظة عليها ونحن في هذه البلاد المباركة بلاد الحرمين الشريفين ومهبط الوحي ومبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ننعم بوحدة وتلاحم بين الحاكم والمحكوم وبين الراعي والرعية فينبغي أن يكون لدينا اليقين التام أن وحدتنا هذه هي الطريق الوحيد للقضاء على اليأس والقنوط وزرع الثقة بالله في القلوب والأمل في النفوس وقطع الطريق على المغرضين والمفسدين الذين يريدون النيل من وحدتنا وأمننا واسلامنا. مواجهة الأزمات
ويرى الشيخ فخري بن حماد الشلال إمام وخطيب جامع الزعفرانة ورئيس قسم التوعية الإسلامية بإدارة التعليم بالجوف أن الأمة الاسلامية في هذه الفترة العصيبة من الزمن تعيش محنة كبرى تزداد اتساعاً يوما بعد يوم، فيزداد معها الإحباط واليأس في قلوب المسلمين اتساعاً، حتى اصبح الإنسان المسلم تائهاً يعيش فتناً كبيرة، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس اليوم فإذا ما نظر إلى الشرور المتراكمة والأمواج المتلاطمة من المصائب والمحن والأهوال والفتن يأس من إصلاح الأحوال، وتبدل الأمور فلا يصمد أمام هذا الخضم، ويقتصر نظره على الأسباب الظاهرة، والأمور المادية فحسب ففي قسوة الأحداث يتمحص المؤمنون وتتجلى دخائل النفوس. لكن من عرف حكمة الله في تصريف الامور وجريان الاقدار لن يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، مهما أظلمت المسالك، وقست الحوادث وتوالت الأزمات وتكاثرت النكبات. وإن شر ما منيت به النفوس يأس يميت القلوب، وقنوط تظلم به الدنيا وتتحطم معه الآمال، واليأس قرين الكفر والعياذ بالله، والقنوط بريد الضلال يقول الله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}ويقول تبارك وتعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}. كما أنه من مظاهر دنو الهمة وصغر النفس والعجز عن مواجهة الأزمات والمصاعب، وهذا لا يليق بالمسلم الحق، فالمسلم لا يعرف اليأس له طريقا ولا يطرق له باباً لأنه متحصن بالحصن الواقي متمسك بحبل الله الباقي الذي بيده فرج الأمور، بما في ذلك كثير من الناس ممن يسرف على نفسه بالمعاصي، ويتيه في أودية الرذيلة فتجده ييأس من إصلاح حاله، بل ربما يظن أن التغيير مستحيل وأن ما به من عيب ونقص إنما هو وصمة وعادة لا يستطيع الفكاك منها وذاك من أشد البلاء. والمسلم لا يجب أن يكون نظره مقصوراً على الأمور المادية والأسباب الظاهرة بل يكون باحثاً في خلجاته موقناً ومرجعاً كل الأمور إلى مسبب الأسباب مراعياً لله الكريم الوهاب جاعل الفرج على أقرب الاعتاب فيتصل برب الأرباب يؤمن بالابتلاء، ويؤمن في الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر ويسلك دروب الخير. ويعرف أن الوقائع ومداولة الأيام محك لا يخطئ وميزان لا يظلم، وفي توالي الأحداث وقفات فالتاريخ يشير إلى أن هذه الأمة قد مرت بمراحل تاريخية وصلت فيها إلى أسوأ مما هي عليه الآن. وفي تقلب الدهر عجائب وفي تغير الأحوال مواعظ، فالقوي لا يستمر ابد الدهر قويا والضعيف لا يبقى طول الحياة ضعيفاً لكنها سنة الله.. أدوار وأطوار، تجري على الأمم والشعوب، وتمر بالأفراد والجماعات وتصيب المتقين والفجار، وأهل السوء والأخيار، وليكن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد تقلّب عليه الصلاة والسلام في خضم الأهوال بين المد والجزر والرجاء والأمل وقد لاقى صنوف العذاب وألوان التعب وما زاده إلا إيمانا ورسوخاً، إلى أن جاءه نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً فلم ييأس ولم يقنط بل علم الدنيا كلها دروساً في الأمل والثقة بالله . ويضيف الشيخ الشلال: والأمة الإسلامية تملك في بنيتها الذاتية ما يجعلها قادرة على النهوض بإذن الله تعالى متى توفرت اللحظة التاريخية ذات المقومات المتكاملة للنهوض، فما زالت هذه الامة على الرغم من واقعها الأليم إلا أنها تمتلك مقومات حضارية وواقعية تحتاج إلى تحريك مكنونها، وحين يريد الله أمراً فأمره بين الكاف والنون وهو فعال لما يريد فهو العليم القدير، السبب والنتيجة من صنعه وتقديره، والوسيلة والغاية من خلقه وتدبيره لا يمتنع عليه سب ولن تعجزه غاية، وأفضل علاج وأحسن دواء لهذا المرض العضال هو تقوية صلة الإنسان بالله تعالى، فمن فضل الله علينا أن أكرمنا بهذا الدين، الذي يضيء لنا معالم الطريق ويحفزنا إلى التفاؤل والأمل، ويرقى بنا إلى درجات الإيمان ويصل ما بيننا وبين المثل الرفيعة والقيم العليا حتى نكون دائماً متفائلين مؤملين بالله الرجاء والخير، والصلة بالله تغمر الحياة بالاستقامة والخير والتفاؤل. ملازمة الكفر
أما الداعية الشيخ عبدالله بن سليمان الخضيري فيؤكد أن اليأس هو انقطاع الرجاء، وانطفاء جذوة الأمل في الصدر، فهو بذلك العقبة الكؤود والمعوق القاهر الذي يحطم في النفس بواعث الأمل، ويوهي في الجسد دواعي القوة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: أالهلاك في اثنتين: القنوط، والعجب. والقنوط هو اليأس، والعجب هو الإعجاب بالنفس والغرور بما فعلته، وهنا يقول الإمام الغزالي: (إنما جمع بينهما، وإن السعادة لا تنال بالسعي والطلب والجد والتشمير، والقانط لا يسعى ولا يطلب، لأن ما طلبه مستحيل في نظره، والمعجب يعتقد أنه قد سعى أو أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى، فالموجود لا يطلب، والمحال لا يطلب، والسعادة موجودة في اعتقاد المعجب حاصلة، ومستحيلة في اعتقاد القانط، فمن ههنا جمع بينهما)، ومصداق هذا الكلام في الحياة جلي وواضح، فإذا يأس المريض من الشفاء كره الدواء والطبيب، وضاق بالحياة والأحياء، ولم يعد يجديه علاج، إلا أن يعود إليه الامل، وهكذا إذا تغلب اليأس على الإنسان - أي إنسان - أسودت الدنيا في وجهه، وأظلمت في عينيه، وأغلقت امامه الأبواب، وتقطعت دونه الأسباب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت. واليأس ملازم للكفر كما قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(87) سورة يوسف ويقول تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}(56)سورة الحجر. وأظهر ما يتجلى هذا اليأس في الشدة وقوع الشر، وقد كرر القرآن ذمه لهذا النوع من الناس، يقول تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}(9) سورة هود. ثم استثنى من ذلك المؤمنين الصابرين، {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} (11)سورة هود. وقال تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا }(83) سورة الإسراء، ويقول تعالى: {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ}(49)سورة فصلت. ويضيف الشيخ الخضيري: وليس اليأس من لوازم الكفر فحسب، بل هو من لوازم الشك ايضاً، فكل من فقد اليقين الجازم بالله ولقائه وحكمته وعدله، حُرم الأمل. ومن ثم وجب على المسلم العاقل أن يبتعد عن اليأس والقنوط، وأن يكون واسع الأمل حسن الظن بالله، وقد قال علي رضي الله عنه لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه: (ياهذا يأسك من رحمة الله أعظم من ذنبوك).
|