Monday 8th August,200512002العددالأثنين 3 ,رجب 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "متابعة "

هيكل لا يستعيد الحياة!هيكل لا يستعيد الحياة!
مكاشفات نقدية جديدة في طروحات محمد حسنين هيكل
بقلم د.سّيار الجميل*

* يبدأ الدكتور سيار الجميل العراقي الأصل الكندي بالتجنس والأستاذ في إحدى الجامعات الكندية والاستاذ الزائر أيضاً لجامعات في ألمانيا ودول أخرى وصاحب كتاب (تفكيك هيكل) الذي يُعد من أشهر ما كُتب عن محمد حسنين هيكل وآثار ردود فعل احتفائية واسعة في الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية هذه الحلقات من نقد جديد لهيكل خص به صحيفة الجزيرة رداً وتعليقاً وتصحيحاً لمغالطاته التي تبنتها قناة الجزيرة القطرية.
الجولة الثانية
* إن قصتي مع الأستاذ محمد حسنين هيكل معروفة للجميع، ولا داعي لأن نعيد قصة (تفكيك هيكل) ونكررها من جديد، فإن كل جديد أقدمه في نقد أفكار الأخ الأستاذ هيكل وتصريحاته، إنما تصّب أساسا في مصّب (التفكيك) الذي أزعم إنني قد نجحت في تحديد ما أردت قوله تنظيرا وممارسة، وها نحن ذا نراقب عن كثب كتاباته وتصريحاته منذ خمس سنوات على صدور كتابي: (تفكيك هيكل)، إذ أجده في بعض منها قد تخّلى عن أفكاره القديمة، ولكنه بقي يدور في النهج نفسه وعلى المنوال ذاته الذي اختطه لنفسه سايكلوجيا وسياسيا بعيدا كل البعد عن حقائق الحياة العربية، وعن الواقع العربي الذي يزدحم يوما بعد آخر بالمشكلات والمعضلات الصعبة من دون أن يرى صاحبنا جذور مشاكل المنطقة، ومن الذي ساهم في خلقها على امتداد نصف قرن مضى من ساسة مضوا إلى حال سبيلهم كان مؤيدا لهم ومناصرا لسياساتهم البليدة.. إنني أعجب جدا من رجل عالي الثقافة ويعد من سدنة الصحافة العربية المعاصرة لم يستطع أن يغّير من نهجه وأسلوبه مقارنة بما يحمله من متغيرات في الرؤية والتفكير.
الهذيان عطب في التاريخ
قصور الخطاب.. وعجز اللغة
لقد اتعبنا جداً هذيان الرجل وهو لا يتورع في أن يبحر عارياً في تاريخ المنطقة بلا منهج ولا لغة ولا أي أسلوب ولا أي تفكير ولا أي ترابط عقلاني..
إنه هذيان لا يتوقف عنه هيكل، والعجيب في الأمر أنه يسمّي نفسه بعميد الصحافة العربية وليس باستطاعته حتى اليوم وبعد مرور ستين سنة في مهنته أن يتكلم بعربية مبسطّة بعيداً عن لغته وعاميته المصرية التي برغم تحببها في الفن والأحاديث العادية، إلا أنها تشوّه المعلومات..
كيف برجلٍ قضى جل حياته في قراءة العربية وهو لا ينفك عن استخدام عاميته الجلفية التي يحتاج قارئها أو سامعها إلى أن يفكر أكثر من مرة في تفسير ما يريد صاحبها لغوياً، ومن ثم يتابع بنفس اللحظة ما يريده من مضمون القول.
إن خطاب هيكل اللغوي لم يزل قاصراً على أشد ما يكون التقصير، فإن كان يدّعي أنه قد ألف وكتب عشرات الكتب باللغة العربية، فهل يعجز حقاً عن أن يتكلّم في التلفزيون بعربية مبسّطة سلسلة ويبدّل وهو يتكلم كلمات، مثل: (بص) إلى انظر و(علشان) إلى بسبب و(يفضل) إلى يبقى و(مش هاقول) إلى لا اقول و(عشان اعدي) إلى لأن أمر و(ييجيش) إلى يأتي و(طليت عليه) إلى اطللت عليه و(أي حاجة) إلى أي أمر و(فضلنا) إلى بقينا...إلخ من الكلمات التي اعتاد عليها الخطاب المحلي في مصر وخصوصاً منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان هو نفسه قد أشاع هذا الأسلوب في خطاباته.. ولكن الفرق بين عبد الناصر وهيكل كبيراً، فالأول كان ضابطاً عسكرياً تولّى قيادة مصر وهو في السادسة والثلاثين من العمر، ولم تتح له حياته أن يتثّقف بالعربية كما هو شأن هيكل الذي برغم أنه لم يعرف العالم أنه قد حصل على أي شهادة جامعية حتى اليوم، ولكنه غدا عميداً للصحافة العربية مذ اعتمد عليه الرئيس عبد الناصر وجعله وزيراً وبدا يطلق عليه بإمبراطور مؤسسة الأهرام.. فليس من المعقول ان يتقدّم الرجل ليخاطب الملايين على شاشة قناة الجزيرة الفضائية بلغة بائسة يخفي هذياناً مريعاً في المعلومات ويحوّل التاريخ بقدرة قادر إلى وجهات نظر.. ولا نستقطب منه إلا خلطاً وخبطاً.. يلمعها بين الفينة والفينة الأخرى بكلمات إنكليزية من قبيل كلمة (حتى) التي يعقبها ب(Even) أو إستراتيجي التي يعقبها (Strategy) وغيرها.
الإسهاب والإطناب والاستطراد
إن محمد حسنين هيكل يهرب كما هو شأن غيره نتيجة ضآلة معلوماته إلى صناعة خليط عجيب من الكلمات والاستطرادات المضحكة.
انه يبدأ في موضوع معين وفجأة تجده يأخذك إلى موضوع ثانٍ والثاني إلى ثالثٍ وينسيك ما بدأ فيه.. وبعد هذه التي وتلك اللتيا، تجده يعود بك القهقرى إلى موضوعه الأصلي الذي يكون قد افتقد نكهته عند القارئ ويكون هيكل قد ربح الجولة، بحيث يتفنن الرجل في أن يلعب بمستمعيه وبعواطفهم ذات اليمين وأفكارهم ذات الشمال.. وفي الأخير لا نخرج من حديثه بأي معنى وبأي قيمة وبأي نتيجة! ان موضوعاً معيناً يمكن أن يختزل بما قلّ ودلّ.. إياك أن تضعه في فم هيكل إذ يأخذ به ليمطّه ويستطرد به ويسهب فيه إسهاباً لا معنى له ويبقيك في عالم مقفل من الألفاظ وصناعة كلام فارغ، وفي الأخير لا تخرج إلا بقبض الريح.. لا تنتهي معه إلا أن تقول إن الرجل يهذي وهو فنان في صناعة الهذيان.. لقد استمعت مرة إلى لقاء تلفزيوني أُجري مع الدكتور طه حسين وكان قد وصل من الكبر عتيا.. فكم كانت المتعة كبيرة وأنت تسمع إليه وإلى لغته المحكمة وإلى أسلوبه الرائع وكلماته المرصوفة وإلى جملة من معانيه الجميلة.. وبعربية صافية لا غبارَ عليها.. ولقد سمعت مرة إلى لقاءٍ تلفزيوني آخر أُجري مع الفنان محمد عبد الوهاب في سلسلة من حلقات وعلى الرغم من لغته المصرية العامية، إلا أن لغته صافية ورجع حديثه كان جميلاً وان ترتيبه للعبارة كان رائعاً.. فلماذا لا نجد هذا وذاك في محمد حسنين هيكل الذي ليس باستطاعته حتى اليوم وقد بلغ من الكبر عتيا أن يأتينا بلغة سلسلة مترابطة وجميلة.. ان الانسان ان وجد في نفسه ضعفاً وركاكة واعوجاجاً عليه أن يحترم تاريخه وما أنجزه لا أقول ان ينعزل عن الناس أو يتقاعد، بل أقول ان يحترس ألا يهذي.. وحسناً جداً تفعل قناة الجزيرة إذ تنقل حرفياً ما يقوله ضيوفها على شاشتها بالكامل، فتوضح للعالم كله شخصيتهم اللغوية وحجم ثقافتهم ونسبة معلوماتهم.. ان عصر شبكة المعلومات الدولية يكشف كالمرآة ما يتمتع به كل مشارك شفوياً وتحريرياً..
الأفكار غير المترابطة عن دور القاهرة التاريخي وفكرة الجامع المشترك
دعوني اعلم القارئ الكريم، بأن من الأساسيات الممتعة في كتاباتي ان أقف وأنا اقرأ ما قاله هيكل مباشرة لقناة الجزيرة.. على (نصوص) مشوّهة أو أفكار معطبة أو إنشائيات كلام غير مترابط البتة.. كي اعالجه معالجة نقدية جذرية تتجاوز منهج التحليل إلى آليات التفكيك.. فمثل هكذا (نصوص) وخصوصاً في كتابة التاريخ أو إطلاق أحكام فيه وعلى نسق متضارب لا يعرف أوله من آخره.. إنما هي فرصة لكل الباحثين والكتّاب العرب أن يجدوا في (نماذج) مشوهة كهذه سبيلاً لمعرفة الصواب وإدراك الخطأ الذي يتعاطاه أحد سدنة الصحافة العربية والذي يعتبره البعض من عشاقه عميداً لها.. فضلاً عن أن تصويب التاريخ المشوّه أو النصوص العاطلة إذ يعطي للأجيال من بعدنا حكمها علينا، وعلى تفسيرها لأوضاعنا المعاصرة في المنهج والتفسير والتفكير.
أولاً: غياب المعنى
نقرأ النص التالي بهدوء لنفكّكه على مهلٍ.. يقول هيكل: (الحاجة الثالثة اللي لفتت نظر جيلي أو لفتت نظري أنا بصفة عامة انه في هذا الفضاء التاريخي والجغرافي والسياسي والثقافي اللي أنا عايش فيه واللي أنا بأُطل عليه القاهرة على وجه التحديد مدينة تلعب دوراً مهماً جداً ودوراً يقف المرء أمامه وهو يحاول أن يبحث عن أسبابه، المنطقة كانت باستمرار عُمر هذه المنطقة وهذه مسألة لابد أن نلاحظها من ألفين وخمسمائة سنة لم تعرف فكرة الدولة المنعزلة، مش هأقول المستقلة، المستقلة ممكن تبقى مستقلة..)
ان الرجل يتحدث عن القاهرة تلعب دوراً مهماً جداً، وهو يطالب بمعرفة أسبابه وكأننا لم نعرف أو ندرك أسبابه! ثم ينتقل إلى المنطقة من دون أن نعرف ماذا يريد من القاهرة.. كي يذكر بأن المنطقة لم تعرف فكرة الدولة المنعزلة في البداية يقول ابان عمر المنطقة ثم يعقب ذلك بملاحظته على مدى ألفين وخمسمائة سنة.. بعدها ينتقل إلى الدولة.. فمن المدينة إلى المنطقة إلى الدولة، وسمّاها بالدولة المنعزلة! لا نعرف بالضبط ماذا يريد أن يقول هل أن القاهرة أم المنطقة لم تعرف الدولة المنعزلة! ويعلّق بأن لن يقول (المستقلة) ممكن المستقلة تبقى مستقلة - كما يستطرد قائلاً - ولا نفهم ما الذي يريد أن يقوله ولماذا أقحم مفهوم (المستقلة) هنا وكل علماء السياسة والتاريخ يقرّون أن مفهوم (الاستقلال السياسي للدولة) هو مفهوم حديث لا علاقة له بتاريخ الدول الوسيطة والقديمة. انه الهذيان بعينه!
ثانياً: التباس في المعاني
ونبقى مع ما يقول: (الدولة التي تحيا وحدها دون ما حولها وهذه مسألة طبيعية لأن الفضاءات الإنسانية، الفضاءات الجغرافية، الآفاق السياسية والتاريخية لا تعرف معنى الحدود، الحدود دي ظاهرة جديدة بمعنى أنه الطقس الأحوال الجوية ما بيجيش عند الحدود وتقول والله (Passport) عشان أعدي به من فلسطين إلى مصر، حتى (Even) وسائل المواصلات الحديثة لما نفكر في الطيارات مثلاً في الطائرات أو نفكر في التليغرافات أو نفكر في أي حاجةٍ أو في الفضائيات ليس هناك حاجة في الطبيعة اسمها هذه الحدود السياسية بالتحديد، بمعنى أنه المناطق وهنا في جغرافيا سياسية المناطق مناطق متشكلة، مناطق موجودة لها خواص متصلة ومتواصلة وليست فكرة الدولة المستقلة المعزولة بهذا الشكل الذي نتصوره أحياناً).
أتمنى على القارئ الكريم أن يتأمل معمقاً في (النص) أعلاه، ويسأل نفسه: هل استطاع أن يقبض على معنى محدد واحد من هذا الخلط العجيب والمتنافر الصادر عن شخصية غير مستقرة ومتناقضة بحدة أو أنها في الحقيقة تجمع جملة هائلة من التناقضات.
ثالثاً: الحدود ومعناها
إنه باقٍ في إطار الدولة التي يراها تحيا وحدها دون ما حولها.. كيف؟ لا يفسر لنا ذلك، وهذا مخالف لحياة الدول والإمبراطوريات في التاريخ.
فلا يمكن أبداً أن تحيا أي دولة لوحدها من دون أي علاقة لها مع المحيط.
كيف هي مسألة طبيعية؟ صحيح أن الفضاءات المتنوعة لا تعرف معنى الحدود.. وعليه، فإن الدولة لم تحيا لوحدها كما يقول هيكل.
وصحيح أن الحدود ظاهرة جديدة، ولكن أي حدود يا هيكل انها الحدود السياسية (Boundaries)، فالحدود موجودة بين الدول منذ القدم، ولكنها لم تكن سياسية تحدد بعوارض أو أسلاك أو نقاط حدودية.. بل كانت تسمى في العصور الوسطى والقديمة ب (التخوم Marshes).
بل إن أول من فكر بتأسيس حدود لدولته منذ القدم هي الصين، ولم يزل سور الصين العظيم واحداً من أهم عجائب الدنيا السبع.
ونبقى مع النص بكل ما يحتويه من هذيان وفوضى، فما دخل الطقس والأحوال الجوية التي لا تحتاج إلى جواز مرور؟ وما دخل وسائل المواصلات، وكلها من منتجات القرن العشرين؟ كلنا يعرف انه ليس هناك حاجة في الطبيعة اسمها الحدود السياسية.
فما دخل هذا بالتشكيلات السياسية وبالجغرافية السياسية التي لم تعرفها المنطقة إلا في القرن العشرين.. ونحن نعرف تمام المعرفة ما الذي كانت عليه أوضاع المنطقة إن كنت تقصد المنطقة.. وما الذي كانت عليه القاهرة إن كنت تقصد القاهرة!
رابعاً: كيف يفسر المنطقة؟
نبقى نتواصل مع ما يقوله هيكل: (هذه المنطقة بالتحديد وهذه خصية غريبة لأنه أنا هأرجع إحنا بنتكلم على دور القاهرة إحنا بنتكلم ليه القاهرة كان لها هذا الوضع اللي أنا حسيت به، أول حاجة نلاحظ انه هذه المنطقة عمرها ما كانت لوحدها من ألفين وخمسمائة سنة على وجه اليقين اللي نقدر نرصدهم ونقدر نشوفهم هذه المنطقة بعد ما انهارت فيها مشروعات الدولة المستقلة أو اللي كنا بنتصور فيها المجتمعات المنعزلة الموجودة في الواحات اللي في المنطقة لأن المنطقة لو نفتكر منطقة في واقع الأمر هي عدة واحات، الشرق الأوسط كله عدة واحات في الواحة اللي على وادي النيل، الشام مجموعة واحات، العراق في واقع الأمر هو واحة اللي عملها وادي الرافدين لكنها باستمرار بنلاحظ إنها بُقع من العمران محاطة بالصحراء مطوقة بالبحار، لكنه فكرة الكيانات المستقلة ما نشأت أو البدايات الاجتماعية واللي نشأت في الحضارات القديمة زي الحضارة المصرية والآشورية والبابلية..) (انتهى النص).
وأتمنى هنا على كل القراء الكرام أن يراجعوا قراءة النص في أعلاه، ويسألوا أنفسهم وأذهانهم: ما الذي يريده هيكل من هذا الذي عرضه وبهذه اللغة التي تحتوي على ثرثرة لا على أي معانٍ.. فما معنى الواحة هنا؟ وما الذي يريد هيكل الوصول إليه؟
خامساً: التاريخ عند هيكل: (خبط عشواء!)
لنتأمل معاً حديث الرجل عن المنطقة التي يعترف أنه يرجع ليتكلم عن القاهرة فيضيع سامعه وقارئه من جديد في متاهة لا يعرف نفسه كيف يخرج منها.. أنه قد أحس بذلك، وكأننا لا نعرف مكانة القاهرة في التاريخ ولم نعرف مدى تأثيرها منذ عصر الإسكندر حتى حملة نابليون.. الآن اختلف عن الذي ذكره في البداية أنه يقول بالمنطقة ولا يقول بالدولة، وأعتقدُ أنه لم يميز بين الاثنين، فالمنطقة لم تكن لوحدها منذ ألفين وخمسمائة سنة.. ثم يعطينا اليقين في الذين يرصدهم (ويقدر يشوفهم..) ونسأله: من هم؟ هل هي السنوات في هذه الحقبة الطويلة من السنين؟ لا أحد يدري ولا هو نفسه يدري! لأنه تسجيل بارع من الهذيان التاريخي! ثم يرجعه إلى هذه (المنطقة) التي انهارت فيها مشروعات الدولة المستقلة! أي مشروعات هذه التي يتحدث عنها هيكل؟ انها مشروعات الدولة المستقلة؟ أي دولة مستقلة؟ انني واثق أنه لا يدري ما يقول! ثم يدخلنا في نصٍ مبعثر لا معنى له أبداً.. أي مجتمعات منعزلة موجودة في الواحات؟ والمنطقة - حسب عرفه - مجموعة واحات الشرق الأوسط في وادي النيل وبلاد الشام والعراق.. أنه يعرف الدولة المستقلة هنا ثم ينتقل إلى توصيف مجتمعات منعزلة ومنها إلى واحات ومنها إلى بقع من العمران! محاطة بالصحراء ومطوقة بالبحار.. انها بدهية يدركها القاصي والداني.. ليخلص - كما اتخيّل - بأن فكرة الكيانات المستقلة لم تنشأ، وان البدايات الاجتماعية قد نشأت في الحضارات القديمة.. وانني أسأل القارئ الكريم: هل فهم شيئاً ذا بال من هذا الهذيان المصحوب بأمثلة خاطئة وبمفاهيم أكثر خطأً.
سادساً: الرابط الجامع
يكمل النص قائلاً: (ما نشاء، لكن لما دي هذه انتهت اللي حصل أن هذه المنطقة أصبحت تخضع باستمرار بنوعٍ من الرابط الجامع، الرابط الجامع في وقتٍ من الأوقات كان الإسكندر الأكبر جاء واحتل وأخذ كل ده فبقينا -كلنا- موجودين في نوعٍ من الكومنولث المتوسطي عاصمته في الشمال وبعدين انتقل مركز القوى إلى الرومان فبقت كل البحر الأبيض وما حوله كله روماني وبعدين انتقل الروماني بيزنطة فبقينا كله في جامع واحد بشكل أو آخر سواء كان مقبولاً منا أو مش مقبول منا وبعدين بقى فيه جاء الفتح العربي وبقى في جامع من نوع آخر وتنوعت الممالك، لكن فضلنا باستمرار تحت نفس الجامع فضلنا باستمرار المنطقة باستمرار في حالة إلى جامع وفي حاجة إلى مراكز تبادل فكري وحضاري وتجاري موجودة متناثرة) (انتهى النص).
السؤال: ما تعريف (الرابط الجامع) عند هيكل ؟؟.. لا نعرف ما الذي يقصده أو يريده بالضبط! الرابط الجامع حسبما ندركه من النص الذي أطلقه، هو العامل الحقيقي الذي يجسد علاقة المركز بالمحيط (أو كما حللت ذلك في تطبيقاتي على الدواخل والأطراف إن صح تقديرنا).
ان هيكل استعار مفهوم الرابط الجامع، ولكنه لم يدرك ما يقول.. ما علاقة الإسكندر الأكبر بالموضوع أصلاً؟ ما الذي تعنيه بالكومنولث المتوسطي إن كنت لا تدرك العلاقة بين الإسكندر والمناطق التي مر بها؟ مَن قال بمثل هذا (الكومنولث)؟ ما هذا الهذيان التاريخي؟ عاصمته في الشمال تقصد اثينا.. ثم انتقل مركز القوى إلى الرومان.. لماذا استخدمت مركز القوى؟ انه مصطلح سياسي واداري لا علاقة له هنا بموضوعنا.. انك تتسلسل تاريخياً، ولكنك لا تدرك تحولات التاريخ.. اثينا وروما وبيزنطة لا رابط جامع بينها وبين المنطقة.. فكل من هذه الإمبراطوريات قد نشرت نفسها في البر والبحر واخترقت مناطق كبرى في آسيا وإفريقيا، وكانت جميعها من الأطراف أو التوابع، فليس هناك كومنولث متوسطي ولا في جامع واحد ولا هم يحزنون! ثم يكمل (النص) عن الفتح العربي، الذي يعتبره جامعاً من نوع آخر وفيه تنوعت الممالك.. لكن هيكل يرى بأننا بقينا باستمرار في حالة إلى جامع ومراكز تبادل..
سابعاً: من أين أتى هيكل بالكومنولث؟
يستطرد فيقول: (لكن حتى في الإسلامي أنا لا أعرف لما حد يقول مرات بعض إخواننا يقول لي مصر طول عمرها دولة مستقلة في فرق بين دولة مستقلة ودولة منعزلة، بمعنى أنه في الأربعة عشر أو الخمسة عشر قرناً اللي فات مصر عاشت طول الوقت داخل نوع من الكومنولث نوع من الرباط الجامع بين مسائل كثيرة أوهي متعدية لحدودها ومتخطية لها وتؤثر عليها شاءت أو لم تشأ، زي،المناخ زي الجو...) (انتهى النص).
هذا كلام لا أساس له من الصحة.. فالرجل لا يستطيع أن يفرق بين مفهومي (الانعزال) و(الاستقلال).. عليه أن يقول إن مصر لم تكن منعزلة يوماً، بل كانت رابطاً حقيقياً بين شمال إفريقيا وبين الشرق الأوسط.. الاستقلالية السياسية هي التي يقصدها، وهذا مصطلح حديث، فلا يمكن تطبيقه على نظم سياسية وتاريخية قديمة، إذ لم نسمع به إلا في القرن العشرين، واعقبه مصطلح (السيادة) ثم اعقبه مصطلح (التحرير)، وكان عليه أن يرد على الذين يؤمنون بانعزال مصر عن جيرانها يغير هذا الهذيان الذي لا معنى له.. اذ يبقى كعادته يلف ويدور حول نفسه، ويصفف الكلمات التي لا تنتج شيئاً ذا بال.
ثامناً: تخبّط جغرافي
اسمعوه ماذا يقول.. يقول هيكل: (دعونا الحاجة الغريبة انه في مصر بالتحديد عمرها ما كان ممكن تقدر تعيش لوحدها لسبب واضح وهو انه منبع حياتها كان خرج موقع نظرها، النيل عمرنا ما شفنا منابع النيل لكن عشنا باستمرار على النيل لكن كان باستمرار بره، باستمرار كان هو بعيد في وسط إفريقيا وما وصلنا لوش إلا في القرن التاسع عشر، لم نعرف من أين ينبع النيل وعملنا أساطيل الدنيا، اللي أنا عايز أقوله إيه إنه بالدرجة الأولى إنه فكرة الحدود السياسية استولت علينا وارتبطت بفكر الاستقلال وهو مسألة مهمة جداً، لكن نبقى عارفين أين الاستقلال وأين.. ما هو أوسع من الاستقلال؟ أين هو الجامع المشترك؟) (انتهى النص).
وأسأل: ما الذي نفهمه من هذا الخلط والتشبيه؟ إذا ما عرفنا أن مصر ليس باستطاعتها العيش لوحدها ولا علاقة لمنابع نهر النيل بالموضوع لا من قريب ولا من بعيد، فأغلب الدول الممتلكة لأنهار طوال، لا علاقة لها بالمنابع، بل لها علاقة بالمياه المتشاطئة التي تمتلكها جيرانها، وهذا ما نلحظه من علاقة جغرافية عضوية بين مصر والسودان ليس إلا.. وإذا كانت مصر معبراً، فهي ليست بمعبر نحو أعماق إفريقيا، بل هي حلقة وصل بين الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فالعلاقة بينها وبين الآخرين إقليمية.
وعليه، فهي ليست معبراً قارياً بين قارتين اثنتين مقارنة بينها وبين تركيا التي تعتبر حلقة وصل بين الشرق والغرب.
ان هيكل يدافع عن الجامع المشترك (وكنت أتمنى عليه أن يسميه الرابط المشترك) ويقف حيال الاستقلال.. وكأن مصر لم تكن لها شخصيتها التاريخية وخصوصيتها الجغرافية.
ولا ندري أين يريد هيكل الوصول بنا؟ هل يريد الدعوة إلى جامع قومي مشترك نحو الوحدة العربية التي ازدهرت شعاراتها في القرن العشرين؟ أم يريد القول إن مصر جامع إقليمي مشترك نحو الشرق الأوسط التي تزدهر مشكلاته اليوم؟ أم يريد القول إن مصر جامع دولي وقاري مشترك نحو إفريقيا؟ وهذا ما لم نلحظه أبداً.
تاسعاً: تخبّط تاريخي
ونبقى مع هيكل في هذيانه وتخبطاته وخلطه المبهم بين الأشياء والعناصر بحيث يضيع على القارئ خيوط الموضوع عمداً من دون أن يصل به إلى ما يمكن الاستفادة من كل هذا الغثاء.. لنتأمل قليلاً وبعمق ما يقول: (لما بأتكلم في القاهرة مثلاً على سبيل المثال وأقول إنه مصر كانت باستمرار موجودة في الدولة، في الخلافة الأموية، موجودة قبلها في الخلافات الراشدة، موجودة في الدولة الأموية، موجودة في الدولة العباسية، موجودة في دول الفاطميين والأيوبيين والمماليك لغاية العثمانيين، لما جئنا إلى العثمانيين حصل مسألة مهمة أوي وهي دي أعطت القاهرة دوراً بشكل أو آخر للعثمانيين بدت الإمبراطورية الرباط الجامع واللي كان مقبولاً من كل الناس، كان مقبولاً وكان يعني هو الهوية أو هو الرابط المقبول وحتى (Even) حتى إلى درجة الرعوية، كنا بنقول رعوية عثمانية..) (انتهى النص).
أسأل وبتجرد المؤرخ الناقد المنصف: هل هذا كلام مؤرخ له قصب سبق في الثقافة على امتداد ستين سنة؟ هل باستطاعة أحد أن ينكر حقائق وبدهيات عادية يدركها حتى طلبة المدارس الابتدائية.. مصر موجودة في الدول الإسلامية! طبعاً موجودة، فلماذا كل هذه السفسطة والمماحكة؟ لقد اتخذت مركزيتها عند الفاطميين والأيوبيين والمماليك.. فما الجديد في ذلك؟ لقد بقيت بغداد هي المركز التاريخي والحضاري ومن ثم غدت القاهرة مركزاً مهماً، ولكنها ياهيكل افتقدت ذلك في العصر العثماني على غرار غيرها من الولايات العربية العثمانية.. بل وغدت ولاية لا أهمية لها نحرتها أوضاعها الاقتصادية الصعبة بسبب الانقسامات المحلية بين المتسلطين من عثمانيين ومماليك.. فلا داعي لأن تؤكد الجامع المشترك لمصر الذي افتقدته بسبب الصراعات وانهيارات الداخل الاقتصادية بشكلٍ خاص وانتشار الفساد وخصوصاً في القرن الثامن عشر.
عاشراً: الإمبراطورية العثمانية
يستكمل صاحبنا هذيانه.. فيقول: (فإحنا الإمبراطورية الخلافة العثمانية بدأت شأنها شأن كل الدول تنهار وبدت المطامع الأوروبية تهاجم المنطقة من الشرق ومن الغرب وبدت الممالك تُقام وبدت السلطة المركزية للخلافة تسقط أو تتداعى، لكن فضل العالم الإسلامي والعربي في القلب مختلف عن غيره من أقاليم الإمبراطورية في حين إن الولايات اللي في أوروبا المسيحية اللي في أوروبا لقت أسهل عليها انها تنسلخ وتستقل، فالعالم الإسلامي العربي فضل مدرك أهمية الجامع المشترك ومشفق من خطورة ما يجري للدولة العثمانية وقلق على مصيره، لأنه باستمرار بيشعر أو هذه الواحات المتناثرة في هذا الفضاء في هذا الإقليم بتشعر بأنها لا تقدر تحقق لا أمن ولا تحقق مصلحة ولا تحقق.. خصوصاً أن الألفين وخمسمائة سنة اللي عاشت فيهم تحت جامع مشترك وجامع سياسي وعسكري، رابط لإمبراطوريات زي ما قلنا من الإغريق لغاية العثمانيين، هذا الرباط أوجد موروثه الثقافي، أوجد حقائقه الاقتصادية، الاجتماعية، الفكرية بالدرجة الأولى..) (انتهى النص).
ويبقى في كلامه العادي الذي لا جديد فيه وهو لا يحدد زماناً أو مكاناً معينين لما يريد العناية به.
هناك ضعف عثماني أعقبه انهيار عثماني اعقبه سقوط عثماني.. متى حدث كل واحد منها؟ هيكل لا يعرف! هيكل يدخل دوماً أنفه فيما يعنيه ويخرج من الموضوع بسلة مليئة بالأخطاء التي لا يمكن أن يغفرها له المؤرخون المختصون! فهو يخلط مقارناً بين ولايات العثمانيين ولا يدرك أن هناك تمييزاً عثمانياً بين أقاليم روميليا وبين أقاليم اناتوليا.. بين أقاليم الشرق وبين أقاليم الغرب (طرابلس وتونس والجزائر).. هيكل لم يقرأ ولم يضطلع بما كتبه المؤرخون حول علاقة الأقاليم بالسلطة العثمانية! هيكل لا يعرف سلاسل التاريخ ولا طبيعة أحقاب التاريخ البشري ليطلق جامعه المشترك على مدى ألفين وخمسمائة سنة، وكأن لا انقطاعات ولا تفاعلات ولا متغيرات حتى في تاريخ مصر نفسه ؟؟ هكذا إطلاق مبهم من الإغريق حتى العثمانيين ما هو إلا سذاجة في قراءة الزمن.
وهنا أود من الإخوة الباحثين ألا ينساقوا وراء هكذا تعميمات لا نفع فيها، لأن مصر أو غير مصر وببساطة شديدة قد ورثت بقايا التاريخ.
حادي عشر: الظاهرة المهمة
ونبقى نتمتع بمثل هذا الهذيان والإطناب والخلط الساذج عندما يقول هيكل: (أما جاءت الإمبراطورية العثمانية تضعف بدا يبقى في ظاهرة مهمة جداً، ايه هي الظاهرة المهمة؟ الظاهرة المهمة انه إحنا بننسى مرات انه الجغرافيا والتاريخ فاعلين في حياتنا، بننسى مرات إنه أنا لم أخطر موقعي مش بإرادتي مش بإرادة الشعوب إن أنا في مصر اخترنا جاء موقعنا البحر الأبيض شمالاً والبحر الأحمر بالطريقة دي مؤدياً للخليج، ما كنش هذه مصادفات أو هذه خلق هذا خلق أو هذه جغرافيا أو هذه مصادفات طبيعة لكنها حاكمة فيّ شئت أو لم أشأ، التاريخ بيعمل عمل تاريخ عنده القدرة والشعوب عندها القدرة أقصد الشعوب التي تحيا تاريخها عندها القدرة أنها تخلق باستمرار ما تحتاج إليه من ضرورات..) (انتهى النص) الجغرافية والتاريخ فاعلان في حياتنا! ظاهرة مهمة! يا سلام.. ذكّرني هذا بإحدى مسرحيات عبد المنعم مدبولي الكوميدية! كل مصري له وعي بسيط يشعر بأنه لم يختر موقعه.. الموقع مهم ومهم جداً، وكان على هيكل أن يستشهد بكتاب شخصية مصر لجمال حمدان الذي يختصر كل هذا اللغو.. ان ثمة بدهيات ليست بحاجة إلى تأكيد.. والبحر الأحمر لا يؤدي إلى الخليج ياهيكل.
انه يؤدي إلى خليج عدن والأخير يؤدي إلى بحر العرب، وهذا يؤدي إلى خليج عمان ومنه إلى الخليج العربي.
فهل لم نتعلم هذا في المدارس الابتدائية؟ وانها خلق أو مصادفات طبيعة تحكمنا.
وأسألك عما تقصده من أن التاريخ (بيعمل عمل تاريخ عنده القدرة.. إلخ) نصك الذي يبدو أنك تسوق ظاهرة معروفة بأهميتها، وهي ليست بحاجة إليك.
فالكل يدركها.. وحبذا لو أتيت لنا بشيء جديد لم يتوغل فيها واحد بريطاني مثل كرومر أو واحد آخر مثل الشخصية المصرية المعروفة جمال حمدان أوغيرهما.

* مؤرخ عراقي
(انتظر الجولة الثالثة).

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved