Monday 8th August,200512002العددالأثنين 3 ,رجب 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

التعبير عن حب الوطن -2-التعبير عن حب الوطن -2-
عبدالله الصالح العثيمين

أشير في الحلقة السابقة من هذا الحديث إلى أن حب الوطن فطرة فطر الله عليها الإنسان، وإلى أن من أساليب التعبير عن هذا الحب البوح بالحنين إليه عندما يكون المرء بعيداً عنه. وأشير أيضاً إلى ما ذكره الجاحظ من أن الحنين إلى الأوطان أمر تشترك فيه جميع الأمم والشعوب، كما أورد شيئاً مما قاله العرب الأوائل في حبهم لأوطانهم وحنينهم إليها.
ومن يرجع إلى كتب اللغة والتراث يجد أن لكلمة (وطن) معاني منها: مكان إقامة الإنسان. ومن إيحاءاتها توطين النفس على أمر من الأمور بمعنى جعلها ترضى به، وتأتي أحياناً بمعنى الدار المعروفة التي يسكنها فرد أو أسرة واحدة. ومن هذا قول ابن الرومي:


ولي وطن آليت ألا أبيعه
وألا أرى غيري له الدهر مالكا

وتأتي أيضاً بمعنى المشهد من مشاهد الحرب، أو الموقعة الحربية، قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} (25) سورة التوبة، أي في معارك كثيرة. ومن اشتقاقاتها كلمة (توطين) بمعنى إبدال حياة الجماعة من الترحال إلى الاستقرار، فيقال: توطين البادية؛ أي جعلها تعيش في أمكنة استقرار حضرية. على أن اللغة شأنها شأن كل كائن اجتماعي حيّ، تكتسب كلماتها وتعبيراتها -مع مرور الزمن- معاني أخرى لم تكن تدل عليها من قبل، وقد يكون ذلك الاكتساب نتيجة تطور المجتمع الذي هي فيه، أو يكون مستوحى من تطور مصطلحات في مجتمعات غيره؛ ذلك أن كل ثقافة تتأثر بالثقافات الأخرى وتؤثر فيها. وهكذا أصبحت كلمة (وطن) تعني مكان إقامة الإنسان، ونسبه إليه، ولد فيه أو لم يولد، كما تعني قطره بعامة، أو -كما يرى من يتبنون النهج العروبي- أقطار الأمة العربية كلها. وإذا كان العرب الأوائل قد عبروا عن حنينهم إلى أوطانهم أو ديارهم، فإن اشتياق العربي لوطنه ما زال عارماً. فها هو ذا أمير الشعراء في العصر الحديث أحمد شوقي يعبر عن اشتياقه لوطنه مصر وهو في فردوس الأندلس، فيقول:


وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتي إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل
ظمأٌ للسواد من عين شمس

وللجواهري قصيدة جميلة عنوانها (يا دجلة الخير) بدأها بهذه الأبيات:


حيَّيت سفحك عن بعد فحيِّيني
يا دجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآناً ألوذ به
لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه
على الكراهة بين الحين والحين
إني وردت عيون الماء صافية
نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني
وأنت يا قارباً تلوي الرياح به
ليَّ النسائم أطراف الأفانين
وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني
يحاك منه غداة البين يطويني

وهاهي ذي رائعة من روائع المؤرخ الشاعر خير الدين الزركلي قالها وهو على ضفاف وادي النيل، معبراً عن اشتياقه لبردى وأحبته في دمشق، ومنها:


العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكناً ألِفَت ولا سكنا
ريَّانة بالدمع أقلقها
ألا يحس كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل سانحة
حُسناً وباتت لا ترى حسنا
والقلب لولا أنَّه صعدت
أنكرته وشككت فيه أنا
يا طائراً غنَّى على غصن
والنيل يسقي ذلك الغُصُنا
زدني وهِجْ ما شئت من شجني
إن كنت تعرف مثلي الشجنا
أذكرتني ما لست ناسيه
ولرُبَّ ذكرى جددت حزنا
أذكرتني بردى وواديه
والطير آحاداً به وثنى
وأحبَّة أسررت من كلفي
وهواي فيهم لاعجاً كمنا
كم ذا أغالبه ويغلبني
دمع إذا كفكفته هتنا
لي ذكريات في ربوعهم
هنَّ الحياة تألقاً وسنا
إن الغريب معذب أبداً
إن حلَّ لم ينعم وإن ظعنا

وإذا كان الزركلي قد كلف ببردى وعلى ضفتيه دمشق، وأمضَّه لاعج الهوى لأحبته فيها فهو غير ملوم. ذلك أن دمشق كانت مهوى جاذبية أعين المحبين. ألم تقل فيها الشاعرة عائشة الباعونية:


نزِّه الطرف في دمشق ففيها
كل ما تشتهي وما تختار
هي في الأرض جنة فتأمل
كيف تجري من تحتها الأنهار
وتناغيك بينها صادحات
صمتت عند نطقها الأوتار

وألم يقل فيها أحمد شوقي:


آمنت بالله واستثنيت جنته
دمشق رَوح وجنات وريحان
قال الرفاق وقد هبت خمائلها
الأرض دار لها الفيحاء بستان
جرى وصفَّق يلقانا بها بردى
كما تلقاك دون الخلد رضوان
دخلتها وحواشيها زمردة
والشمس فوق لجين الماء عقيان

ولعلي -وقد أورد ما أوردت من أقوال شعرية جميلة لشعراء من العرب المحدثين معبرة عن حنينهم إلى أوطانهم، أو مصورة مشاعرهم تجاه الأمكنة التي وصفوها- أتوقف عن الحديث في هذه الحلقة لئلا أضيف ما قد يحرم القارئ الكريم والقارئة الفاضلة من لذة التمتع بما أورد.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved