بقلم د. سيار الجميل : * يبدأ الدكتور سيار الجميل العراقي الأصل الكندي بالتجنس والأستاذ في إحدى الجامعات الكندية والاستاذ الزائر أيضاً لجامعات في ألمانيا ودول أخرى وصاحب كتاب (تفكيك هيكل) الذي يُعد من أشهر ما كُتب عن محمد حسنين هيكل وآثار ردود فعل احتفائية واسعة في الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية هذه الحلقات من نقد جديد لهيكل خص به صحيفة الجزيرة رداً وتعليقاً وتصحيحاً لمغالطاته التي تبنتها قناة الجزيرة القطرية. -*-*-*-*-*-*-* الجولة الأولى -*-*-*-*-*-*-* * إن قصتي مع الأستاذ محمد حسنين هيكل معروفة للجميع، ولا داعي لأن نعيد قصة (تفكيك هيكل) ونكررها من جديد، فإن كل جديد أقدمه في نقد أفكار الأخ الأستاذ هيكل وتصريحاته، إنما يصّب أساسا في مصّب (التفكيك) الذي أزعم إنني قد نجحت في تحديد ما أردت قوله تنظيرا وممارسة، وها نحن ذا نراقب عن كثب كتاباته وتصريحاته منذ خمس سنوات على صدور كتابي: (تفكيك هيكل)، إذ أجده في بعض منها قد تخّلى عن أفكاره القديمة، ولكنه بقي يدور في النهج نفسه وعلى المنوال ذاته الذي اختطه لنفسه سايكلوجيا وسياسيا بعيدا كل البعد عن حقائق الحياة العربية، وعن الواقع العربي الذي يزدحم يوما بعد آخر بالمشكلات والمعضلات الصعبة من دون أن يرى صاحبنا جذور مشاكل المنطقة، ومن الذي ساهم في خلقها على امتداد نصف قرن مضى من ساسة مضوا إلى حال سبيلهم كان مؤيدا لهم ومناصرا لسياساتهم البليدة.. إنني أعجب جدا من رجل عالي الثقافة ويعد من سدنة الصحافة العربية المعاصرة لم يستطع أن يغير من نهجه وأسلوبه مقارنة بما يحمله من متغيرات في الرؤية والتفكير. بقلم د.سيّار الجميل* ولا أريد أن يكون كل ما أكتبه إزاء الرجل يعده الآخرون وخصوصا من مؤيديه وأنصاره وأصدقائه بمثابة تصفية حساب بيني وبينه، فهو - كما يبدو - باستطاعته أن يبلع الطعم من بعض الذين ينتقدونه في مصر باعتبارهم من (الإخوة المصريين)، ولكنه لا يستطيع البتة أن يبلع أي طعم من الآخرين لأسباب لا أريد أن أفهمها، وأنا أعرفها تمام المعرفة.. إذ لا أعاني أبدا من عقدة التماهي أو التباهي أبدا، إذ لدي من الإخوة والأصدقاء والأحبة المصريين من وقف إلى جانبي وقفة مشرفة لا أنساها.. ولا أريد من الإخوة العرب (والناصريين في مقدمتهم) الذين تسيطر عليهم عواطفهم السياسية والايديولوجية أن يطلقوا الاتهامات ذات الشمال وذات اليمين.. فلست طالب جاه أو مقام أو شهرة، فكلها أمتلكها، ولست إلا ناقدا مختصا له رؤيته المتواضعة وقدرته على مجابهة كل الخطل السياسي ومحاسبة كل من يتعمد تشويه تاريخ معين، وكل من غطس في التناقضات ومعمياتها.. لقد قال لي أحد الأصدقاء قبل سنوات عندما نشرت (تفكيك هيكل) : لماذا تنزل نفسك إلى مستوى أدنى من تخصصك العلمي ؟ أجبته : إنني لست في حوار مع الرجل، بل إنني ناقد لنصوصه، والنقد أثمن وأجدى من أي نص.. وعليه، فمن حق الرجل أن يسكت كي أكون فارضا ما أكتبه من نقدات خصوصا وأنني قد طرحت أسئلة عدة لم يستطع الإجابة عنها حتى اليوم وبعد سنوات.. ولكن ليس من حق الرجل أن يجعل الآخرين يجيبون بالنيابة عنه على ما أقول، أو يتدخلون في أمرلا يعنيهم، فالأمر سجال بيني وبينه قبل أن يطوينا الردى. إن مشكلتنا ليس معه شخصيا كصحفي كبير نجّله ونحترم ذاته، ولكن مشكلتنا مع أعماله وبعض أخطائه وتصريحاته وتناقضات ما يقول هنا أو ما يدعيه هناك.. والتي لا نتفق معها أبدا، لكونها تأتي في أوقات معينة لحسابات تدور في عقل صاحبها.. ناهيكم عن كونها تسيء ولا تخدم الواقع المضني.. فضلا عن كونها وليدة إرث من المفبركات التي أوهمت الحياة العربية على مدى خمسين سنة مضت. إن محمد حسنين هيكل يختار الوقت المناسب لإطلاق أثقاله الساخنة وألعابه النارية، فإما تجده يكشف عن (معلومات سرية) شخصية عن زعماء وقادة عرب بعد رحيلهم مباشرة، أو تجده يؤلف الكتب وينشر المقالات بعد أن تضع أي حرب أوزارها، أو يمثل ويشخص أمامك وهو يطلق الانتقادات ضد دولة معينة، وهي تمر بأكثر من أزمة ! والأسباب معروفة والنتائج معروفة.. هيكل هذه الأيام يبدو أن الرجل لم يغّير من أسلوبه ولم يغّير من نهجه أو طريقته أو سايكلوجية نصوصه.. ولا يبدو أن الصحفي القديم محمد حسنين هيكل قد وجد منذ نهايات العام 2004 متنفسا له في قناة الجزيرة الفضائية، بعد أن كان قد أعلن تقاعده عن الكتابة والنشر.. وكان وقت ذاك قد صاحبها طّنة ورّنة.. نعم، وقت ذاك تمنيت عليه ألا يتوقّف عن الكتابة أو يتقاعد عن مهنته القديمة قبل أن يصّفي حساباته مع ما كان قد نشره في أغلب كتبه من مغالطات وأخطاء وتجاوزات ومفبركات ويحاول أن يّصوب التجاوزات من دون أن يردّ على منتقديه من الساسة والمفكرين والمختصين.. ولكنه لم يفعل ذلك، وسيكون التاريخ الحكم علينا جميعا. ولكن الرجل لم يتقاعد - كما قال - بل إنه بدأ يظهر علينا بين الحين والآخر ليطلق التصريحات ويقدم الآراء ويطلق الأحكام.. وليس في ذلك ضير، فهو مطالب أن يقدّم استشاراته وآرائه على ضوء المتغيرات الكبرى الحاصلة أولا وعلى ضوء ما استفاده من العديد من الكتّاب والنقاد والمتابعين ثانيا، وأيضا على ضوء التجربة طويلة الأمد في متابعة الأحداث والوقائع ثالثا. لقد مضى الزمن وأصبح شيخا طاعنا في السن يتطلب أن يتمتع بوقار واحترام من نوع خاص بدل أن يفجّر كل حين قنبلة إعلامية أو فبركة صحفية أو لعبة نارية أو تصريحات ساخنة، وكأنه يبحث عن أشياء افتقدها بفعل جملة المكاشفات التي طالت أعماله وتصريحاته الإعلامية. يقال: إن قناة الجزيرة قد أدامت مفاوضاتها معه قرابة سنتين كي يصدر موافقته بعد أن عجزت طويلا في إقناعه وأخيرا أصدر موافقته ! مثل هذه (التصرفات) أو حتى الإعلان عنها يمّثل خللا فاضحا في الإعلام العربي وسدنته الذين لا نجد أشباها لهم في كل هذا العالم الواسع.. إنه بالقدر الذي ينتقد رجال النخبة العربية العطل السياسي الذي أصاب الساسة والقادة العرب بالقدر الذي يساهم السدنة من الكتاب العرب في استباحة القيم والضلوع في تعطيل حركة التقدم والإساءة ليس لأنفسهم حسب، بل للمجتمع قاطبة. صحيح أن الإنسان يعتز بخبراته وسجل تجاربه وسنوات ماضيه ومكانته في إثراء الحياة، ولكن بالمقابل لابد أن يأتي تثمينه من قبل الآخرين لا أن يثّمن هو نفسه ويختال على الآخرين.. ففوق كل ذي علم عليم، وما أجمل الإنسان حين يتواضع كلما ازداد عمره لا أن يكابر على الآخرين، والزمن قد مر عليه وتجاوزه، مثلما الماء يفيض ويجرفه بكل ما يحمله من إرث قديم ! ليس الزعماء وحدهم يصادرون حياة الناس وتفكيرهم.. وليس علماء الدين يستأصلون أي جديد تحت ما يطلقونه من فتاوى ضد البدع.. وليس جنرالات الجيش وحدهم يحملون صولجاناتهم، وهم يختالون متبخترين في الميادين.. فسدنة الكتابة العربية أنفسهم يتحملون مسؤولية استئصال الحقيقة وتشويه الواقع ومصادرة حياة التاريخ والقيم.. استئصال الحقائق وتشويه التاريخ عندما أقارن بين كبار كتابنا العرب وبين كبار كتاب الأمم الأخرى، فإن فجوة كبيرة تفصل الاثنين بعضهما عن البعض الآخر.. فليس من السهل أبدا توزيع الأحكام وإطلاق التهم واحتكار الرأي والهيمنة على الآخرين.. إن الآراء لا تطلق على عواهنها إن لم تستند إلى معلومات وتوثيقات.. وليست الكتابة أو التصريحات الإعلامية من الرخص بمكان بحيث يتخّيل الكاتب من عندياته أشياء لا حصر لها من اللامعقول ويفرضها على الآخرين فرضا من دون إعطاء أي هامش من الاحتمالات ! ويسوء الأمر أكثر لدي العديد من كتابنا ومؤلفينا وإعلاميينا عندما يعد الاحتمالات التي يقدمها غيره مجموعة حقائق ينشرها لكي يعتبرها الناس مجموعة (حقائق) يثبتونها أساسا للاعتماد عليها.. ولقد لمست أن كاتبا ثقيلا بحجم هيكل أو كاتبا آخر بوزن الريشة وليس بوزن هيكل لا يكتفيان بما يأخذونه من هذا وذاك علنا، بل يبخلون حتى بالإشارة إلى مصدر المعلومات التي استقوا منها أفكارهم ومادتهم!! إن النقدات التي يصّرح بها ضد هذه الدولة أو تلك، أو ضد هذا الزعيم أو ذاك لم تستند إلى حقائق، بل تعتمد على ما يتخيّله الرجل.. وليس من باب الأمانة ان يتصّرف هيكل بتواريخ معينة لرجال وزعماء وأسر سلالية حاكمة ومؤسسات وحكومات وانظمة سياسية ويتناسي تواريخ آخرين كانوا يقفون وراء فجائع آلامة ونكباتها وهزائمها! وليس من الانصاف ان يحّمل محمد حسنين هيكل مسؤولية ما تعيشه الامة اليوم لزعماء معينين ويتناسى عن قصد وسبق اصرار ما فتكه زعماء آخرون وانظمتهم الدكتاتورية في عزل الحاضر عن التقدم وممارسة القمع وكبت الحريات والانعزال عن تطور الحياة والانكفاء على الذات وخلق الفراغات السياسية في عصر الأحزمة الجيوستراتيجية! هل كنا نحن العرب حاضرين في كل العالم؟ من أين أتيت بهذه الفرية ؟ كيف كنا- نحن العرب - حاضرين في كل العالم؟ متى حدث ذلك؟ علينا ان لا نسمع صوت الصحفي يا ناس؟ علينا ان نحتكم لمعلومة المؤرخ! متى كان لنا صوت مسموع في القارات الخمس؟ باسم من نتحدث يا عزيزي هيكل؟ باسم العرب ام باسم مصر؟ وماذا جنينا من مؤتمر باندونغ ومنظمة دول عدم الانحياز؟ ما الذي قدمته منظمة الوحدة الافريقية؟ هل توحّد العرب عملا بشعاراتهم الزائفة التي اطلقوها؟ ام توحّدت افريقيا بعيد حركات التحرر العالمية؟ هل قاد العرب حركات التحرر في العالم؟ هل قاد العرب انتفاضات الطلبة في العالم؟ ألم يكن العرب وقودا حمراء للحرب الباردة في العالم عندما تقاذفتهم كل من كتلة الشرق وكتلة الغرب؟ من صنع حاضرنا البائس يا عزيزي هيكل؟ عندما كانت الحرب الباردة على أشدها في الخمسينيات والستينيات انتفض الضباط الاحرار على الشرعية مستغلين مناوراتهم بين ارجل الكبار وقالوا بعدم الانحياز وقالوا بالحياد الإيجابي.. ولكن هل كانت لهم استقلالياتهم في صنع القرارات المصيرية ؟ ألم تتخذ او تؤجل قرارات مصيرية عربية حسب رغبات السفير الامريكي او السفير السوفيتي او السفير البريطاني او السفير الفرنسي؟. ما الذي خرج به العرب اثر تلك الحقبة الموبوءة بالقمع والتشتت والصراعات والانقلابات وبكل عوامل القهر ضد الاحرار وضد الشرعية وضد الاستقرار وضد التطور الطبيعي للحياة؟ ما الذي جاء به الثوريون عندما قلبوا الحياة من سيرتها الطبيعية الى حركتها الانقلابية وبدأ التكالب على السلطة وتدخل الجيش في السياسة واغتيلت الاحزاب العريقة واصبحت (الوطنية) شعارا بلا مضمون؟ واذا كان مسؤولون مثل ميتران وبلير وبريماكوف وغيرهم قد انتقدوا الزعماء العرب انتقادا مريرا، فهل كان الزعماء الذين سبقوهم في اوروبا قد احترموا العرب وانهم لم ينتقدوا الزعماء العرب السابقين؟ ما الذي يتخيله هيكل عندما لا يرى غير صورته وهو يستقبل ضمن وفد رسمي قبل اربعين سنة ونحن ندرك كم تهتم اي دولة بمستقبليها؟ وسواء باع الزعماء العرب اسرار الاسلحة الروسية لامريكا ام لم يبيعوا ذلك، فهل كانت الولايات المتحدة الامريكية عاجزة عن كشف اسرار دبابات تي 62 وغيرها من الاسلحة السوفيتية لتعتمد على العرب في امتلاك تلك (الاسرار)؟ هل كان الاتحاد السوفيتي يبيع اسلحته للعرب فقط؟ وهل عجزت اسرائيل عن فك الغاز الاسلحة السوفيتية، كي تكون تلك (الاسرار) عربون صداقة بين الزعماء العرب والولايات المتحدة الامريكية؟ الى متى نبقى نفجّر ألعاباً سحرية ونضحك بها على الناس، والبعض يعتبرونها قنابل يفجّرها الاستاذ من حين لآخر؟ وهي لا اساس لها من الصحة.. او انها تأتي نقلا عن اتهامات صحفية لهذا الطرف او ذاك الطرف من العالم؟ الخلط من أجل تشويه الصورة ويضيف معلقاً: إن في السياسة قواعد وحدود يجب أن تحترم ولا يجوز تقديم المصالح عليها. إفريقيا: بعد أن كنا قادة في القارة الإفريقية ابتعدوا عنا تماما وصار عندنا مشكلة في التعامل معهم غير قابلة للحل لم يعد هناك سلطة بإمكانها حجز شعبها عن العالم والأخبار والتطورات والإعلام ولا حجز نفسها بحيث لا تنتشر مشاكلها في كل العالم. وهذا ما لم تفهمه بعض الدول إلى الآن. هناك على سبيل المثال 2000 جريدة في الوطن العربي، و 95 فضائية عربية، و800 محطة فضائية يمكن التقاطها في العالم العربي! إن العالم يتعامل معنا على أننا تاريخ، أي علاقات سابقة قديمة، وجغرافيا، أي موقع هام، وتراث ولا يتعامل معنا سياسيا بل يدارينا سياسيا. (يا للفضيحة) منذ ثلاثين سنة وضعنا كل الأوراق بيد أمريكا وقلنا إن 99 بالمائة من الحل للمنطقة بيد أمريكا، فماذا حصل وكيف نتصرف مع أمريكا اليوم وكيف تتصرف معنا؟ لقد استجاب العرب لكل مطالب أمريكا: سلام مع إسرائيل، خصخصة، ترك السلاح الروسي، حتى وصلت الطلبات الأمريكية إلى ما يمس سلطة الحاكم فبدأ الخلاف. هنا نتوقف قليلا عند هذا (الطرح) الذي يرى الامور بالمقلوب جميعا! ما معنى هذا الذي يسوقه محدثنا؟ هل يدري انه يخاطب الناس في امور شتى ولكن يخلط عاليها سافلها! اذا كان هناك في السياسة قواعد وحدودا ينبغي ان تحترم ولا يجوز تقديم المصالح عليها.. فلماذا خرقت الانظمة الثورية العربية التي يتشدق بها هيكل كل القواعد والحدود في سبيل مصالحها المحلية والقطرية والاقليمية؟ ولماذا تدخّلت دول عربية في شؤون دول عربية اخرى؟ ولماذا سكت محدثنا على بذاءات وشتائم وسباب كانت جميعها تكال في اذاعات معينة ضد سياسات دول عربية؟ اين القواعد والحدود؟ اين كانت مثاليات العسكر وهم يحكمون البلدان العربية وقد هجموا كل القواعد والحدود في سياساتهم حجرا فوق حجر؟ ولماذا لم يشر محدثنا الى اي سياسات لها حدود ومثل واخلاقيات؟ اهي سياسات الداخل الامنية والقمعية ام سياسات الخارج الكارثية؟ ومن قال ان هناك سادة لإفريقيا غير الاستعمار الاوربي؟ ومن يقصد هيكل بسادة إفريقيا العرب ام مصر؟ متى رضي الأفارقة عن العرب حتى يغدو العرب سادتهم؟ هل قرأ محدثنا تاريخ افريقيا الحديث والمعاصر كي يكتشف ما الدور الذي كانت اسرائيل ولم تزل تلعبه في افريقيا؟ من قال بأن الأفارقة كلهم كانوا قد رضوا بالتدخلات السياسية لبعض الدول العربية في شؤونهم ابان الستينيات؟ اذا كانت القاهرة في الستينيات تستقبل القادة الأفارقة.. فان طرابلس ليبيا اخذت تستقبلهم هذه الايام.. ولكن ليس القادة الأفارقة من الغباء حتى يقبلوا لأن يكون العرب قادتهم؟!! ويتباهى صاحبنا بأن لدينا كم هائل من الصحف والمحطات الفضائية وان العرب يستقبلون كم اكبر من المحطات الفضائية العالمية.. وكأنه يتحدث عن امة تعيش في مدارج العلى.. وهو نفسه الذي كان قد مسخ صورتها عندما قال بنسب الامية التي تعشش في دواخلها السكانية، وهو نفسه الذي لا يعترف بالنخب المثقفة والمتخصصة التي تقرأ كتاباته وتمجّد سيرته ليل نهار.. وهو الذي يبدو انه لا يدرك بأن الاعلام شيء والثقافة شيء آخر! وهو الذي بدا لا يميز بين حالات الادراك الحضاري المتبادل وبين حالات الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي! ان المسألة ليست مطلقة يمكن ان نجعل امة العرب في مصاف الامم المتقدمة وننتقد العالم كيف ان (العالم يتعامل معنا على أننا تاريخ، أي علاقات سابقة قديمة، وجغرافيا، أي موقع هام، وتراث ولا يتعامل معنا سياسيا بل يدارينا سياسيا. (يا للفضيحة) - على حد قول هيكل -!!. لماذا كل هذا الاستياء يا صاحبي والعالم كله قد سمعك تبخس دور الدول العربية في العام الماضي عندما كنت تقّيم دور العرب في السنة 2004! لماذا الفضيحة والامر معروف على ان العالم يتعامل معنا اليوم كتاريخ وتراث ولا يتعامل معنا سياسيا! كيف يمكنه ان يتعامل معنا سياسيا اذا لم نحسن ان نتعامل مع بعضنا البعض سياسيا؟ لماذا الفضيحة يا صاحبي عندما يدارينا العالم سياسيا اليوم؟ ألم نعترف جميعا بضعفنا نحن العرب؟ الم نعترف بأن المشكلة ليست في الآخر بقدر ما هي كامنة اسبابها في الدواخل؟ ألم تقرأ واقعك السياسي والاجتماعي والاعلامي وانت تراه بالعين المجردة واقعا يسبّح باسم التاريخ وبحمد التراث؟ ألم تقف على اعلامك العربي وهو في اقصى درجات تبلّده اذ لا يعّرف ابدا ان يتعامل مع واقعه بالداخل ولا مع العالم الخارجي؟ ألم تر كيف كانت ردود الفعل على أخطاء لم يساهم الزعماء العرب وحدهم فيها، بل شاركتهم النخب السياسية والفكرية والثقافية والجوقات الإعلامية والصحفية عندما يتم تأييد الجنون بمقارعة الامبريالية العالمية والتحالف مع الطغاة والجلادين من دون أي حكمة ولا أي موعظة حسنة.. ولم نسمعك انت يا صاحبي تطالب بالعقلانية في معالجة الواقع.. بل كل ما سمعناه كان في قبض الريح!! وتتساءل بعد كل هذا وذاك قائلا: منذ ثلاثين سنة وضعنا كل الأوراق بيد أمريكا وقلنا إن 99 بالمائة من الحل للمنطقة بيد أمريكا، فماذا حصل وكيف نتصرف مع أمريكا اليوم وكيف تتصرف معنا؟ لقد استجاب العرب لكل مطالب أمريكا: سلام مع إسرائيل، خصخصة، ترك السلاح الروسي، حتى وصلت الطلبات الأمريكية إلى ما يمس سلطة الحاكم فبدأ الخلاف. وأسألك: بالله عليك، ألم تنادي في اكثر من مكان بأن على العرب ان يوازنوا مصالحهم من خلال الامريكان؟ الم تطلق افكارك في هذا السبيل الذي انتقدك عليه العديد من القوى السياسية؟ ألم تصرّح بأن على العرب ان يفهموا بأن امريكا هي القوة الاعظم في العالم، ولا بد لهم من لعبة التوازن؟ وأسأل: لماذا خلط المرحلة بين اليوم والامس؟ وأسألك: متى لم يستجب العرب للامريكان؟ وأسألك: لماذا خلط الاوراق بهذه الصورة البدائية التي لا يدركها الا المدققون؟ لماذا خلط السلام مع الخصخصة مع ترك السلاح الروسي؟ لكل حدث زمن معين وظرف معين وسبب معين.. ثم نحن ندرك جميعا بأن الطلبات الامريكية وصلت الى ما يمس سلطة الحاكم ليس قبل ثلاثين سنة.. بل بعد تداعيات احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولأسباب يعرفها القاصي والداني.. فلماذا هذا الخلط من اجل تشويه صورة معينة نعيشها اليوم.. وكأن الامس كان ناصعا براقا لا شائبة فيه.. ان غيوم الامس الداكنة السوداء هي التي اتت بكل مآسي الحاضر التعيس. الإصلاح والتغيير أما عن التغيير والإصلاح فيقول هيكل: التغيير إذا كان من الداخل فلماذا لم يأت حتى الآن؟ وإذا كان من أمريكا فهي حليفتكم منذ ثلاثين سنة وتفضل مصلحتكم فلماذا لا تقبلوا التغيير من طرفها؟ ولا ندري هل يعتبر هيكل الإصلاح والتغيير كذبة كبرى ؟؟ وهذا التغيير يجب أن يأتي برأي هيكل من قوى التغيير لكي نضمن أصالته واستمراره وهي قوى المجتمع المدني. المشكلة بين حكام العرب وأمريكا هي إما أن يفهموا سياستها أو لا يفهموها، وهم لم يفهموها!!! وبالمقابل يا محدثنا ان امريكا ? كما يبدو حتى الان ? لم تفهم واقعنا العربي ولا كيفية التصّرف مع العرب.. بدليل سذاجة قوى سياسية عديدة لا تعرف كيف تدير عمليات ليس الإصلاح والتغيير، بل عمليات الصراع وادارته. ان استراتيجية العرب في الحاضر والمستقبل تكمن اصلا في التغيير والإصلاح، ولكن ان كانت المجتمعات العربية رهينة بيد نخب ثقافية واعلامية لا تقبل الإصلاح والتغيير، فان ذلك لا يمكنه ان يحدث ابدا من الداخل، ولابد ان نعرف بأن النظم الانقلابية والثورية والعسكريتالية العربية لم تتقدم بأية خطوات الى الامام ولم تمنهج حياتها من خلال التغيير الحضاري، بل اطلقت الشعارات الثورية الوهمية واحتكرت السلطة وارتهنت الحريات وكبلت الافواه وحّلت الاحزاب واغتالت الليبرالية العربية فكرا وسياسة.. ووقفت ضد القيم الاجتماعية وناهضتها مما خلق ردود فعل معاكسة.. واذا كان الزعماء العرب المعاصرين لم يفهموا السياسة الامريكية، فهل هناك من زعماء غيرهم في هذا العالم يفهم ما ستراتيجيات امريكا في العالم؟ وهل ان هيكل نفسه يفهم ما الذي تريده امريكا.. انني اتحدّى أي سياسي عربي أو غير عربي ان يبرهن لي ما الذي تريده الولايات المتحدة الامريكية وخصوصا منذ انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط الاتحاد السوف ييتي، وازداد الغموض تماما بعد كل الذي حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001م. إن الإصلاح والتغيير ليس اجندة سياسية يقوم بها الداخل أو الخارج من اجل ترضية هذا او ذاك، بل انهما ضرورة تاريخية تحتمها المستجدات الداخلية العربية عند بدايات القرن الواحد والعشرين.. ان النخب السياسية والمثقفة العربية ليست أفضل حالا ولا أصدق لسانا ولا اعظم قدرا من الأنظمة السياسية العربية.. انها تساهم مساهمة حقيقية وكارثية في الوقوف ضد الإصلاح والتغيير بدليل مواقفها الفاضحة من ظواهر كارثية في حياتنا العربية المعاصرة، وانها ليست مسلوبة الارادة كما تقول، بل ان لها دورها في الوقوف ضد كل فكر إصلاحي وضد أي قرار إصلاحي وضد أي افكار جديدة.
* مؤرخ عراقي ( يتبع الجولة الثانية )
|