في السابع من شهر كانون أول ديسمبر عام 1987م تحولت حادثة الدهس المتعمدة التي تعرض لها أربعة من العمال الفلسطينيين وأودت بحياتهم بواسطة شاحنة يقودها مستوطن يهودي إلى الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الفلسطينية، في سائر أنحاء الأراضي المحتلة عام 1967م. ومنذ ذلك التاريخ وحتى ما يزيد عن ستة أعوام لاحقة، خاض الشعب الفلسطيني المنتفض والأعزل، واحدة من أشمل وأشد حروب الاستقلال الشعبية على امتداد القرن الماضي، حيث سقط آلاف الشهداء وعشرات الألوف من الجرحى وآلاف المعتقلين. وفي نفس الوقت والظروف ولدت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتوقع الكثيرون لهذه الحركة الاندثار والاضمحلال، واعتبروها مجرد حالة عابرة اعتلت أمواج الانتفاضة لن تلبث أن تتلاشى وتزول تحت وطأة ضغوط الاحتلال وقلة الموارد والإمكانات والازدحام الفصائلي في الساحة الفلسطينية، ولكن بعد سبعة عشر عاماً من قيام حماس، بدت هذه التوقعات مجرد فقاعات في الهواء، حيث تمكنت حركة حماس من مواصلة النضال ضد المحتل في ظروف صعبة للغاية، وصقلت الانتفاضة الفلسطينية المباركة الأولى، وانتفاضة الأقصى الحالية تجربة حركة حماس النضالية بصورة متميزة في سجل جهاد الشعب الفلسطيني، وقدمت الحركة قائمة طويلة من النماذج الفذة والبطولات الأسطورية حتى غدت حماس وشهداؤها ورموزها وكتائبها عناوين محفورة في ذاكرة الشعب الفلسطيني. ومنذ دخول السلطة الفلسطينية مناطق الحكم الذاتي في تموز (يوليو) 1994م ازدادت المطالب الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية لوقف العمل النضالي الفلسطيني المتمثل في حركتي (حماس) و(الجهاد) الرافضتين لخيار أوسلو، وبات أمن إسرائيل هماً فلسطينياً وأصبحت جميع الاتفاقيات الفلسطينية - الإسرائيلية اتفاقيات أمنية هدفها الوحيد القضاء على مقاومة الاحتلال، وتعرض المئات من قيادات وكوادر ونشطاء الحركتين للاعتقال على أيدي رجال الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وفرضت الإقامة الجبرية على الشيخ أحمد ياسين أكثر من مرة..! واعتقلت القادة الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والدكتور محمود الزهار، وتم حلق ذقنيهما على أيدي أشاوس السلطة في المعتقل، والشهيد القائد الدكتور إبراهيم المقادمة حيث تم حرق جسده بمكواة كهربائية. وكان باستطاعة كوادر القسام الرد على كل هذه الجرائم بحق قادتها، ولكن حركة حماس أثبتت في كل مرة أنها (أم الولد) الذي يخاف على وليده من الموت في ظل شعارات رنانة رفعها بعض قيادات السلطة في الحفاظ على المشروع الوطني الفلسطيني والحفاظ على الوليد الفلسطيني.! فإن ما يحكم حركة حماس وسلوكها الشخصي والسياسي هو صدق انتمائها لمبادئها وشعبها ووطنها، وخشيتها من الله وابتغائها من فضله. (وهذا ما أكده الأخ هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح في أكثر من مناسبة بالقول: إن الأيام ستثبت بأن حركة حماس كانت وستبقى دوماً أم الولد التي حافظت على الدم الفلسطيني). وفي انتفاضة الأقصى الحالية رفعت المقاومة الفلسطينية شعار (توازن الرعب) مع العدو الإسرائيلي، وقد استطاعت كتائب القسام بجانب كتائب شهداء الأقصى وسرايا القدس وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى ولجان المقاومة الشعبية وجميع الفصائل المقاتلة أن تفرض هذا الشعار وتترجمه من خلال عملياتها الاستشهادية والقتالية إلى واقع عملي يخيم على ليل العدو الصهيوني ونهاره. وفي ظل انتفاضة الأقصى وما أثمرت عنه من ثمار مباركة كان أبرزها هذه الوحدة الفلسطينية المعمدة بشلال الدم الفلسطيني، وهذا التناغم الرائع بين فصائل شعبنا وذلك التنافس المحمود بينها في تسديد ضربات موجعة لعدونا المحتل وأدت في مجملها إلى فرار العدو الإسرائيلي من قطاع غزة، ظهرت الأحداث المؤسفة في مدينة غزة وجباليا وبيت لاهيا من صدامات أوقعت قتلى وإصابات بين أنصار حركة حماس والأمن الفلسطيني، وعاد بعض المتنفذين في السلطة لكيل التهم جزافاً ضد حركة حماس بترديد ما من شأنه أن يزعزع وحدة الشعب الفلسطيني التي بها نضمن الظهور على الأعداء وتفويت مؤامرات العملاء والدخلاء على شعبنا، حيث اتهمها البعض بالانقضاض على السلطة، والسعي لتقاسم الكعكة، والوثب على كيانية السلطة، وبأنها خارجة عن القانون..!! ووصل الأمر بوزير الشؤون المدنية الفلسطيني محمد دحلان بالقول: إن حركة حماس تحاول القيام بانقلاب عسكري على السلطة الفلسطينية لتحقيق هدف شارون في القضاء على السلطة! ولم يوضح لنا المسؤولون الفلسطينيون عن أي قانون خرجت حركة حماس؟ عن القانون الإسرائيلي الذي يعتبر الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت!! لذلك تسعى إسرائيل من خلال هذا القانون إلى قتل جميع الفلسطينيين..!! أم هو القانون الأمريكي الذي يعتبر مجرم الحرب شارون رجل سلام..!! أم عن القانون الفلسطيني الذي قيدت إسرائيل كل رموزه بعد أن كانت لها اليد الطولى في صياغته وتوجيهه، الذي استبيح عشرات المرات من قبل نفس المسؤولين الذين اتهموا حركة حماس بالخروج عن القانون؟! إن جميع المحاولات التي خطط لها لتغييب حركة حماس في الماضي لم تنجح، كما لم تنجح موجات الاغتيالات والقتل والاستئصال والاعتقالات المتتالية لأبنائها وتدمير بنيتها التحتية في إجهاض الحركة، أو طمس دورها الجهادي، وبقيت حركة حماس على العهد الذي عهدناها به، واستمر أبطالها الذين عرفوا بتسابقهم للشهادة على مبدأ مقارعة العدو الصهيوني في كل الأرض الفلسطينية، حتى المسؤولين الإسرائيليين يدركون بأن حركة حماس ليست برافد صغير وبعيد عن الشارع الفلسطيني، وهذا ما صرح به مسؤول إسرائيلي بأن (حماس أصبحت جزءاً أصيلاً وكبيراً من المواطنين الذين نحاربهم الآن، وحماس هي عنصر من العناصر الفلسطينية الأساسية ولن يقضى عليها مهما اشتدت الضربات وحتى لو ألقي بكل ناشطيها في السجون). كلمة أخيرة نوجهها لحركة حماس لقد نجحت حركة حماس في البقاء لأنها لم تهدر الدم الفلسطيني، ولا الرصاص الفلسطيني في غير ميدان المعركة مع العدو الإسرائيلي، ولأنها وضعت دائماً مصلحة الشعب الفلسطيني ووحدته قبل كل شيء، وبقيت رموز حماس عنواناً لمعاناة الشعب الفلسطيني المستمرة، وتعبيراً عن حقه الضائع، وبقيت حماس ممثلة لإرادة الشعب الفلسطيني وتمرده ضد المحتل رغم ما واجهته في سبيل ذلك، وظلت حدقات مجاهدي القسام، وفوهات بنادق كتائب القسام مصوبة تجاه صدر واحد، هو صدر المحتل. إن الأحداث الأخيرة المؤسفة التي وقعت في غزة وجباليا وبيت لاهيا أعطت ذريعة للآخرين، وللمتربصين بالحركة الذين دأبوا على تشويه سمعة المقاومة لاتهام حركة حماس بأنها تكرس (ثقافة الثأر) في المجتمع الفلسطيني، هذه الثقافة البائسة التي حاول العدو الإسرائيلي تكريسها بين الشعب الفلسطيني طوال سنوات الاحتلال البغيضة، واستطاع هذا الشعب المجاهد أن يفشل هذه السياسة بفضل تضحياته وصموده وإدراكه للمؤامرات والمخططات التي يحيكها أعداؤه له. وما تحتاجه الحركة هذه الأيام - عبر حقول الألغام والأشراك المنصوبة لها من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي وجحافل العملاء الذين لا تلاحقهم السلطة الفلسطينية كما ينبغي أن تعمق رؤيتها بإلقاء نظرة نافذة صادقة إلى داخلها وعلى كل ما حولها وعبر كل ما يجري، لتتأكد من أن الكمائن التي نصبت لها منذ نشأتها وإلى الآن قد ازدادت، وأن المطلوب إسرائيلياً وإقليمياً ودولياً ومن بعض المتنفذين في السلطة الفلسطينية استدراجها إلى معارك جانبية، جماعية كانت أم فردية، تنقلها من صياغة الفعل إلى رد الفعل، ومن التخطيط إلى التخبط، لتبعدها عن هدفها وغايتها التي انطلقت من أجلها قوة تحرر وطني. فحذارِ.. حذارِ.. نقولها بقلوب صادقة محبة.
|