إنّ اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة, فإنّه صغير جرمه عظيم طاعته وجُرمه. إذْ لا يستبين الكفر والإيمان إلاّ بشهادة اللسان وهي غاية الطاعة والعصيان. فبهذا المخلوق الصغير يعبِّر الإنسان عن بغيته ويفصح عن مشاعره .. به يطلب حاجته ويدافع عن نفسه ويعبِّر عن مكنون فؤاده .. يحادث جليسه ويؤانس رفيقه .. به السقطة والدنو وبه تظهر الهمّة والعلو. فاللسان رحب الميدان ليس له مرد ولا لمجاله منتهى وحد . له في الخير مجال رحب وله في الشر ذيل سحب. فمن أطلقه عذبه اللسان وأهمله مُرخى العنان سلك به الشيطان في كلِّ ميدان وساقه إلى شفى جرف هار إلى أن يضطره إلى دار البوار. ولا يكبُّ الناس في النار على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم. ولا ينجو من شر اللسان إلاّ من قيّده بلجام الشرع .. فلا يطلقه إلاّ فيما ينفعه في الدنيا والآخرة .. ويكفه عن كلِّ ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.
لعمرك ما للمرء كالرب حافظ ولا مثل عقل المرء للمرء واعظ لسانك لا يلقيك في الغي لفظه فإنك مأخوذ بما أنت لافظ |
ألا وإنّ صدق الحديث وحفظ الأمانة وعفّة اللسان والقناعة بالمقسوم من صفات المؤمنين المخبتين. وإنّ الكذب والخيانة والطمع الخبيث والخداع من علامة المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}(204)سورة البقرة .. وإنّ كثرة الكذب وقلة الصدق آفة إذا استشرت في مجتمع ما قوّضت أركان سلامته وهدمت أساس استقراره، وبدّلت اطمئنان أفراده قلقاً .. وسعادتهم شقاءً .. لأنّ الحياة في مجتمع يفتقد أمانة الكلمة، ويمارس أفراده الكذب، حياة نكدةٌ تعيسةٌ بسبب انعدام الثقة بين أفراده. وإنّ تقدم المجتمع المسلم ورفاهيته وسلامته واطمئنان أفراده . كلُّ ذلك مرهون بشيوع الصدق بين أفراده، وانتشار الثقة بينهم، واضمحلال الكذب إلى أقصى حدٍ ممكن، في تعاملاتهم وعباداتهم وإعلامهم ومدارسهم .. بل في شؤون الحياة كلها. ولقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدق في مَوَاطن عديدة لأنّه مقدمة الأخلاق والداعي إليها وهو علامة على رفعة المتّصف به. فبالصدق يصل العبد إلى منازل الأبرار وبه تحصل النجاة من جميع الشرور. والصدق تبرم به العهود الوثيقة وتطمئن له القلوب على الحقيقة. فمن صدق في حديثه كان عند الله وعند الناس صادقاً محبوباً مقرّباً موثوقاً .. شهادته بر وحكمه عدل ومعاملته نفع. ومن صدق في عمله بعُدَ من الرياء والسمعة. صلاته وزكاته وصومه وحجه وعلمه ودعوته لله وحده لا شريك له .. لا يريد بإحسانه غشاً ولا خديعة، ولا يطلب به من أحد من الناس جزاءً ولا شكوراً .. يقول الحق ولو كان مراً، لا تأخذه في الصدق مع الله لومة لائم. فصدقه في أقواله وأفعاله هو مطابقة مظهره لمخبره وتصديق فعله كقوله. ولذلك فإنّ من يحترف الإعلام أو الخطابة أو الإرشاد، أو يتصدى لنشر الأخبار بأي وسيلة من الوسائل، يجب عليه أن يتحرى الصدق فيما ينقله ويرويه. فلا ينقل كذباً ولا ينشر باطلاً، فإنّ الكذب حين يُذاع والباطل حين يُنشر يعظم بين الناس خطره ويتفاقم ضرره .. لذلك كله - أيها الإخوة - يضاعف الله عقابه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل مفاده: (رأيت الليلة رجلين أتياني، وقالا: إنّ الذي رأيته يشق شدقه فكذاب .. يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق. فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة). رواه البخاري ومسلم. فالصدق في الطرح والرأي بالإضافة إلى أنه أثر للصلاح وعامل للفلاح هو ضياء للساري في خضم الحياة الصاخبة يهديه للتي هي أقوم حتى يُكتب من الصديقين ومن زمرة البررة الصالحين. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (والإيمان أساسه الصدق والنفاق أساسه الكذب. فلا يجتمع كذب وإيمان إلاّ وأحدهما محارب للآخر). لقد فاخر كثير من البلاغيين بالبيان والقلم حتى جاروا به السيف وأزيد من ذلك بضروب من وجوه الترجيح، حيث إنه يؤثر في العدو عن بعد بخلاف السيف فإنه لا يؤثر فيه إلاّ عن قرب. إذ إن ّالقلم الجاد يرقم صحائف الأبرار لتحطيم صحائف الأشرار. لا يصرفه عن ذلك ما يلاقيه في عوالم شتى من قبل ذوي الترف من أهل البدع والإلحاد في الدين أو من ذوي الأقلام المأجورة . فضلاً عما يصاحب ذلك من تعسف وإرهاق باسترقاق الأقلام أو تجفيف المحابر. إنّه في الحقيقة لا يزيد أهل العلم إلاّ بياناً وتبياناً وعزماً على قول الحق وتبيين الدين للخلق والتحذير مما يغضب الله ورسوله، حاديهم في ذلك قوله جل وعلا: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} (5)سورة الزخرف. فإنّ صدق القلم وفصاحته من أحسن ما يتلبّس به الكاتب ويتزر به العاقل. والاعتناء بأدب القلم في المعنى هو ضرورة كما الأمر في المبنى. وثمة ولا شك أنّ من غرس فسيلاً يوشك أن يأكل رطبها. وما يستوى عند أولي النهى وذوي الحجى قلمان: أحدهما ثرثار متفيهق يطب زكاماً فيحدث جذاماً .. وأما الآخر فيكتب على استحياء محمود وغيرة نابتة من حب الله ورسوله. وإذا تعارض القلمان فإنّ الخرس خير من البيان بالكذب. كما أنّ الحصور خير من العاهر. فإنّ من عزم الكتابة فلا يتخذ من المماراة عدة ولا للمجاراة ملجأً ولا يأمن الزلة والعرضة للخطأ. وكما قيل: من ألف فقد استهدف. وفي القديم (من كتب فكأنما قدم للناس عقله في طبق) وحاصل ذلك أنّه ما رؤي كمثل القلم في حمل المتناقضات فهو عند اللبيب المهتدي آلة من آلات الخير والبر .. ومركب من مراكب البلوغ والنجاح . ورأب صدع الفلك الماخر. وهو عند الوقح السفيه عقرب خبيثة ودود علق يلاصق لحم من ينال. وقد يوفّق الكاتب في كلامه فيكون لها شأن يظهر عليها من الجدة وإجادة المطلع وحسن المقطع مدعمة بالنصوص الشرعية والأقوال المرعية، فتبهر القلوب وتأخذ بالألباب حتى يظن القارئ أو السامع أنّها غير ما في أيدي الناس، وهي مما في أيدي الناس. حيث ترى براعة القلم وشجاعته ولطف ذوقه وشهامة خاطره. وفي الحديث: (إنّ من عباد الله من إذا قرأ القرآن رأيت أنه يخاف الله) وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. بيْد أنّ القلم في هذا الزمان قد فشا فشواً كبيراً واتسع نطاقه حتى بلغ القاصي والداني. ومما لا شك فيه أنّ الشيء إذا فشا وذاع ذيوعاً واسعاً، كثر مدعوه وقلّ آخذوه بحقه. فكثر الخطأ وعم الزلل، وإنّ من ذلك عري بعض الأقلام عن الأدب. فلم ترع حرمة ولم تحسن رقماً ولم تزن عاطفة في نقاش .. فثارت حفائظ وبعثت أضغان وكشفت أستار واشتد لغط. رقماً بقلم في قرطاس ملموس بالأيدي . ناهيكم عن الكذب والافتراء والتصريح بالعورات والمنكرات والجرأة على الله ورسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. وما يصاحب ذلك من قلم متعثر ومقالات إلى أسباب تلك العثرات حتى يزداد خطرها ويستفحل شرها ومن ثم ينوء أصحابها بأحمال ندم لا يقلّها ظهر. وتنكيس رؤوس يحسون بها بعيدي الرفع. ودموع حزن على قبح تسطير ما لمددها انقطاع. وأقسى الكل أن سيقال لمثل أولئك: بماذا؟ .. ومن أجل ماذا؟ .. ولأي شيء هذا؟ ... وصدق من قال:
وما من كاتب إلا سيفنى ويبقي الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفك غير شيءٍ يسرُّك في القيامة أن تراه |
إنّ القلم أمانة وحملته كثر من بني الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا. وما كل من حمل الأمانة عرف قدرها. ولأجل هذا لفت علماء الإسلام الانتباه إلى صفات وضوابط لا يسع الأمة إهمالها .. ولا يبنغي أن يقصر فيها كاتب أو ذو قلم حمل أمانة الكلمة وصياغة الرأي بين بني البشر. (وعندما أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم. فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع. فقال: ما هذا يا جبريل؟. فقال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها). فيا للعجب .. كيف وهبت لهؤلاء عقول وأسيلت أقلام فما قدروا الله حق قدره بها؟ ولم يستحضروا ثمرة العقل الموهوب والرقم المكتوب الذي باينوا به البهائم حتى بفعلهم. وغفلوا عن من وهب . وهو {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}سورة العلق. ولعمر الله أي شيء لهم في الجد والقلم ليس ملكاً لهم. ويا لله كيف لا توجّه الموضوعية في الطرح شرعة ومنهاجاً من بعث لصاحب القلم السيال في ظلام طبَعه نور القبس {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور}(40)سورة النور.فاللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
|