قد بات التقرير السنوي الأمريكي الذي يقيِّم جهود الدول في مكافحة تهريب البشر تقريراً مهما يحظى بمتابعة دول العالم أجمع، ويكتسب التقرير أهميته بالدرجة الأولى من جهة أنه يهدف لرفع الظلم والمعاناة عن أفراد كثيرين من البشر، ممن يرزحون تحت وطأة الظلم والاستعباد والانتهاك لحقوقهم الإنسانية. وقد صدر هذا التقرير لهذا العام يوم الجمعة 25-4- 1426هـ - 3-6-2005م) وحظي بمتابعات وتحليلات على مستوى العالم أجمع، وكان من أهم ما دعا إلى الاهتمام به هذا العام أنه حوى مفارقة عجيبة، وذلك فيما يتعلق بإدراج المملكة العربية السعودية في قائمة الدول الأسوأ في هذا المجال. ولنا مع هذا التقرير عدد من الوقفات: أولاً: إنه لعمل جليل أن تهتم الدول كافة بمنع كل ما يسيء إلى كرامة الإنسان، وخاصة في مجال استرقاقهم بغير حق، فهذه القضية من أبشع ما يكون، ومن أعظم صور انتهاك حقوق الإنسان، ويجب على جميع دول العالم أن تتداعى لإيقاف هذا النزيف الأخلاقي، خصوصا أن بعض التقديرات الصادرة من منظمات دولية إنسانية أشارت إلى أن هناك نحواً من سبعة وعشرين مليون شخص في العالم يعيشون حياة عبودية وسُخرة مقيتة. وهذه القضية نبهت إليها شريعة الإسلام، وجرَّمت كل من اجترأ على ظلم الناس بهذه الصفة أو غيرها، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجلُ أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعط أجره).قال أئمة العلماء: إن الله سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح.وقالوا: إن اعتباد الحر يقع بأمرين: أن يعتقه ثم يكتم ذلك، أو يجحد، والثاني: أن يستخدمه كرهاً بعد العتق، والأول أشدهما، وفي معناه ما ذكر في تمام الحديث من استئجار العامل وعدم إعطائه أجرته. قالوا: وإنما كان إثمه شديداً لأن من باع حرا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه. وبهذا يعلم أسبقية شريعة الإسلام ووفائها بحقوق الإنسان وتكريمه. ثانياً: إن الشريعة الإسلامية لا تكتفي بالتحذير من امتهان البشر بالسخرة والإذلال، والوعيد بالعقوبة لمن اقترف ذلك، بل إنها لتجعل ذلك قيمة أدبية وعُرفاً أخلاقياً، صادرا عن قناعة ذاتية ومحاسبة وجدانية، يراقب فيها افراد المجتمع خالقهم جل وعلا، وليست متأثراً، برقابة السلطات وتتبعها. ثالثا: إن الولايات المتحدة لتدرك أن المملكة العربية السعودية هي منبع الإسلام الذي هو أعظم الأديان في العالم، وأنها مهد العقيدة الإسلامية، وراعية الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، بحسب ما أقرت به الحكومة الأمريكية في البيان المشترك الصادر يوم الاثنين 16 ربيع الأول 1426 - 25 إبريل 2005م. وبناء عليه فقد كان متعيناً على الحكومة الأمريكية أن تدرك أن هذا التقرير المتعلق باتهام المملكة بالاتجار بالبشر سيكون فاقد المصداقية، لأن الشريعة الإسلامية المحكمة في المملكة تمنع الحكومة السعودية، وتمنع مواطنيها والمقيمين فيها من استغلال البشر في السُّخرة والابتذال، أو الاستغلال الجنسي بالنسبة للنساء. ثم إن الأنظمة المعمول بها في المملكة والمستمدة من الشرع المطهر تُجرم من هرَّب البشر أو استجلبهم للأعمال المنافية لكرامتهم، ولم تزل السلطات الحكومية والأجهزة القضائية قائمة بتجريم ومعاقبة كل من رام خرق هذا النظام، كما هو واضح من عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعمل إدارات مكافحة التسول، وعمل إدارة الجوازات، وعمل الشرطة، وعمل المحاكم. ولقد كان الأمير تركي بن محمد بن سعود وكيل وزارة الخارجية حازماً وواضحاً حين علق على التقرير المشار إليه بقوله: (لقد فوجئنا بما تضمنه التقرير الأميركي، ونحن نرفض معظم ما جاء فيه)، مؤكداً: أن القوانين السعودية تمنع استغلال البشر أو الاتجار فيهم، (كما أن ديننا الإسلامي يمنع مثل هذه الانتهاكات). رابعاً: إن وجود حالات فردية يريد مرتكبوها انتهاك الشريعة وتجاوز النظام، لا تبرر تعميم الحكم، فهي حالات فردية، يقع أمثالها، بل وأضعافها في كل دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة، وهذه الحالات الفردية محل متابعة وفي حال ضبطها فإن عقوباتها رادعة، قد تصل إلى بعض حالاتها بحسب الشريعة الإسلامية إلى الإعدام. خامساً: إن مما يدل على ضبابية التقرير الأمريكي وعدم توفر الأدوات العلمية لمصداقيته أنه لا يفرق بين سعي العمال وشدة حرصهم على المجيء للعمل في المملكة، وبين الحالات التي يصفها بأنها اتجار بالبشر. ذلك أن مما يدركه الجميع أن المملكة العربية السعودية وبالنظر لما حباها الله من القوة الاقتصادية والثروات الطبيعية باتت وجهة للشركات والأفراد في العالم أجمع، للاستثمار والعمل فيها، وهذا ما حدا بالجهات المسؤولة لوضع الضوابط والتنظيمات التي تحفظ للجميع حقوقهم، ومن ذلك حقوق العمال التي لم تزل التنظيمات متوالية لضبطها ورعايتها. علاوة على ما يتسم به شعب المملكة من التدين ودماثة الأخلاق التي يعدون من خلالها هؤلاء العمال من الذكور والإناث ضيوفاً عندهم لهم حقوق الوفادة والضيافة، بل وجدت حالات كثيرة من التواصل الاجتماعي المتمثل في الزواج، الذي وثق العلاقات مع الشعوب الأخرى. وهنا يجدر التذكير بحقيقة تجارة البشر، ليعرف الجميع التنافر الكبير بين الدعوى وبين الحقيقة، حث يعرف بروتوكول الأمم المتحدة لمنع وقمع ومعاقبة تجارة البشر، ولاسيما النساء والأطفال، يعرِّف تجارة البشر، بما يلي: (تجنيد ونقل وإيواء واستقبال أشخاص، عنوة أو باستخدام أشكال أخرى من الإكراه، والاختطاف، والخداع أو سوء استخدام السلطة، أو استغلال مواطن ضعف، أو تلقي أو دفع مبالغ مالية، أو تقديم مزايا لتحقيق موافقة شخص، أو السيطرة عليه لغرض الاستغلال، ويأخذ الاستغلال شكل الاستغلال الجنسي، أو الخدمات، أو العمالة القسرية، أو الاستبعاد، أو الممارسات الشبيهة بالاستبعاد، والنخاسة، أوإزالة أعضاء من جسد الإنسان (لغرض بيعها). فكيف تقحم العلاقات الإنسانية الطيبة التي تربط الشعب السعودي بالوافدين للعمل معهم، كيف تقحم في أعمال منحطة؟! سادساً: لقد كان من جملة الإجراءات التي أصدرها مكتب رصد ومكافحة تجارة البشر التابع لوزارة الخارجية الأمريكية بياناً يتضمن قائمة إرشادات تساعد في التعرف على ضحايا هذه الآفة المنتشرة في بقاع عديدة في العالم التي تتموحر حول مسألتين، الأولى: تجارة الجنس، والثانية السخرة وتجارة العمال، وجاء في الإرشادات ما يلي: تجارة الجنس
إن ضحايا تجارة الجنس كثيراً ما يعثر عليهم في الشوارع، أو يعملون في مؤسسات تعرض خدمات الجنس التجاري، مثل بيوت الدعارة، ونوادي العراة، والمؤسسات التي تنتج صوراً إباحية، ومثل هذه المؤسسات قد تعمل تحت غطاء ما يلي: - صالونات التدليك.- خدمات المرافقة.- مكتبات الكتب الإباحية.- ستوديهات عرض الأزياء.- الحانات أو نوادي العراة. تجارة العمال
إن الأشخاص الذين يرغبون على العمل كمستخدمين مستعبدين يمكن العثور عليهم في: - أماكن العمل تحت ظروف قاسية. - المؤسسات الزراعية التجارية مثل: الحقول ومعامل تصنيع الأغذية ومعامل التعليب. - المنازل التي يعمل فيه الخدم المنزلي. - مواقع الإنشاءات (ولا سيما تلك التي يتعذر على الجمهور دخولها أو الوصول إليها). - المطاعم ومستخدمو التنظيف.. انتهى المنقول من الضوابط. أقول: أما المجال الأول وهو تجارة الجنس فالشعب برمته يرفض ذلك، ويعتبره عارا عظيماً، والأنظمة تجرم كل من يتلطخ بهذه الفظائع، فالمملكة أنظف دولة في مجال العفة ومحاربة الدعارة. أما المجال الثاني: فإنَّ تدين الناس وثقافتهم الاجتماعية ترفضان تعاملات الاستغلال والظلم المشار إليها، ولو وجد شيء من الحالات فهي معدودة مرفوضة من قبل الناس ومن قبل النظام، ويتم تعاطيها بشكل خفي. كما أن التظلم والشكاية متاحان لجميع العمال سواء أمام الشرطة أو القضاء أو حتى سفارات بلدانهم، بل بإمكان العامل مقابلة أمير المنطقة أو من هو فوقه، وعرض شكواه والمطالبة بحقه. سابعاً: لقد كان خليقاً بمن أصدروا التقرير أن يبتعدوا عن الانتقائية والمؤثرات التي يفرضها عليهم أصحاب المصالح الخاصة، على مستوى الأفراد أو الشعوب، خاصة وأن قضية كهذه يجب أن تكون تقاريرها نزيهة، وأن تحظى باستقلالية كاملة حتى تكون مقبولة على مستوى العالم ولكي يتحقق الغرض المقصود، وهو مساعدة الناس الذين يرزحون تحت ظلم استغلالهم والاتجار بهم. ولاشك أن اتهام المملكة بهذه الفظائع مما لا يقبله العقل ولا يطابق الواقع، وقد أدى ذلك لأن يفتقد التقرير لمصداقيته التي لا شك أنها مهزوزة أيضاً بسبب انتهاكات الجيوش الأمريكية للحقوق الإنسانية في العراق وأفغانستان ومعتقل غوانتانامو، وكذلك انتهاك حرمة الدين الإسلامي من خلال تدنيس المصحف الشريف، الذي اعترفت به الإدارة الأمريكية.والله المسؤول أن يحفظ لبلادنا عزها ورخاءها، وأن ينتصر لعباده المظلومين في كل مكان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
|