في عام 1415 كنت أمارس عملي كطبيب مبتدئ في أحد المستشفيات، وأثناء مرورنا اليومي على المرضى قابلنا زوج مريضة دخلت المستشفى لإجراء عملية روتينية ولكن هذه العملية تتطلب توفر كمية دم معينة ونظام المستشفى يشترط تبرع عائلة المريضة بهذه الكمية بغض النظر عن فصيلة الدم. عندما تم إيصال هذا الخبر إلى زوج المريضة ذي الزي العسكري المرصع بالنجوم كان رده التلقائي البارد الذي صدم الحاضرين هو التالي: (أجيب الأفراد يتبرعون... وش عندهم؟)، يقصد بذلك استدعاء العسكريين الذين لا ينتمون لفئة الضباط لتلبية هذه الحاجة بدلاً من أفراد أسرته! ما حصل بعد ذلك متروك لذهن القارئ ومعرفته بواقعه الاجتماعي. في الستينيات الميلادية من القرن الماضي كان واضحاً عجز طرق العلاج والتحليل النفسي المعروفة عن إيجاد حل علاجي لأصحاب الشخصيات النرجسية الذين يظهر سلوكهم الظاهري إحساساً بالعظمة والرغبة المستمرة في إرضاء أنفسهم بالحصول على ما يريدون حتى لو تضرر الآخرون من جراء ذلك. في تلك الفترة ظهر الدكتور (هاينز كوهوت) بنظريته المثيرة للاهتمام التي شرح فيها أن تضخم إحساس الإنسان بنفسه جزء طبيعي من التطور الذهني للإنسان خلال مرحلة الطفولة وأن هذا التضخم يقل مع الوقت عن طريق التربية التي تعلم الإنسان أهمية حقوق الآخرين النابعة من كوننا جميعاً متساوون في إنسانيتنا. هذا التضخم يتحول في حال استمراره إلى آلة لإشباع الرغبات حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالآخرين، فهم في النهاية مجرد عقبة يجب تجاوزها بأي طريقة. هذا الإحساس والسلوك المصاحب له يتضح بشكل أدق عندما يواجه النرجسي من يبدو أفضل منه في نواحي مهمة له مثل الغنى أو الذكاء أو الجمال أو غير ذلك. عندها يسارع النرجسي لإبراز ما لديه وبشكل ملفت حتى يقنع نفسه أنه ما زال الأفضل. كان الحل الذي تقدم به (كوهوت) هو وسيلة علاجية جديدة أطلق عليها اسم التذويب التحويلي (Transmuting Internalization) الذي يعني إشباع رغبة المريض المتطلعة إلى ردود إيجابية بطريقة علاجية مقننة تجعل رغباته النرجسية أكثر نضجاً وأقل إزعاجاً للغير. لعل المثال السابق يدفعنا للتفكير في الانتقال من المستوى الفردي إلى الجماعي. هل من الممكن أن يصبح هذا السلوك النرجسي سمة جماعية لشعب أو أمة أو على الأقل حكومة ما؟.. بالطبع نستطيع دائما أن نصف الغربيين بهذه الصفة وبالتحديد الحكومة الأمريكية ولكن دعونا ننظر لأنفسنا على سبيل التغيير. على سبيل المثال السلوك الفردي العام ممثلاً بطريقة القيادة في شوارعنا وتعاملنا مع العمالة المنزلية وندرة احترام الطوابير يظهر خللاً لا يمكن اعتباره منسوباً لأقلية محدودة. هل الاهتمام بتلبية رغباتنا الشخصية يطغي بشكل واضح على احترامنا للقانون وحقوق الآخرين؟.. الإجابة على هذا التساؤل تقتضي استحضار نظرتنا الشخصية والجماعية لمن يختلفون عنا في اللهجة والمذهب والوطن والدين والكلمات التي نستعملها لوصفهم. لعل الكثيرون منا سمعوا أو قرؤوا نكتة أبو علي وأبو صالح اللذين رفضا غيرهم من المسلمين ثم بالغا في الرفض إلى أن قام كل منهما بتكفير الآخر رغم أن حديثهما دار في روضة المسجد. هذا الرفض للآخرين الذي يرى البعض أننا نعاني حالياً من نتائجه بالإضافة إلى التركيز على إشباع الرغبات الشخصية قد يفسر أيضاً قلة المؤسسات الاجتماعية التي تعني بغيرنا من العجزة والمعوقين وأصحاب الاحتياجات الخاصة وضعف تمويلها مقارنة بالمؤسسات الغربية المماثلة، علماً بأن المسلمين كانوا سباقين في هذا المجال، إذ بنوا أول مستشفى للعناية بهذه الفئة عام 750 ميلادية في بغداد ولم يلحقهم الأوروبيون إلا عام 1375ميلادية عندما أقاموا منشأة شبيهة في ألمانيا الحالية، كما أن رفض الآخرين أو في أفضل الأحوال قبولهم المشروط بكونهم قابلين للتقولب في إطار فكري وسلوكي محدد قد يفسر ضعف العمل التطوعي المنظم الذي يشترط أصلاً قبول الآخرين بدون شروط. رغم ذلك تظل صورتنا العامة وردية في أعيننا رغم سوادها في أعين الآخرين ممن يشاركوننا الحياة على هذه الكرة الأرضية.. إن هذه الصورة الذاتية المثالية التي تتكرر في خطابنا المحلي تذكرنا بعشق نرجس أو نارسيسس في الأسطورة اليونانية لانعكاس صورته في الماء ورفضه لكل من أحبوه. الجزء المنسي عادة من الأسطورة هو العقاب الذي لقيه نرجس من الآلهة اليونانية جزاء عمله!. لقد عشقنا صورة مجتمعنا المحلي الفاضل الخالي من المجرمين والفاسدين والقابع كحبة لؤلؤ في محيط العالم الإسلامي عشقاً جامحاً وشجعنا أنفسنا على رعاية تلك الصورة إعلاميا ومادياً. كما دافعنا عنها بضراوة، حتى أن بعض المفكرين وصانعي القرار وأهالي المتطرفين وعوائل المدمنين والمنحرفين أخلاقياً يلومون ساكني كهوف أفغانستان وموظفي أستوديوهات القنوات الفضائية وأصدقاء السوء على ما حصل لأبنائهم البريئين براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام! إذا كان جميع المغرر بهم قد تأثروا بأصدقاء السوء فمن الذي أثر على أصدقاء السوء وجعلهم (أصدقاء سوء)؟.. إذا لم تكن قد سمعت من قبل بالحلقة المفرغة فإن السطر السابق مثال جيد. نتساءل إذا كانت هذه النظرة المثالية لذواتنا تدافع عن إحساس عميق بالضعف والفشل الفكري والاجتماعي وتحافظ على إحساسنا الكاذب بالأفضلية؟ يعتقد الكثيرون أن هذا السؤال بحاجة لصياغة مختلفة تضعه في إطار أشمل. المشكلة ليست في اختلاف الفكر أو المذهب أو اللهجة بقدر ما هي مشكلة في وجود الاختلاف أصلا. والوضع كذلك من حقنا أن نتساءل ما إذا كان سلوكنا المتعالي تجاه من يختلفون معنا يمثل قمة جبل النرجسية المختبئ في داخلنا - ولكن - من أين جاء جبل النرجسية هذا؟.. يحاول ثيودور ميلون وروجر دافيس مؤلفا كتاب (اضطرابات الشخصية في الحياة الحديثة) Personality Disorders in Modern Life الإجابة على هذا السؤال بالقول بأن النرجسية المرضية هي مخزون الأغنياء ولا قبل للفقراء به لأنهم مشغولون بأمور أكثر أهمية مثل توفير رزقهم. هذه الإجابة لوحدها لا تفسر حقيقة وجود النرجسية بين جميع طبقات المجتمع ولكنها تسلط الضوء على دور الغنى والسلطة والثراء في تنمية النرجسية المختبئة في ذاتنا في انتظار فرصة الظهور، ويبدو أن هذا ما حصل لذي الزي العسكري المرصع بالنجوم. إذا كان اضطهاد الآخرين واكل حقوقهم سوف يزيد من ثقة النرجسي في نفسه وقدراته ويقلل من إحساسه الشخصي والجماعي بالضعف فما المانع طالما أن السلطة التي يملكها تسمح له بفعل ما يريد؟ المشكلة الوحيدة الظاهرة هي كثرة من يمكن استغلالهم واضطهادهم مما يصعب الاختيار! بالتأكيد لا يوجد خطأ في البحث عن مثالية منشودة، الخطأ هو في اعتقاد الأشخاص أنهم وصلوها ثم توريث هذا الاعتقاد لآخرين حولهم بصور مختلفة لتكون النتيجة النهائية مجموعة غير متجانسة اقتصادياً واجتماعياً يتقاسم أفرادها الإحساس بالنبل وعلو المكانة بما يسمح لهم بمخالفة القوانين وعدم الاهتمام برغبات الآخرين وميولهم الشخصية المشروعة.. انه وضع تؤكده كثرة المخالفات المرورية في وضح النهار وعدم احترام الطابور رغم الحواجز الحديدية، كما أن وجود اختلاف فكري أو اجتماعي أو مذهبي يفسر بشكل تلقائي على أنه تأكيد لصواب الطرف النرجسي وخطأ الطرف الآخر وبالتالي يحافظ الطرف النرجسي على إحساسه بالمثالية والعلو.. إن وجود عدد هائل من العيوب في هذا المجتمع سواء من المنظور الشرعي أو الاجتماعي يعكس ظاهرة إنسانية عامة وهي غياب المثالية المنشودة، إلا أن حصول ما نسميه (مفاجآت اجتماعية) مثل الإرهاب والاختلاس والإدمان على المخدرات والجرائم الجنسية وغيرها الكثير تتم مقابلته بجمل جاهزة مثل: ظواهر دخيلة على مجتمعنا أو (في بلاد حرمت من نعمة الإسلام). عندها يعيد الزمن نفسه ويتم تكريسنا كمثاليين مجتمعاً وأشخاصاً لا يأتينا الباطل من داخلنا بل دائماً من مصادر خارجية غامضة يعجز أشدنا ذكاء عن تحديدها بوضوح ودقة! من واقع قراءتي لمؤلفات كوهوت أعتقد أننا لو استشرناه بخصوص وضعنا الحالي لنصحنا بإحضار معالج يوفر التذويب التحويلي. السؤال هو: أين سنجد هذا المعالج المزعوم؟ السؤال الأكثر أهمية هو: من المستفيدون؟.. تذكر عزيزي القارئ والقارئة أن نارسيسس مات غرقاً بعد أن حاول معانقة صورته البالغة الجمال، وفي رواية أخرى أنه مات جوعاً وعطشا بعد أن رفض مفارقة انعكاس صورته - علما بأن عرافة تنبأت له بعمر طويل شريطة أن لا يرى نفسه!. المؤلم حقاً في هذه الرواية الأزلية أن دموع نارسيسس قبل موته سقطت في الماء وأثارت موجة صغيرة شوهت انعكاس صورته ولكنها لم تكن كافية لكي يعود إلى رشده.
|