قِصَّةُ: زَكَريَّا تَامِر رُسُومُ: مَحْمُود فهْمِي فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ كَانَ يَعِيشُ فِي بَغْدَادَ رَجُلٌ اسْمُهُ بَدِيعُ الزَّمَانِ، وَكَانَ قَوِيَّ الْجَسْمِ، ضَعِيفَ الْعَقْلِ. وَرِثَ عَنْ أَبِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ الأَمْوَالِ، وَكَانَتْ حَيَاتُهُ سَعِيدَةً، تَخْلُو مِنَ الأَحْزَانِ. وَلَكِنَّهُ ذَاتَ يَوْمٍ عَرَفَ الْكَآبَةَ؛ إِذْ سَيْطَرَتْ عَلَيْهِ الرَّغْبَةُ فِي أَنْ يَصِيرَ رَجُلاً مَشْهُوراً يُحِبُّهُ أَهْلُ بَغْدَادَ. فَكَّرَ طَوِيلاً، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى مَا يُتِيحُ لَهُ الظَّفَرَ بِمَا يَرْغَبُ. فَقَصَدَ رَجُلاً عَجُوزاً تَتَحَدَّثُ بَغْدَادُ بِاحْتِرَامٍ وَوَقَارٍ عَنْ حِكْمَتِهِ وَلِحْيَتِهِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي تَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ لَهُ بِلَهْجَةٍ مُتَوَسِّلَةٍ: (سَاعِدْنِي يَا مَنِ اشْتُهِرْتَ بِالْحِكْمَةِ). قَالَ الْحَكِيمُ بِرَصَانَةٍ: (تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ.. مَاذَا تُرِيدُ مِنِّي؟) قَالَ بَدِيعُ الزَّمَانِ: (أُرِيدُ أَنْ أُصْبِحَ رَجُلاً مَشْهُوراً تَعْرِفُهُ بَغْدَادُ بِأَسْرِهَا، وَسَأَمُوتُ قَهْراً إِذَا لَمْ أَنَلْ مَا أَبْغِي). قَطَّبَ الْحَكِيمُ جَبِينَهُ، وَفَكَّرَ قَلِيلاً وَهُوَ يُدَاعِبُ لِحْيَتَهُ بِأَصَابِعِهِ، ثُمَّ قَالَ: (ابْحَثْ يَا بُنَيَّ عَنْ مَظْلُومٍ وَدَافِعْ عَنْهُ وَسَاعِدْهُ عَلَى اسْتِعَادَةِ حُقُوقِهِ الْمَسْلُوبَةِ). فَرِحَ بَدِيعُ الزَّمَانِ، وَشَكَرَ لِلْحَكِيمِ نَصِيحَتَهُ، وَعَادَ إِلَى بَيْتِهِ. وَعِنْدَئِذٍ تَنَبَّهَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنِ الْتَقَى بِمَظْلُومٍ، وَأَنَّهُ يَجْهَلُ صِفَاتَ الْمَظْلُومِينَ، فَسَأَلَ زَوْجَتَهُ: (هَلْ تَعْرِفِينَ مَا هِيَ أَوْصَافُ النَّاسِ الْمَظْلُومِينَ؟). قَالَتْ زَوْجَتُهُ: (لا بُدَّ أَنْ تَكُونَ وُجُوهُهُمْ عَابِسَةً). فَغَادَرَ بَدِيعُ الزَّمَانِ بَيْتَهُ مُسْرِعاً، وَمَشَى فِي شَوَارِعِ بَغْدَادَ وَهُوَ يُحَمْلِقُ فِي وُجُوهِ النَّاسِ مُفَتِّشاً عَنْ وَجْهٍ عَابِسٍ. وَفَجْأَةً أَطْلَقَ بَدِيعُ الزَّمَانِ صَيْحَةً فَرِحَةً؛ فَقَدْ لَمَحَ رَجُلاً شَدِيدَ الْعُبُوسِ، فَسَارَعَ إِلَى اعْتِرَاضِ طَرِيقِهِ، وَقَالَ لَهُ: لا دَاعِيَ لِلإِنْكَارِ، مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّكَ رَجُلٌ مَظْلُومٌ، هَيَّا احْكِ لِي عَنْ آلامِكَ وَسَأُسَاعِدُكَ؛ فَأَنَا غَنِيٌّ وَقَوِيٌّ. قَالَ الرَّجُلُ الْعَابِسُ: (نَطَقْتَ الصِّدْقَ؛ فَأَنَا فِعْلاً رَجُلٌ غَنِيٌّ مِسْكِينٌ، اسْمِي عَبَّاسٌ، وَقَدْ سَطَوْتُ عَلَى أَرْضٍ صَغِيرَةٍ، فَطَرَدَنِي مِنْهَا صَاحِبُهَا بِصُورَةٍ تَخْلُو مِنَ التَّهْذِيبِ). قَالَ بَدِيعُ الزَّمَانِ: (وَلِمَاذَا لَمْ تَمْنَعْهُ مِنْ طَرْدِكَ؟) قَالَ عَبَّاسٌ: (إِنَّهُ أَقْوَى مِنِّي، وَلَهُ عَضَلاتٌ فُولاذِيَّةٌ). قَالَ بَدِيعُ الزَّمَانِ: (أَنَا أَقْوَى مِنْهُ، وَسَأَطْرُدُهُ كَمَا طَرَدَكَ، فَأَنَا مُصَمِّمٌ عَلَى نُصْرَةِ الْمَظْلُومِينَ أَمْثَالِكَ). دُهِشَ عَبَّاسٌ وَهَمَّ بِالضَّحِكِ، وَلَكِنَّهُ تَصَنَّعَ الْحُزْنَ الشَّدِيدَ، وَقَالَ: (سَأُرْشِدُكَ إِلَى أَرْضِ ذَلِكَ الظَّالِمِ). وَبَعْدَ سَيْرٍ قَلِيلٍ وَصَلا إِلَى الأَرْضِ. حِينَئِذٍ صَاحَ بَدِيعُ الزَّمَانِ مُخَاطِباً صَاحِبَ الأَرْضِ: (هَيَّا اتْرُكْ هَذِهِ الأَرْضَ فَوْراً). قَالَ صَاحِبُ الأَرْضِ: (مَا هَذَا الْكَلامُ؟ الأَرْضُ أَرْضِي، وَأَنَا لا أَمْلِكُ سِوَاهَا، وَأَحْيَا مِنْ خَيْرَاتِهَا، وَإِذَا تَرَكْتُهَا فَمِنْ أَيْنَ أَحْصُلُ عَلَى خُبْزِي؟). قَالَ بَدِيعُ الزَّمَانِ: (لا دَاعِيَ لِلْكَلامِ، هَيَّا اتْرُكِ الأَرْضَ فَوْراً). رَفَضَ صَاحِبُ الأَرْضِ تَرْكَ أَرْضِهِ، فَهَجَمَ عَلَيْهِ بَدِيعُ الزَّمَانِ وَضَرَبَهُ بِقَسْوَةٍ وَهُوَ يَصِيحُ: (الْوَيْلُ لَكَ أَيُّهَا الظَّالِمُ). نَجَحَ بَدِيعُ الزَّمَانِ فِي طَرْدِ صَاحِبِ الأَرْضِ مِنْ أَرْضِهِ، فَهُرِعَ صَاحِبُ الأَرْضِ إِلَى الْقَاضِي شَاكِياً، فَأَمَرَ الْقَاضِي رِجَالَ الشُّرْطَةِ بِإِحْضَارِ عَبَّاسٍ وَبَدِيعِ الزَّمَانِ، فَنَفَّذُوا أَمْرَهُ بِسُرْعَةٍ. وَمَثَلَ بَدِيعُ الزَّمَانِ وَعَبَّاسٌ أَمَامَ الْقَاضِي. وَمَا أَنْ رَوَى بَدِيعُ الزَّمَانِ مَا فَعَلَ حَتَّى انْفَجَرَ الْقَاضِي ضَاحِكاً مُتَنَاسِياً وَقَارَهُ. وَظَفِرَ بَدِيعُ الزَّمَانِ بِمَا يَشْتَهِي؛ فَقَدْ أَصْبَحَ مَعْرُوفاً فِي بَغْدَادَ بِأَنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنْصُرَ الْمَظْلُومِينَ فَنَصَرَ الظَّالِمِينَ.
|