الحمدلله حمد الذاكرين الأوفياء، والشكر لله شكر الحامدين الكرماء، وبعد: فإن الله الحكيم العليم الحي العظيم، قدّر الفناء على هذه الدار، وجعل في الموت عبرة وعظة لأولي الأبصار، كما قال سبحانه {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، فالمصير محتوم، والأجل مرقوم، ومن عجائب الموت وغريب المنايا - وفي المنايا عبرٌ وأي عبر!! - إنه لا يقبل الوسائط والشفاعات أو يتعامل بالرشوة والمحسوبيات. وصدق الله إذ يقول: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}. والسعيد من اعتبر وادكر واستيقن أنه مرتحل في أي لحظة، وهو لا يدري متى الرحيل، وفي أي أرض يكون الوداع أو المقيل {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}ومن كانت منيته بأرض قوم فليس يموت في أرض سواها!! فيا سعادة من تاب وأناب، وأبقى له بعد رحيله لسان صدق في الآخرين، ومحبة ومودة في قلوب المؤمنين. وبالأمس القريب حُمّى القضاء في فقيدنا في الحوطة والدمام، سعد بن صالح المنقور- رحمه الله- وسائر موتى المسلمين. توفاه الله الكريم المنان في يوم شريف كريم وهو يوم الجمعة 17 - 5 - 1426هـ وهذا بإذن الله وتوفيقه، من علامات حسن الختام، فنسأل الله له ولنا ولجميع المسلمين الرحمة والمغفرة.
أهكذا الخلّ تخفي ضوءه الحفر
ويفقد السّعد لا عين ولا أثر
طوتك يا سعد أياماً طوت أمماً
كانوا فباتوا وفي الماضين معتب
رحمك الله أبا عبدالعزيز، فقد كان من جيل المصابرة والمثابرة، عاش دهور المساغب والمتاعب حتى فتح الله عليه من فضله دار مقامه (الدمام)، وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني.... الخ، ومع ذلك لم يتردد بفضل الله عليه إلا ذكراً وشكراً. وكم كنت أسمعه - بحكم القرابة والصلة - يذكر أيامه الخوالي وما فيها من المتاعب والحرمان وما يوجبه ذلك من الشكر والعرفان لمن أنعم وأكرم. ولقد أعجبني من أمره - رحمه الله - طوال عمره الأخيرة التي تقارب ربع قرن، صفة عجيبة وغريبة يعزّ وجودها إلا في من وفقه الله، ألا وهي صفة (الوفاء). والوفاء من شيم الكرماء وأخلاق النبلاء (الأسوياء) الذين يجمعون في حياتهم بين الماضي والحاضر في آن، وينبذون الجحود والنكران، ومن لا ماضي له لا حاضر له، ومن لا يذكر لا يشكر. ومن الشواهد والدلائل التي تدل على اتصافه بهذه الصفة الحميدة (الوفاء) والتي قد تخفى على بعض ذوي قرابته ومحبيه: إنه بعد أن أفاء الله عليه وعلى أهل بيته، بسط يده بالصلة والمواساة لذوي قرابته ولاسيما المقيمين في مسقط رأسه (حوطة سدير) فكان يصلهم ويهديهم في كل سنة بما تيسر من المؤن الرئيسية إذ ذاك ولاسيما مع قلة ذات اليد في تلك السنوات الماضية.
وإذا ذكرت ذلك تذكرت قول الأول:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا.....الخ
وإنها لدعوة لكل من وسّع الله عليه في هذا الزمان أن يسلك هذا المسلك الحميد فينفق مما آتاه الله، ومن ذلك ما كان على وجه الصلة والمرحمة لأهله وذوي قرابته، لأنها تكون (صدقة وصلة) كما في الحديث. فقد كان الفقيد - رحمه الله - في سلوكه هذا كما قال الأول:
إنا لنرجو أن تكون لنا سعداً
ومغناك للأنذال سَعْدَانا
فرحم الله سعد المروءة والندى. وفاؤه منقطع النظير، وعرفان بالجميل كبير، تجسد ذلك في زيارته إذا قدم من المنطقة الشرقية لخلانه وإخوانه، فكثيراً ما كنت أسمعه إذا زار الوالد - ابن خاله - عبدالعزيز بن حمد الوهيِّب - انه سيزور فلاناً في البلد الفلاني. وأما علاقته بخاله - والدي - فلم ينقض عجبي فيها حتى وإن كان - ابن خاله - إلا أن عاطفة المودة والاحترام تتجاوز المألوف إلى درجة أن أبا عبدالعزيز إذا لقي الوالد عند قدومه إلى الحوطة يجهش بالبكاء، وكم كنت أرى دموعه تسابق كلماته فأدركت عندها عمق المودة وأصالة الوفاء والمعدن. وحدثني الوالد مراراً على أنهم إذا زاروه في منزله بالدمام، لازمهم ملازمة الخلّ لخليله والمرافق لعليله ويبيت معهم في نفس مبيتهم، وكان يخدمهم بنفسه مع وجود مع يعينه على ذلك من الأهل والأعوان. وأما كرمه لأخواله إذا وفدوا عليه شيء عجيب، ولا يستغرب الشيء من معدنه. فرحم الله سعد الصالح المنقور - سعد الشهامة والوفاء، وجعل في ذريته خير خلف لخير سلف - وعظم الله أجرنا وأجرهم في الفقيد، وآجرهم في مصيبتهم وأخلفهم خيراً. وعزائي ومواساتي لأبنائه الكرام ولخليفته في أهل بيته وعميد أبنائه الشهم الكريم أبو بندر عبدالعزيز بن سعد الصالح المنقور، ولإخوانه كافة، ولأخي الفقيد، حمد الصالح، والله يتولى الصالحين. والحمدلله رب العالمين.