* مكة المكرمة - عمار الجبيري: أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد المسلمين بتقوى الله عز وجل؛ فالدنيا غير مأمونة، ومَن عزم على السفر والرحيل تزوَّد بالمؤنة، ومَن صحت نيَّته وأخذ بالأسباب جاءته من ربه المعونة، ومَن علم شرف المطلوب جدَّ وعزم، والاجتهاد على قدر الهمم، والنفس إذا أُطمعت طمعت، وإذا أُقنعت باليسير قنعت، وإذا فُطمت انفطمت، اهتمَّ بالخلاص أهل التقى والإخلاص، وفرَّط المفرطون فندموا، مَن عمل صالحاً فلنفسه، ومَن أساء فعليها، وما ربُّك بظلام للعبيد. وقال فضيلته في خطبة الجمعة يوم أمس بالمسجد الحرام: (قوة الأمة وتقدُّمها وحسن تديُّنها مقيس بقوة إيمانها، وجودة عملها، ودقة تنظيمها، ومقدار إنتاجها، وحسن تدبيرها، قال تعالى: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. ومع هبوب رياح الصيف وحلول موسم الإجازات في كثير من البقاع والديار، وارتباط الإجازة عند بعض الناس بالتعطيل والبطالة وإضاعة الوقت وقتله، يحسن الوقوف وقفة نظر وتأمل في العمل والإنتاج وساعات العمل وحفظ الوقت وضبط ساعات العمر وأوقات الراحة). إن قدرة المجتمعات على الإنتاج والعطاء وضبط ساعات العمل وكسب المعاش وأوقات الراحة من أدلِّ الدلائل على القوة، بل حسن الإيمان والعمل الصالح وإدراك معنى الإصلاح. تأمَّلوا - رحمكم الله - هذه الآية من كتاب الله فيما امتن الله على عباده مَن تهيئة أسباب المعاش من أجل حسن المعيشة، يقول عز شأنه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}، ويقول عزَّ من قائل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، وقال جل وعلا: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ثم تأملوا التنبيه على أوقات العمل وساعاته والراحة مواعيدها، يقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً}، ويقول جلَّ في علاه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}، ويقول جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}، ويقول في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}. وقال إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد: هذه هي آيات الله، وتلك هي سُننه في الليل والنهار وفي البشر، ولكن المُتابع لمسالك بعض الناس، وخصوصاً في منطقتنا ومحيطنا وفي كثير من أفراد مجتمعنا، ليدهش ويأسى مما يلفت نظره من الغفلة عن هذه السُّنة الإلهية والآيات الربانية حين ينقلب عندهم الحال، فيجعلون نهارهم سباتاً، وليلهم معاشاً، بل لهواً وعبثاً. إنه انتكاسة وانقلاب وفوضى واضطراب، وآثاره على الحياة والأحياء خطيرة في الإنتاج والصلاح والإصلاح صحية وبيئية وأمنية واقتصادية واجتماعية وغيرها. إن مما يأسى له الناظر أن ترى أُسَراً بأكملها أو مُدناً بكل أهلها صغارها وكبارها رجالها ونسائها قد قلبوا حياتهم وانقلبوا في معاشهم، فيسهرون ليلهم ثم يصبحون في نهارهم غير قادرين على العمل والعطاء، سواء أكانوا طلاباً أو موظفين في الأعمال العامة أو الخاصة، فهم ضعفاء في الإنتاج وضعفاء في المشاركة، مقصِّرين في الأداء، مفرِّطين في المسؤولية، لا ترى إلا ذبول الحاجبين، واحمرار العينين، قد أخذ منهم النعاس والكسل كل مأخذ؛ ضعف في الجسم، ووهن في القوة، وقلة في التركيز والأداء. إن ظاهرة عكس السُّنن وتحويل وظائف النهار إلى الليل دليل على التسيُّب والفوضى والضياع، بل قد تكون دلالة من دلالات الترهُّل المهلك والاتكالية المدمرة، وكأنه لا هم لهم إلا تلبية أهوائهم ومشتهياتهم، منصرفين أو متعالين عن حقيقة وجودهم وطبيعة رسالتهم وعظيم مسؤوليتهم والجد في مسالكهم. ويكفي المخلص الصادق الناصح لأمته ومجتمعه أن يجيل نظره في مجموعة من هذا الشباب التائه الضائع الذي يعيش على هامش الحياة، بل على هامش الزمن، في الليل مستيقظ بلا عمل والأمم الحية العاملة نائمة، ويكون نائماً والأمم الحية العاملة مستيقظة عاملة كادَّة جادَّة. ومع الأسف فإن الناظر المتأمل لا يكاد يجد ناصحاً أو منكراً لهذه المسالك التي لا تُحمد عقباها، بل إن عاقبتها قصر في الأبدان والأموال والثمرات؛ مما يستدعي قراراً حازماً يردُّ الناس إلى الصواب؛ ليكون الليل سكناً وسباتاً، ويكون النهار عملاً ومعاشاً. ثم ماذا إذا صار الليل عملاً وحركة لا نوماً ولا سباتاً ولا سكناً؟ سوف يزداد الصرف والاستهلاك في كل المرافق في مائها وإضاءتها وطرقها وصيانة ذلك كله ونظافته، بل إن الأجهزة سوف تعمل فوق طاقتها ليلاً ونهاراً؛ مما يتولد عنه الضعف والتسيُّب والعجز والضجر، ومن ثَمَّ المشكلات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وقال فضيلة الشيخ ابن حميد: (إن أول مدارك الإصلاح، والأمة تبتغي الإصلاح والانتظام في صفوف الأمم القوية العاملة الجادة، إن أول ذلك القدرة على ضبط أنفسنا وأبنائنا والتحكم الدقيق في ساعات عملنا. إن هذه الانتكاسة التي شملت الموظف والمسؤول والطالب والمعلِّم والرجل والمرأة تحتاج إلى وقفة صادقة جادة وقرار حازم يعيد الناس إلى الجادة، بل يعيدهم ليكونوا أسوياء يعملون كما يعمل الناس في كل بلاد الدنيا، ولا مسوغ البتة للاحتجاج بالظروف الاجتماعية أو المناخية؛ لأن سُنن الله في الليل والنهار عامة تنتظم البشر كلهم في مجتمعاتهم ومناخاتهم وقاراتهم، وربُّنا جعل الليل سكناً وجعل النهار معاشاً، ومحا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة لابتغاء فضله سبحانه، وذلك لأهل الأرض كلهم، بل جاء الخطاب في قوله سبحانه بعد أداء صلاة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}، وهذا لا يكون إلا بعد الظهر وفي شدة حرارة الشمس في الصيف، وهو خطاب تنزَّل أول ما تنزَّل على العرب في جزيرتهم. إن من أهم آليات الإصلاح الذي ينادي به المصلحون المخلصون النظر الجاد في هذه القضية وإعادة ترتيب ساعات العمل وحمل الناس على ذلك وأطرهم عليه أطرا حتى يتحول المجتمع إلى مجتمع منضبط عامل منتج يحسن توظيف قدراته ومواهبه ومؤهلاته وكفاءاته في كل طبقاته رجالا ونساء وشبابا وكهولا، يجب أن يكون المجتمع نهاريا لا ليليا فلا عمل في الليل إلا في حدود ضيقة في بعض الأعمال الخاصة كالحراسة والمناوبة وأشبهها. وأكد أنه أول ما يجب التطلع إليه أن تكون الأمة أمة بكور في بكور، في الصباح تغدو مخلوقات الله وأمم الأرض كلها تبتغي فضل الله (إن يومكم الإسلامي أيها المسلمون أيها الشباب يبدأ من طلوع الفجر وينتهي بعد صلاة العشاء، قال بعض السلف: عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق، وأصدق من ذلك وبالغ قول نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (اللهم بارك لأمتي في بكورها) ولفظ أبو هريرة (بورك لأمتي في بكورها). وقال فضيلته: يومكم الإسلامي يا أهل الإسلام مرتبط ومفتتح بصلاة الصبح وفيه قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا، يستقبل بها المسلم يومه ويستفتح بها نهاره وعمله، دعاه داعي الفلاح؛ فالصلاة خير من النوم، استشعر عبودية ربه والإيمان والعمل الصالح يرجو البركة ونشاط العمل وطيب النفس نعم طيب النفس ونشاط البدن مصداقا للحديث المتفق عليه إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، ويضرب على مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان). من صلى الصبح فهو في ذمة الله، ولقد ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقيل ما زال نائما حتى أصبح ما قام للصلاة فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه). أهل البكور قوم موفقون وجوههم مسفرة ونواصيهم مشرقة وأوقاتهم مباركة أهل جد وسعي وعمل يأخذون بالأسباب مفوضين أمرهم إلى ربهم متوكلين عليه فهم أكثر عملا وأعظم رضا وأشد قناعة وأصدق إيمانا، والبركات قيوض من الله وفتوح (بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) لا تقع تحت حصر لا في عمل عدد ولا في صورة ولا في زمان ولا في مكان ولا في أشخاص.. بركات من السماء والأرض.. بركات بكل أنواعها وألوانها وصورها مما يعهد الناس ولا يعهدونه، فاستقيموا ولن تحصوا والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم. قال فضيلته: فحين يترك الناس البكور ويهملون الساعات المباركة تصبح أوقاتهم ضيقة وصدورهم حرجة وأعمالهم مضطربة.. وبعد فهذا هو ديننا ونهجنا وهذه هي إرشادات ربنا وإرشادات نبينا فلماذا يسبقنا الآخرون؟ وقال فضيلته: البكور استقامة في المخلوقات والأشياء والتبكير دليل قوة العزم وشدة التشمير ومن أراد علما أو عملا فليبادر بالبكور فذلكم علامة اليقظة والنباهة والجد والحزم والبعد عن الغفلة والإهمال والفوضى.. في البكور صفاء الذهن وجودة القريحة وحضور القلب ونقاء النفس ونور الفكر، فيه استجماع القوى واستحضار الملكة وانبعاث الفتوة.. في البكور الهواء أنقى والعبد اتقى والنفس أطيب والروح أزكى، نسائم الصباح لها تأثيرها على النفس والقلب والبدن والأعصاب، والجسم يكون في أفضل حالاته وأكمل قواه. ومن غريب ما قالوا: إن أصحاب الأعمار الطويلة هم من القوم الذين يستيقظون مبكرين، بل قالوا إن الولادات الطبيعية في النساء تقع في ساعات النهار الأولى، بل إن بعض الباحثين يرجع الاكتئاب والأمراض النفسية إلى ترك البكور ونوم الضحى. فتأملوا رحمكم الله حين يجتمع للعبد العامل البكور والبركة، بركة المال والعمل والوقت فينتفع بما له ويفسح له في وقته ويقبل على عمله فينجز في الدقائق والساعات ما لا ينجزه غيره ممن لم يبارك له في أيامه ولياليه، يبارك له فيكون الانشراح والإقبال والرضا والإنجاز. فالزموا سنن الله وخذوا بالجد من أعمالكم والحزم من أموركم يكتب لكم الفلاح في الدنيا والآخرة.
|