هل يحق لي - ولكم - إطلاق مصطلح (مسرح) على أعمال درامية عديدة قامت، بتأريخ حقيقة لعدة فترات من التاريخ الوطني والقومي والحربي المصري، تأريخاً جاداً وأصيلاً، حتى وان لم تنتشر سيرة هذا التأريخ كما كان يجب ان يكون الانتشار واسعاً عريضاً مؤثراً؟ بمعني ان تخرج هذه الأعمال المسرحية الابتكارية لتأخذ نصيبها المشروع على خشبات المسارح المصرية والعربية في زمن كتابتها أو خروجها في صورة الكتاب المطبوع. وفي رأيي المتواضع، ومع ذلك فهو رأي متخصص، ان درامات الفنان السيد حافظ ترتفع حقا -وبلا نفاق أو مجاملة- إلى مصطلح المسرحية، ذات الطابع الخاص في كل منها. وبحكم إثبات الزمن ووثائقية الحدث وتسجيليات الواقع المعاصر لمكان وزمان خرجت من لحمته تقرر شهادة الميلاد وشهادة العصر بكل حذافيره، وآلامه، ولطماته، بل وأفكاره وآماله في المستقبل. وإذا كنت أسجل هنا العبقرية المنظمة عند هذا الرجل القدير الصديق السيد حافظ وأنظر بعين الاعتبار والتقدير لدراماته (حدث كما حدث ولم يحدث أي حدث - كبرياء التفاهة في بلاد اللامعني - والله زمان يا مصر - الطبول الخرساء في الأودية الزرقاء - حبيبتي أنا مسافر - القطار أنت والرحلة الانسان....... وغيرها)، فإنني أتوصل إلى تحليل نوعي دقيق specific أراه في هذه المعالجات الرفيعة والصفات الممتازة التي يتخطها وينتهجها السيد حافظ في كل مسرحية على حدة.بمعنى انه يضع الفكر الدرامي عنده في كل دراما داخل الإطار الدرامي الذي يتناسب مع عنصرين هامين ضروريين هما الشكل + الزمن. هذه الكيميائية الجديدة بين زمن إحداث الدراما، والمتفاعلة مع الشكل من النادر ان نعثر عليها في صورة مجتمعة تركيبية تأليفية synthetic إلا في المسرحيات الأوروبية والأمريكية التي ظهرت في السبعينات القرن الماضي العشرين، وهي نظرية (الجميعة) synthesis التي أوجدها هيجل في الديالكتيك الهيجلي نتيجة الجمع بين الطريحة والنقيضة. أي بين Antithesis , Thesis هذا النوع الجمعي اثر عليه -فلسفيا- في فكر الدراما كأساس نظري يبنى عليه دراماته ومسرحياته. الزمان يتناقض مع الأشكال، بل ومع الإحداث. لعل من أهم نقاط تحقيق الفكر الهيجلي هو دراية المؤلف بقضايا الإخراج المسرحي وعلومه. وهو ما سهل له الوصول إلى بوابة التعقيد وفى يده اليمنى مفاتيح الحلول والمسارات.. أي انه بفكره الثاقب استطاع وضع اليد على إبراز التناقضات وتكثيفها ثم عرضها بعد ان خرج السيد حافظ من الثوب الدرامي إلى رداء المخرج المعاصر والثوري أيضا. إلا ان خلفية شخصيته الثورية والوطنية القومية تلعب هي الأخرى دورا مهما في عملية التأسيس للعرض المسرحي. خاصة وأنه ينقل من مكنونات الصدر وبقايا الكامن في اللاشعور من مظاهر الوطنية. ومظاهرات طلاب جامعة الإسكندرية - وهو واحد منهم ان لم يكن أكثرهم تحريضا وثورية وغضبا واشمئزاز لما مرت به مصرنا الأم من آلام وسقطات- دفعت به إلى عدد غير قليل من المضامين الدرامية لأعماله المسرحية. ولست اعجب حين يكتب عنه زميلي الراحل الدكتور محمد مبارك الصوري الأستاذ الجامعي للنقد المسرحي بدولة الكويت، انه يحمل طموحات وطنية وقومية حاولت ان تجد لنفسها مكانا لها ولكنها اصطدمت بأرض الواقع أو انه يملك النزعة التجريبية في أعمال السيد حافظ. فإنني لا اتفق مع الصوري في جزئية الاصطدام بأمر الواقع.. فضعف انتشار درامات السيد حافظ في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي الذي كتبت فيه يعود إلى سببين رئيسين : هما جهالة القائمين على تقرير الريبرتوار المسرحي المصري في المسارات الحكومية، كما يعود إلى هذا الإغراق التافه الذي سيطر على المسارح الخاصة وفرقها. (يذكر زميلي الفنان جلال الشرقاوي ان مصر حينها كان بها 28 فرقة مسرحية أهلية وخاصة كما كتب الزميل الناقد الكبير الراحل فؤاد دواره عدة كتب سنوية بعنوان - تخريب المسرح المصري). لقد كان من سوء الحظ مولد مسرح السيد حافظ وسط هذه السنوات التي أرخت للخلل المسرحي في التاريخ المسرحي الحديث. واسمحوا لي هنا ألا أعفي المسئولين على مسرح الدولة من مسئولياتهم وتقاعسهم لعدم انتباههم إلى مسرح وطني وقومي كان يزعق بالصوت مجلجلا ومغمغما، لحماية مصر من أعدائها الخارجيين وفي الداخل. فإذا اطلع أحد على مصطلح تكوين (المسارح القومية الأوروبية في القرن 19 ميلادي سواء في أوروبا الغربية وحتى أوروبا الخارجية، والتي كان يقصد بها دول وسط وشرق أوروبا) لأدرك حقيقة مهمة المسرح القومي المصري والذي كان عليه ان يعرض كل عام على الأقل دراسة أو عرض لوطنيات السيد حافظ. التجديد غير مألوف
ليس جديدا ما أطرحه هنا من ان الجديد غير المألوف مستغرب ومستوحش في تاريخ المسرح العام. ألم تكن مسرحيات يوجين يونيكو وصمويل بيكيت وفرناندو اربال غريبة على جماهير المسرح الأوروبي صاحبة الباع الطويل في المشاهدة المسرحية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وهي جماهير قد تربت على الوعي المسرحي، وامتلكت النقد السليم بحكم الممارسة الفعلية للمشاهدة، فما بالك إذن بجماهير لا تعرف المسرح أو هي عرفته من عهد قريب ؟ من هنا فان ثقافة الجماهير المصرية والعربية لا اقصد طبقة المثقفين أو طبقة Elite بل اعني كل جماهير مصر، والتي اعتادت على التقليديات وفكاهات الريحاني وعبثيات مسرح إسماعيل يس، وتفاهات المسرح الخاص (حمري جمري - لوز وجوز)، هل كان يمكن تخيل أو استيعاب هذه الجماهير لأعماق فكرية أو طروحات قومية عند درامات السيد حافظ ؟ لا اعتقد ذلك. وهذه إشكالية أخرى. أقيم واحترم كتابات نظيفة ومنصفة سبقتني إلى تقييم أعمال الفنان السيد حافظ، زميلي الراحل د. علي شلش يشيد بجرأة المؤلف الشاب وتحطيمه لقواعد المسرح من أرسطو إلى بريخت، وفتحي العشري ناقد جريدة الأهرام يقدم فكرة السيد حافظ على الفن، وما هو القاعدة السليمة والأساس اللازم فيما نسميه نحن المسرحيون (المضمون الدرامي) DRAMATIC CONTENT وغيرهما كثيرون. في هذه الأمسية الطيبة وهذه الدراسة المختصرة اخترت من مؤلفاته الدرامية مسرحية لم تلق عليها الأضواء كثيرا بالتحليل والتفسير والنقد.. واقصد بها مسرحيته المعنونة (أميرة السينما هووووووش اسكت) بعبارة نكتشف عن فكر الكاتب في اختصار استعير منها (لم نعشق الأحزان والغموض والهبوط لم نعشق الطلاسم والتزييف)، هذه عبارات السيد حافظ. الدراما من جزأين بعنوانين هما: لقطة عامة ولقطة خاصة. تقسيم خشبة المسرح في اللقطة العامة الأولى يكشف لك ولأول وهلة منذ البداية عن خشبة المسرح في القرون الوسطى - الثلاثية، لكن في صورة عصرية (معصرة). هنا تبرز الثقافية المسرحية ومعارف تاريخ السيد حافظ. ادخل التعصير على شكل معنى ليتناسب مع شكل معاصر. إضافة إلى أفكار سياسية تاريخية.. أمريكا والزنوج وأزمة الانسان المعاصر (في صفحة 202 من المسرحية) تذكر شخصية الذي يحاول وفى ظني ان الشخصية هي السيد حافظ نفسه الذي يحاول التغيير، تغيير سحنة المسرح المصري والعربي، تقول الشخصية العبارة التالية: 1- إذا تقدم الانسان بفكره وسابق الزمن سقط ضحية التخلف، وإذا تأخر صار متخلفا، وإذا سار بجوار الزمن جنبا إلى جنب قتلته اللامبالاة والملل، (ألا يبدو ان المتحدث هو السيد حافظ نفسه؟ 2- يستعمل السيد حافظ في الجزء الأول اللغة على مستويين، الفصحى في مشاهد ثم يجرؤ وينتقل إلى العامية في مشاهد أخرى وما هو -حسب رأيي - تجديد أو صورة لغوية مسرحية لم يستعملها قبله مؤلف آخر وإلا فليدلني واحد منكم وانتم متخصصون مسرحيون ودراميون مثلى على درامة اتبعت هذا المنهج الفني قبلا. إنها فلسفة الفكر الدرامي التي يرى فيها السيد حافظ ان نوعية اللغة لابد وان تحس التعبير الدقيق عن وقائع الإحداث سواء كانت الفصحى في مشهد أو العامية في مشهد آخر. ثم لعلني أحس بموقف العداء لدولة الدولار ولحالة إنتاجها السينمائي في الماضي والفضائي الآني. في عام 2001 زرت الولايات المتحدة الأمريكية ومن بين 38 مسرحا في نيويورك لم اعثر في ريبتوارتها إلا على أربعة درامات من النماذج المسرحية الجادة أوروبية أو أمريكية بعد ان غطت عروض الاستعراض والقودفيل والرقص اغلب البرامج في المسارح. ان ما يشير إليه السيد حافظ في مسرحيته عام 1974 زمن كتابة المسرحية لا يزال ممتدا حتى اليوم. فيا له من متنبئ ! ان كلمات مثل نهر المسيسيبي والهنود الحمر والمجد للصحافة والإعلان والرصاص. السهام لتومئ لنا بمكان وإحداث درامته حتى ولو كانت عن طريق الاستعارة أو المجاز أو الرمز allegory 3- نهاية أقول ان مسرح الزميل الأستاذ السيد حافظ نابع من التربة المصرية حين عرى مستهجنا ما يحدث في صناعة السينما المصرية حتى وان البسها ملابس الكاوبوي فهو في ظني مسرح اشتعالي مصدر للثورة ضد الدكتاتورية المعتدية على الانسان والإنسانية، الخامدين لمشاعر القومية والوطنية المصرية ومن هنا فهو لا ينتمي كما لا يتشابه مع مسارح أوروبا القومية أو ثورية أخرى لان مسارات ودرامات مثل انتونيين ارتو أو مايرهولد آو المسرح العاري وليس الفقير BARE THEATRE فهذه ترجمة حرفية وليست فكرية دقيقة فلكل مسرح من هذه المسارح الأوروبية والروسية أسباب لظهورها ولا يمكن التعميم في أسباب التجارب. ومن هنا ومع احترامي للزميل الدكتور سعد اردش فإنني اختلف معه في ان مسرح السيد حافظ يتشابه أو هو يعود في ظهوره إلى المسرح السابق الإشارة إليه.
|