لا تقولوا: بكيتَ أقسى بكاءٍ
فبكاءُ المحبِّ رَمْزُ الوفاءِ
كيف لا يذرفُ الدموعَ محبٌّ
ذاق مرَّ الفراقِ بعد اللقاءِ؟
هي أمِّي، في فَقْدِها فَقْدُ عُمْرٍ
وحياةٍ من الرِّضا والصَّفاءِ
هي كنز الدُّعاءِ، يا لَهْفَ نفسي
وأساها لفقد كَنْز الدُّعاءِ
هي نَبْعُ الحنانِ والعطف، مَنْ لي
بعد أمي برشْفَةٍ وارتواءِ؟!
هي بَرْدُ الحنانِ في قيظَ حزني
وهي دِفْءُ الحنانِ وقتَ الشتاءِ
كم سخاءٍ في الناس يصغر لمَّا
ترسم الأُمُّ لوحةً للسَّخاءِ
لا تلوموا توجُّعي وأنيني
فلقد أشعل اللَّهيبَ عنائي
لا تلوموا بكاء عيني، فهذا
عُشْرُ ما لا ترونه من بكائي
صرت كالطفل حين فارقتُ أُمِّي
تائهاً مِثْلَ ريشةٍ في الفضاءِ
كلَّما هبَّت الرِّياح، رَمَتْها
في مَهاوي توجُّسٍ وانطواءِ
رجل شامخ العزيمةِ، لكنْ
أين مني عزيمةُ الأقوياءِ؟!
صرتُ من بعدها كسالك بِيْدٍ
مُوْغِراً في الظهيرةِ الحمراء
يستثير السَّرابُ فيه حنيناً
جارفاً نحوَ قَطْرةٍ من ماءِ
ويُريه الغُبار ليلاً بهيماً
في نهارٍ معفَّر الأجواءِ
تركتْني كواقفٍ فوقَ تَلٍّ
جَفْنُه يشتكي من الأقذاءِ
جهَّزتْ لي أمِّي سقائي، ولكنْ
حين غابت عني فقدْتُ سقائي
يا أبا صالحٍ، أخي وشقيقي
يا رفيقي في شدَّتي ورخائي
يا شقيقاتِنَا، ويا كُلَّ قَلْبٍ
من قلوب الأحفادِ والأبناءِ
يا أخا أُمِّنا ويا أَخَواتٍ
بالتَّفاني رفَعْنَ معنى الإِخاءِ
يا سَديمٌ ويا شذا وحنينٌ
يا أعزَّ الأحبَّةِ الأوفياءِ
يا زيادٌ ويا يَزيدُ ويا سعديَّةَ الخير،
يا بلاسم دائي
يا نسيماً يَهُبُّ مِنْ رَهَفِ الحبِّ
عليلاً، يَفيضُ بالأشذاءِ
يا أسيلُ التي تحرِّك شَجْوي
حين تدعو (بابا) وتجري ورائي
كنتِ يا طفلتي أنيسةَ أمي
أمِّ روحي وفرحتي وهنائي
كان في حَبْوِكِ الجميلِ رضاها
حينما تعبثينَ بالأشياءِ
ليتها بصرتْكِ تمشين مشياً
مِثْلَ مَشْي الحمامة الورقاءِ
ليتها يا أسيلُ لو أنَّ لَيْتاً
أرجعتْ ميِّتاً إلى الأحياءِ
يا صدوراً تجيش بالحزن تشكو
ما شكونا من حرِّ نارِ التَّنائي
سافر الليلُ بي بطيئاً ثقيلاً
باهتَ البدر خَافِتَ الجوزاءِ
يتمطَّى بصُلْبه ويريني
كيف تبدو حقيقةُ الثُّقَلاءِ
وَجْهُ ظلمائه تجهَّم حتى
خاف قلبي تجهُّمَ الظلماءِ
سافر الليل بي، فلمَّا طواني
في ظلام الدُّجى وأَشْجى مسائي
وبنى لي من الغياهبِ سجناً
زاد من وحشتي وطول شقائي
حينما أسرف الظلامُ، تجلَّى
من يقيني باللهِ أسمى ضياءِ
شمعةٌ بدَّدتْ ظلام الدَّياجي
وبإشراقها دفعتُ بلائي
يا جبالَ الأسى تطامَنْتِ لمّا
صار قلبي في القمَّةِ الشمَّاءِ
إنْ تكنْ غابتِ الحبيبةُ عنَّا
في حياةٍ معجونةٍ بالفَناءِ
فلنا من رجائنا في التَّلاقي
عند ربِّ العبادِ خَيْرُ عزاءِ