Thursday 26th May,200511928العددالخميس 18 ,ربيع الثاني 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "سماء النجوم"

وحشةوحشة
على أحمد

ندما وقفت سيارته أمام مركز بريد المحافظة اجتاحته رعشة طويلة تخيل مع هزتها أن جلده قد تحول إلى اللون الأزرق.
قبل عام أو عامين لم يعد يدري بالتحديد متى كان ذلك اليوم الذي سجل فيه اشتراكا لدى مدير البريد يستأجر بقيمته أحد الصناديق الحديدية التي يسمع أنها تحمل إلى الناس ما يدخل البهجة على نفوسهم.. ويمدهم بفيض من إحساس التواصل مع العالم من حولهم.. رسائل أو هدايا، معايدات وتهان أو ربما بطاقات مواساة في اللحظات الداكنة.
حدث نفسه ساعتها وهو يتأبط ورقة الاشتراك مبهورة بتوقيع مدير البريد أنه سوف يصل العالم من أطرافه.. سيستعيد ذكريات قديمة مع أصدقاء قدامى زملاء الدراسة.. أولئك الذين التقى بهم في مناسبات عارضة.. أحس أنه برقمه البريدي هذا سيصبح رقما مميزاً في مدارات الحياة.
بعد أسبوع واحد فقط من تسجيل اشتراكه عاد يتأبط عدداً وافراً من الرسائل إلى عناوين متفرقة في المدن والدول دفع لإرسالها مبلغاً غير قليل، كان عنده هيناً لقاء ما يؤمل من وراء تلك الرسائل.
مرت الأيام والشهور وهو ينتظر ردوداً على رسائله التي بعثها، أدركه الحزن وكمية غير قليلة من اليأس.. خفف من حدة حزنه احتمال تعثر الرسائل أو عدم سلامة العناوين أو غير ذلك.. رغم أنه كان متأكداً تماماً من صحة العناوين ومن إجراءات البريد ومن كل شيء.. كل شيء.. شيء واحد هو الذي لم يكن متأكداً منه!.
قرر تكرار المحاولة ولكنها كانت محاولة مختصرة هذه المرة فقد اقتصر على بعض الأصدقاء الذين يعدهم قريبين إلى نفسه ووجدانه وقريبين أيضاً من الرد عليه.
ثمة شيء زاد حماسته لإعادة المحاولة هو ذلك العنوان الذي نشره كاتبه الصحفي المفضل أسفل مقالته بالأمس، أنه يعشق كتاباته ويحرص على متابعته ويحتفظ بقصاصات كثيرة مما ينشر له في الصحف والمجلات، أنه دائماً يأتي بوجهة نظر جديدة في الأدب أو السياسة أو الأسهم أو الرياضة!!.
لذلك سيبدأ بالكتابة إليه وتسطير عبارات الأعجاب وبالطبع فلن ينسى أن يشير إلى إعجابه بالصورة التي تعتلي زاويته اليومية.. بعقاله المائل.. بنظرته الساهمة إلى اللا شيء.
بعد تلك المجموعة الثانية التي بعث بها أخذ يستغل جميع المناسبات والأعياد ليراسل أصدقاءه ويزجي إليهم تهانيه وأمنياته الطيبة بكل ما هو جميل ومبهج وما نسي أبداً أن يذيل خطاباته بعنوانه البريدي المفضل.
مرت تلك التفاصيل كلها بخياله وهو وأقف أمام غرفة كتب أعلاها صندوق المشتركين.. لقد اعتاد على مرأى هذه اللوحة، على منظر الباب المدهون باللون الأصفر الباهت تذكر لون الباب الذي كان براقاً عندما دخل الغرفة لأول مرة.
لم يعد يعير اهتمامه للباب أو اللوحة بل لم يعد ينظر حتى إلى رقم صندوقه، لقد حفظ موقعه تحديداً بين الصناديق.. لم يكن يتخلف عن زيارة هذه الغرفة يوماً من الأيام.. حتى في أثناء مرضه.. لأنه يبعث أحد أقاربه ليتأكد أن كان صندوقه قد خرج عن سكونه المميت.. وفي كل تلك الأحوال لم يكن ليجد في أحشاء صندوقه سوى الفراغ وذرات الغبار.. شعور غريب ذلك الذي تلبسه حين دخوله الغرفة. ربما لأنه قد انقطع عن المرور على الصندوق فترة من الزمن طويلة.. فقد قرر أن يتوقف عن المرور اليومي على البريد لأنه من غير المحتمل أن تهطل الرسائل بين يوم وليلة.. ثم أنه قد تعب من تلقي صفعات الصندوق اليومية، ألهذا الانقطاع تراه يشعر بهذه المشاعر المختلفة؟.
ربما.. دخل الغرفة فرأى منظراً تمنى لو كان جزءاً من مفرداته.. في ركن قصي من غرفة الصناديق تحلق عمال من شرق آسيا بملابسهم المتربة وسمرتهم الداكنة وعيونهم المتلهفة إلى ما بين يدي أحدهم من رسائل أخذ يوزعها عليها وهم يتسابقون في فضها وجريان عيونهم بالدمع على سطورها.
بعث ذلك المشهد في روحه أملاً عريضاً.. تقدم باتجاه الصندوق كان من عادته ألا يكلف نفسه عناء فتح الصندوق بل كان لعمق يأسه يكتفي بالنظر من ثقب أسفل الصندوق وبالفعل فقد أطل من ذلك الثقب وكالعادة وجد صندوقه خاوياً على غباره.
أطال النظر في الصندوق ومشاعر كثيرة تعترك في روحه هم برفع رأسه والانصراف لولا أن الصندوق قد تلقى من الناحية الأخرى رسالة ألقاها أحد الموظفين في تلك اللحظة.. دقق النظر أكثر.. نعم لقد كانت رسالة آه هذا ما يصبو إليه.. لقد تحقق أخيراً أمله عاودته الثقة في إخضرار الدنيا.. لام نفسه كثيراً على سوء الظن الذي اقترفه حيال أصدقائه.. هذا هو أحدهم يكتب إليه رسالة.. رفع رأسه وبحث عن المفتاح في المحفظة فلم يجده.. تذكر أنه قد وضعه في السيارة منذ فترة!.
ركض باتجاه السيارة.. ومازل محركها يشتغل!
عاد مسرعاً إلى الصندوق.. كان يتساءل من هو ذلك الصديق الذي لم تشغله الدنيا أو تبدله الأيام؟.
غرس مفتاحه وفتح الصندوق.. أخرج الرسالة وبسهولة فتح المظروف، فض الرسالة وقرأ:
عزيزي المشترك.. تود إدارة البريد أن تشعرك بانتهاء اشتراكك..
هل ترغب في التجديد؟.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved