الإشارات الصادرة من واشنطن قلبت الأمور رأساً على عقب وغيّرت من تفاهمات قد حدثت بين القوى السياسية وعملت على تغيير تكتيكاتها وأسلوب تعاملها مع المبادرة التي تسود حالياً دول المنطقة بالتغيير وتحقيق قدر من الديمقراطية والحرية.. تلك الإشارات التي قبلت اليوم ما كانت ترفضه واشنطن من ذي قبل، وهي استعدادها لقبول وصول التيار الإسلامي إلى سدة الحكم في دول المنطقة وهو الأمر الذي كان مرفوضاً حتى مجرد التفكير فيه، ولعلنا نذكر التجربة الجزائرية بكل مراراتها بعد نجاح جبهة الإنقاذ في الانتخابات البلدية، وكانت كل المؤشرات واستطلاعات الرأي تشير إلى فوز التيار الإسلامي بالرئاسة، وانقلبت السلطة على نتائج الانتخابات البلدية بتشجيع كل القوى الدولية وحدث ما حدث للجزائر بامتشاق القوى الإسلامية السلاح ضد السلطة. الآن واشنطن ومعها الاتحاد الأوروبي يغازلان التيارات الإسلامية بالمنطقة وأبديا استعدادهما للتعامل مع هذه التيارات بعدما فشلا في تحقيق إنجازات ملموسة مع الأنظمة القائمة وأول تلك الإشارات كانت من وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد حينما ذكر أن واشنطن لا تمانع في قيام نظام حكم إسلامي في العراق شرط أن يكون مختلفاً عن النسق الإيراني. ثم أدلى وزير الخارجية الأسبق كولن باول في حديث للتلفزيون المصري أن واشنطن على استعداد للتعامل مع أي تيار تفرزه التجربة الديمقراطية حتى ولو كان التيار الإسلامي (في معرض إجابته على سؤال: ماذا لو تحققت الديمقراطية وجاءت بالتيار الإسلامي إلى سدة الحكم؟!). ثم جاء التصريح الصريح من كونداليسا رايس بأن الولايات المتحدة لا تمانع في التعامل مع القوى السياسية المختلفة في الشرق الأوسط بغير استثناء إذا كان ذلك طريقاً للإصلاح أو سبيلاً للحد من موجات الإرهاب. كما عبّر الاتحاد الأوروبي في بيان له عن قبوله التعامل مع التنظيمات الإسلامية القائمة في الشرق الأوسط، فضلاً عن ذلك (وكانت ممارسة بشكل عملي) أن كل الوفود التي جاءت إلى المنطقة سواء أكانت من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي تحت مسمّى لجان تقصي الحقائق في موضوع حقوق الإنسان والحريات في دول الشرق الأوسط ركزت في لقاءاتها على قضية التمثيل السياسي للتيار الإسلامي، وانتقدت الحظر المفروض على جماعة (الإخوان المسلمين) في عدد من العواصم العربية. هذا التغيير الحاصل في السياسات الغربية أعطى انطباعاً عاماً أن المبادرة التي أطلقتها واشنطن بالشرق الأوسط الكبير وتحقيق الحرية والديمقراطية لشعوب المنطقة شجعت في بداية الأمر كل القوى السياسية في المنطقة للانقضاض على السلطة، لكنها بعد فترة وجيزة من اطلاق المبادرة اكتشفت أن التيارات القومية والليبرالية في المنطقة لا تملك عصاً غليظة تستطيع من خلالها الانقضاض على السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية وتأكدت أنها لا تستطيع أحداث تغيير حقيقي في النمط السائد لأنظمة الحكم لدى دول عديدة بالمنطقة من خلال هذه التيارات، وبات من المؤكد لها أنها لن تنجح في ذلك إلا من خلال القوى المؤهلة لذلك، وهي التنظيمات الدينية والتيارات الإسلامية بقدرتها التنظيمية وكثرة مؤيديها من شعوب المنطقة. وما حدث من أحداث في مصر مؤخراً هو تجسيد للمتغيرات والتحولات في السياسات الأمريكية والأوروبية نحو التيارات الإسلامية، فقد سارعت جماعة الإخوان المسلمين إلى تأييدها ترشيح الرئيس حسني مبارك لفترة ولاية خامسة بعد إعلانه إدخال تعديلات في المادة 76 من الدستور المصري والتي تتيح ترشيح أكثر من شخص إلى رئاسة الجمهورية في مقابل إطلاقه الحريات ومنها حرية إنشاء الأحزاب وتكوين حزب للإخوان المسلمين (بالطبع) واصدار الصحف وإلغاء حالة الطوارئ، غير أن النظام لم يقدّر هذا الموقف للإخوان بكل شعبيتهم الجامحة وسط صفوف الشعب المصري والتف على هذا الموقف حيث اتفق الحزب الحاكم مع أحزاب المعارضة على ألا يلجأ أي حزب إلى دخول عناصر غير شرعية (يقصدون الإخوان المسلمين بالتحديد) في قوائمه الانتخابية أو يرشح نفسه تحت مسمّى أي من هذه الأحزاب، كما حدث ذلك في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي ودخل الإخوان المسلمون البرلمان تحت مسمّى التحالف الإسلامي والذي يتألف من حزب العمل وحزب الأحرار والإخوان المسلمين.. وكان حدثاً فريداً في التاريخ السياسي المصري. وعندما التقطت قيادات الإخوان تلك الإشارات السالبة من الحزب الحاكم في مصر والالتفاف على مبادرته بتأييد الرئيس مبارك لولاية خامسة في مقابل استحقاقات للإخوان بإنشاء حزب سياسي، التقطت أيضاً قيادات الإخوان إشارات إيجابية من الغرب تعينها على إثبات الوجود والقدرة على إحداث تغيير في النظم السياسية، وعلى الفور بدّلت من سياساتها مع النظام وبدأت في تنظيم المظاهرات التي تؤيد التغيير والإصلاح وتقاطعت رؤاها مع رؤى حركة كفاية بضرورة التغيير والإصلاح ونزلت إلى الشارع السياسي لتقول كلمتها وتطرح وجهة نظرها وتسحب التأييد للرئيس مبارك مطالبة بالتغيير، وهكذا فعلت سياسات واشنطن وأوروبا فعلتها في القوى الإسلامية لعلها تستطيع إحداث التغيير المنشود في النظام العربي المتآكل بعد فشل قدرة الأحزاب القومية والليبرالية في تحريك الشارع السياسي العربي، وقد استطاعت جماعة الإخوان المسلمين حتى الآن تحريك الشارع السياسي المصري وما زالت التفاعلات مستمرة، وتتسارع وتيرة الأحداث يوماً بعد الآخر في الكر والفر بين النظام والجماعة.. والأيام القادمة بلا شك حبلى بالأحداث والفعاليات والصدام واتساع الخلافات. ويبدو أن النظم العربية لم يدر في خلدها أن أمريكا ولاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر سوف تغير موقفها المتشدد مع التيارات الإسلامية والأحزاب الدينية، لكنه قد حدث وبشكل براجماتي وانقلابي في ثوابت السياسة الأمريكية والأوروبية وأعطت إشاراتها الواضحة لهذا التيار في الترحيب به في السلطة بعد أن كانت هذه الأنظمة تخيف واشنطن بأن مبادرتها (الشرق الأوسط الكبير) سوف تأتي بالتيار الإسلامي المتشدّد الذي يعاديها ويكرهها وسينقلب على استراتيجية السلام مع الدولة العبرية. ورأت واشنطن أن المارد الذي كان يخيفها يمكن التفاهم والتعامل معه ولعل في التجربة التركية والحكومة العراقية الجديدة ما يجعلها تقبل هذا الاتجاه دون أن تعير أي اكتراث لإشارات التخويف من النظم العربية من هذه التيارات.. بل رأت الاستعانة به على هذه الأنظمة من خلال التحاور معه والالتقاء عند نقاط مشتركة يمكن أن تجمع بينهما.. وكان ذلك ذكاء من الإدارة الأمريكية أن ترهب هذه النظم بالتيارات الإسلامية بدلاً من أن تستخدمها النظم في إخافة واشنطن، فهل ينقلب السحر على الساحر؟! وهل تستطيع تلك التيارات الدينية أن تحقق لواشنطن مبتغاها من تغيير هذه النظم وتلك الآلية العربية في الاستبداد بعد أن أدركت الإدارة الأمريكية أنها قد وصلت بالفعل إلى طريق مسدود ويجب إحداث التغيير في هذا النظام العربي برمته؟! فماذا ستسفر عنه الأيام القادمة؟! ولمن ستكون الغلبة؟!
|