العولمة والتقنية، كلمتان مرادفتان للاستعمار والحضارة الغربية، الهدف والمضمون ظل كما هو منذ عصر الاستعمار وحتى الآن، بينما الأسماء أخذت تتغيّر وتتبّدل حسب كل مرحلة وحقبة، لتعود نفس المفاهيم بأدوات جديدة ومفردات أخرى، وأسماء مستعارة حتى يسهل الوقوع في فخها وابتلاع طعمها، ولكن الثابت الذي لم يتغير هو أن الإنسان وخصوصاً في ما يسمّى العالم الثالث، ظل هو الهدف وهو الذي يدفع ثمن هذه الهيمنة التي تغيّر جلدها في كل مرة ولا تغيّر مضمونها أبداً. أما محور ارتكازها، وحركتها فهو استعباد الإنسان، وجعله يدور في فلك هذه الحركة العالمية بكل معطياتها التقنية والعلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية ومحرّكاتها الإعلامية بكل ما أُعطيت من سطوة وقوة وجبروت. الإنسان ظل عبداً لهذا الحراك المسنود بآلة الحرب ونشوة الانتصار والمفعم بشعور القوة والاستفراد منذ زمن الإقطاعيين، وحتى عصر الاستعمار في مراحله الاولى، ووصولا إلى الوجه الحديث للاستعمار. تغيّر الحال اليوم فبدلاً من العمل في الفلاحة طول اليوم مقابل ما يسد الرمق، صار الإنسان يعمل لساعات محددة وفق قانون العمل ويتقاضى راتباً مناسباً، لكن (العولمة) التي هي الاستعمار سابقاً ظلت تلاحقه لتبتلع كل ما حصل عليه من أموال، فظل الفرد عبداً للهاتف الجوال والثابت والإنترنت وغير ذلك من مظاهر العولمة والتقنية العصرية يشقى ويكد ويفني نفسه إرضاءً لها، ومن لم يدفع ماله دفع عمره أو جزءاً من جسده، أو كرامته وسمعته، وأسراره وخصوصياته وراحته النفسية وساعات نومه وصحته. قولوا لي بربّكم من الذي اشتكى من سوء حياتنا العادية الطبيعية الخالية من توابل العولمة؟ ومتى كنا نشتكي من هذه الأمراض والعلل ونحن في ظل تلك الحياة الهانئة النظيفة؟ ثورة الاتصالات التي اقتحمت البيوت وتعدت على الخصوصيات شكّلت قلقاً للأسرة، أينما وجدت، وانتهكت ناموس التربية المتعارف عليه وأرست مفهوماً جديداً قلب موازين استقرار وتماسك الأسرة بل شكّل خطراً على العادات والتقاليد الحميدة. العلم الذي كان يُرجى منه الكثير لمواجهة مشكلات العصر من أمراض مستعصية، وتدهور مريع للبيئة، وتلوث للغذاء والمياه والهواء، صار هو الآخر عبئاً على الإنسان وليس نصيراً له. لماذا لأن منظومة (الاستعمار- الإقطاعية العالمية- العولمة) اختر ما شئت منها أرادت أن يكون العلم موجهاً لإنتاج أسلحة دمار وفناء البشرية، وتفنّنت في صنع هذه المدمرات من القنابل الجهنّمية إلى الطائرة المقاتلة بلا طيار. نعم أفلح العلم في وسائل قتل الإنسان وتشريده وتعذيبه، ولكن وقف عاجزاً عن إيجاد الدواء لأبسط الأمراض، لقد عجز العلم عن علاج شلل الأطفال بل الملاريا. أما الأمراض المزمنة مثل السكّري وارتفاع ضغط الدم والرطوبة والحساسية فلم يلتفت إليها العلم، وكذلك الأمراض الخبيثة والفيروسية كالسرطانات والأيدز والتهاب الكبد الوبائي وغيرها. العلم ليس متّهماً بالتقصير بل (العولمة) لأن المعلومات أفادت بأنه تم التوصل لعلاج السكّر قبل أكثر من ربع قرن من الزمان، لكن مافيا الأدوية التي تجد غطاء جيداً من (العولمة) حالت دون الإفصاح عن ذلك العلاج بل سعت لقتل نتائج البحوث في مهدها، وهددت الباحثين. إلى متى يظل الإنسان هو الضحية لإفرازات العلم والمعرفة؟ وإلى متى توظف جهود الإنسان العلمية من أجل فنائه وتسميم طعامه وشرابه وتلويث بيئته؟ لقد سئمت البشرية عبودية الآلة والتقنية ومؤامرات العولمة التي تصب في رصيد المافيا الدولية وتقصّر من عمر الإنسان وتسحب من رصيد راحته؟ وظل السؤال الحائر أبداً يتردد: هل جاءت التقنية وإفرازات العولمة من أجل إخضاع الفرد لمتطلباتها أم من أجل الارتقاء بواقع هذا الإنسان؟ وأي ارتقاء لمسناه حتى اليوم؟ إنها فلسفة القوة والهيمنة التي تتلذذ بتعذيب الإنسان وتريده راكعاً ساجداً على الدوام. فمتى يتحرر الإنسان - الذي نتباكى على حقوقه المزعومة - من هذه العبودية الملازمة له منذ عشرات السنين؟ ومتى نكف عن الاستمرار في بناء حضارة الدمار والفناء، ونتّجه نحو حضارة راقية تفيد الإنسان وتحرص على حقوقه الواقعية ومتطلباته الحياتية، ونعمل من أجل حل مشكلاته الحقيقية المتمثلة في الجهل والفقر والمرض؟ هذه المشكلات التي لم يجلب لها العلم حلاً بل زادها تعقيداً لأنه علم موجّه في اتجاه واحد، ولا يُراد له الانطلاق والتحليق في آفاق الحياة الرحبة وتفعيل الجانب الايجابي منه، بل تم توظيف جوانبه السلبية حتى صارت نشرات الأخبار تفوح منها رائحة الموت المنظّم في كل حين، وللأسف تخلو غالباً من أنباء الاختراعات المفيدة، والاكتشافات السارة بل حتى الاكتشافات صارت مخيفة كاكتشاف أمراض جديدة لا علاج لها وفي الغالب الأعم تكون نتاجاً طبيعياً لإفرازات التقنية أو العولمة أو كلاهما لذلك ظلت هذه التوليفة محبطة ومخيفة، ومقلقة لأكثر الفئات تفاؤلاً وظل الناس أكثر نفوراً من عولمة مشتقة من العلم، ولا توظّفه إلا ضد الإنسانية، واستعمار مشتق من التعمير لكنه أكثر ميلاً للهدم والدمار والنهب والإفقار، إذن هذه المتلازمة بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة وإعادة ترتيب حتى تلائم مفردات الخطاب المعلن للمشروع العالمي الذي يزعم مناصرة حقوق الإنسان، وحماية الحريات، والعمل على إيجاد حياة أفضل للبشرية.
|