Tuesday 10th May,200511912العددالثلاثاء 2 ,ربيع الثاني 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الثقافية"

غزل الفقهاءغزل الفقهاء
الحلقة الأولى
بقلم- صلاح عمر شنكل

كان الحديث يبحث عن أدب الفقهاء أو فقه الأدباء لكننا عثرنا - في طريق البحث - على لون أكثر جاذبية من اللون السابق ويمثل جانباً مهماً من تراثنا الأدبي، ويكشف لنا عن الحس المرهف للفقهاء والعاطفة الجياشة لدى الأدباء والعلماء والقلوب الرقيقة والمشاعر الدفاقة لديهم.. ذلكم اللون هو غزل الفقهاء الذي يعبر عن مواهبهم ورقة شعورهم وإجادتهم في هذا المجال مثلما أجادوا في مواطن العلم والفقه والمعرفة.
وسنتناول - بإذن الله تعالى - هذا اللون من الأدب في حلقات لنميط اللثام عن هذا المخزون العاطفي الفياض الذي تخفيه عباءة الفقهاء وهذا الوجد الذي تضمه حناياهم المشبوكة حول أقفاصهم الصدرية فإلى الحلقة الأولى:
لعل الحياة العاطفية الصادقة في الشعر والتسامي بالحب والغزل العذري - الشعر الذي يصف جمال المحبوب ويشف عن عاطفة مشبوبة يهيم فيها المحب بحبيبته ويرجو الحظوة بوصالها - لعل ذلك يمثل جانباً مهماً ورائعاً من جوانب الأدب العربي - ولربما كان لهذا اللون أثره الفعال في تأثير الأدب العربي - آنذاك - على الأدب العالمي قاطبة.
ولم يكن الدخول في هذا المجال من الشعر دخولاً اعتباطياً أو تعلقاً بالمرأة تعلقاً محضاً بل وافق ذلك الاستعداد الفطري للطبيعة العربية البدوية التي ارتبطت بالوجدان وما يتصل به من جمال القول والمنظر وبالحس والشعور العربي الذي يمثل أحد المكونات الوجدانية والروحية لهذه الأمة وعناصرها المعنوية التي مثلت الخصوبة التي نمت فيها الحضارة الإسلامية برسالتها السامية واحترامها للأدب وعدم زجرها للعواطف الإنسانية أو كبتها للحريات الشعرية والشعورية ما لم تمس جوهر الدين.
لذا يأتي الغزل بمعناه السامي والأدب العاطفي بمحتواه العفيف ضمن مكونات النسيج الوجداني لهذه الأمة.. ولا غرو - إذاً - إذا اغترف منه العلماء ونهل منه الفقهاء بمقادير تطفئ لهيب شوقهم وتبل حرمانهم وتشفي غليل وجدهم، فهم بشر يحسون ويتأثرون ويشتهون.. والأنفس تشتهي وتلذ الأعين حتى في الجنة، لذلك أعد الله لها ما يسد حاجتها فكيف بها وهي على أرض الدنيا؟ فحري بهؤلاء أن يعبروا عن أحاسيسهم وشعورهم شعراً نبيلاً رفيعاً.
فقد اعتقد كثير من الناس أن الحب وقف على الصعاليك أو الغزليين وأمثالهم وأن في تناوله والإحساس به خروجاً عن المألوف ونزولاً عن الورع والاتزان أو ارتكاباً للرغبة والجنوح.. بينما الحقيقة التي لا مراء حولها أن النفس السوية - أياً كانت - تواقة إلى بعث مشاعرها وبث مكنونها وإرسال ذلك شعراً أو نثراً وأن النفس غير السوية هي التي تعمد - جهلاً - إلى كبت مشاعرها مما يتولد عن ذلك شعور معاكس يؤثر في شخصية صاحبها) وهم لا يعلمون أن الحب شعور فياض تسوقه الإرادة الإلهية لذوي الإحساس المرهف والقلوب الرقيقة ويسمو هذا الشعور بمقدار عفة صاحبه وارتفاعه عن المطالب الدنيا وينزلق بمقدار انحطاط صاحبه وانحداره عن جادة السلوك الإنساني الرفيع، يختص به قوم حباهم الخالق رقة الطباع وتآلف الأرواح (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
وقد ظهر لون من ألوان الحب الرفيع والغزل العذري يسمو فيه المحب فوق المتعة الحسية ويغلب فيه الحرص على استدامة العاطفة لذاتها والاعتزاز بها وسمي هذا اللون عذرياً نسبة إلى قبيلة عذرة لما اشتهرت به من رقة الإحساس وكثرة العشاق الصادقين في حبهم الذين كانوا يموتون وجداً.
وربما قد مثل هذا اللون الصادق من الحب العفيف نواة إلى خلق الغزل الذي اشتهر به بعض الفقهاء الذين لم تكن لهم حاجة في التشبيب وارتجاء متعة حسية، مما جعلنا نشد الرحال إلى هذه النوادر التي يغفلها الأدب كثيراً وفيها غوص وارتحال في أعماق وعالم الأدباء والفقهاء.
لكننا لا ننشد من عالمهم وبحارهم الممتدة بلا سواحل أو شطآن درر العلم أو ياقوت الفتاوى إنما نجوس في دواخلهم لاستكناه كوامن نفوسهم وزواخر وجدانهم واستنطاق مشاعرهم وحبس أحاسيسهم لنرى أن كثيراً منهم لولا اشتهاره بالعلم والفقه لكان شاعراً غزلياً من الطراز الأول ولا أحسب نفساً تنفر من الإحساس بزلزال الحب وهو يهز جذعها ويتغلغل في كيانها أو التعبير عن ذلك شعراً وقولاً وإفصاحاً.. إلا كان بها شائب من شوائب القصور أو غشيتها غاشية النقص والالتباس.
ولم ينزه الله أحداً من خلقه عن قول الشعر أو البوح بما يعتلج في الصدر إلا الأنبياء، وذلك حتى يقطع دابر كلمة الكافرين الذين قالوا (شاعر أو مجنون) لأن الوحي نقيض الشعر فهو يتنزل من السماء بينما الشعر من داخل النفس أما خلاف ذلك فقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصغى إلى كعب بن زهير وهو يلقي قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد والتي يقول في بعض أبياتها:


وما سعاد غداة البين إذ برزت
كأنها منهل بالراح معلول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكى قصر منها ولا طول

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثير استدلاله بقول الشعر مما يصفه البعض - اليوم - بالكراهة إن لم يكن التحريم.. وأن ابن عباس - رضي الله عنه - كان يصغي إلى إمام الغزليين عمر بن أبي ربيعة ويروي شعره وأن الحسن البصري - رضي الله عنه - الذي قالت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها إن كلامه أشبه بكلام النبوة كان يستشهد بقول الشاعر:


اليوم عندك دلها وحديثها
وغداً لغيرك كفها والمعصمُ

وأن سعيد بن المسيب سمع مغنياً يغني:


تضوع مسكاً بطن نعمان إذا مشت
به زينب في نسوة خضرات

وضرب برجليه وقال: هذا والله مما يلذ استماعه ثم قال:


وليست كأخرى أوسعت جيب درعها
وأبدت بنان الكف للجمرات
وعالت فتات المسك وخفاً مرجلاً
على مثل بدر لاح في الظلمات
وقامت ترائي يوم جمع فأختنت
برؤيتها من راح من عرفات

فالعلماء والفقهاء بشر لهم آذان ومسامع تلذ بالنغم الطروب من ضروب اللغة والبيان ولهم قلوب مرهفة بالإحساس الصادق تداعب أوتار قلوبهم نسيمات الهوى والعشق مثلما البشر الآخرين.. فنار الوجد إذا سرت لا تفرق بين أعصاب الفقهاء وغيرهم.. وأجنحة الحمائم الذبيحة إذا خفقت بين الضلوع فإنها لا تفرق بين صدور الورعين وحنايا المولهين الغزليين ولا تميز بين الزاهدين واللاهين.
فللحب رعشة لا بد لها أن تلامس شغاف القلوب.. ويبقى الإفصاح عن ذلك هو الفارق بين بعض العلماء والعامة.. وإذا كان الغزل هو وصف الحسن والجمال فإنه في ذهن كل ابن انثى، فمنهم من يسعفه خياله وسعة أفقه وبيانه ومنهم من يظل يكتم ذلك إما عجزاً أو ورعاً وتقى.
فالوصف وتفصيل مقاسم الجمال ومفاتن المرأة وردت في بعض آيات القرآن الكريم لإغراء المؤمنين بالجنة وترغيب العباد في العمل الصالح لنيل الحور العين (عُرُبًا أَتْرَابًا)(37) سورة الواقعة {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ }72) سورة الرحمن، {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}(58)سورة الرحمن.
وليست الأحاسيس الرقيقة والمشاعر العذبة قاصرة على شعراء الغزل والتشبيب بل كان للعلماء والفقهاء وبعض الأئمة وأعلام الدين والمعرفة نصيب وافر من ذلك أودعه الله صدورهم:فهذا الفقيه العالم المحدث عروة بن أذينة شيخ الإمام مالك يقول:


إن التي زعمت فؤادك ملّها
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها وكلاكما
يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حب لها
لو كان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها
يوماً وقد ضحيت إذاً لأظلّها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الفؤاد إلى الضمير فسلّها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلها
فدنا وقال لعلها معذورة
من أجل رقبتها فقلت لعلها

هذه الأبيات التي تصف الصبابة ولوعتها وتبادل الحب بين العشيقين تشف عن عنفوان الوجد الذي يطوي صاحبه فهو أرض بقوته (لو كان تحت فراشها لأقلها).. فهو سماء في حمايته للكائنات وعرش للكون في عظمته وسموه ورفعته ورحمته في وقايته من شمس الضحى لو كان حبك فوقها يوماً وقد ضحيت إذاً لأظلها.. هذا الغزل الرفيع يصدر من شيخ وعالم وفقيه مثل عروة بن أذينة.. ويرى الشيخ علي الطنطاوي أن هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها.. أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاماً إلى الليل.
ترى لماذا؟ لأنها لامست وتراً حساساً في أعماقه وعزفت على سيمفونية الحب في داخله ولأنها صدرت من شاعر فقيه أفصح عن نار الحب التي تتقد بين حناياه والوجد الذي يتأجج وقلب ظمآن ولهيب لا يطفئه إلا ري التلاق وبرد الوصال.. وهو القائل:


قالت وأبثثتها وجدي وبحت به
قد كنت عندي تحب الستر فاستتر

ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها:


غطّى هواك وما ألقى على بصري

هذا الشاعر الفقيه العالم الذي يروي ترنيمة القلب الموله أوقد الحب بين جوانحه ناراً لا يطفئ أوارها إلا ماء اللقاء والوفاء يقول:


إذا وجدت أوار الحب في كبدي
عمدت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
فمن بحرٍّ على الأحشاء يتقد؟!

فعلاً إن الماء لا يروي ظمأ القلوب ولا يطفئ لهيب الأحشاء وقد عبر عن ذلك الشعراء فقهاؤهم وعامتهم فالشوق سر من الأسرار ونسمة تخترق الأحشاء في هدأة الليل وتنسج حولها الضلوع سياجاً منيعاً لتنام هادئة هانئة.. لكن إذا داعبته الخيالات وعبثت به أنامل الاضطراب والارتعاش وعنفوان الوجد تحول إلى مارد لا يخرج إلا شعراً غزلياً أو إفصاحاً بأي لون من الألوان وهو لا يستقر إلا في القلوب المرهفة ولا ينطلق إلاّ منها.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved