سعادة رئيس تحرير جريدة (الجزيرة) الأستاذ خالد المالك.. حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد كنتُ أتابع ما كتبه الدكتور محمد بن سعد الشويعر حول تعمير المدن عند المؤرخ إبراهيم بن عيسى، وذلك في العددين رقمي 11845 و11852، وكذا ما كتبه عن عالم الجن في العددين رقمي 11880 و11887 ومع شكري للدكتور الشويعر على طرقه لهذين الموضعين فإن لي بعض الوقفات حول ما أشار إليه، والهدف هو استكمال الفائدة وتدارك بعض الأخطاء التاريخية، والتحقُّق من بعض الروايات وعدم أخذها على علاتها.. وذلك على النحو التالي: أولاً: موضوع تعمير المدن عند ابن عيسى أ- قال الدكتور محمد الشويعر: (وقد سمَّى ابن عيسى بعضاً من أسماء المؤرخين الذين نقل عنهم، وهذا من الأمانة العلمية، وهم أحمد بن محمد بن بسام، وأحمد بن منقور، وحمد بن محمد بن لعبون، ومحمد بن يوسف). والواقع أن الشيخ إبراهيم بن عيسى قد ذكر في مقدمته أنه رجع إلى هؤلاء الذين أشار إليهم د. الشويعر ما عدا محمد بن يوسف من أهل أوشيقر. والجانب الآخر أن ابن عيسى نقل جل تاريخ محمد الفاخري المتوفَّى عام 1277هـ ولم يُشر إليه، كما نقل من كتاب (عنوان المجد) لابن بشر الكثير من الأحداث التاريخية، ولم يذكره من بين مراجعه أيضاً، وذلك كما جاء في مقدمة دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر للشيخ حمد الجاسر التي تولَّت نشر الكتاب. ب- نقل الدكتور محمد الشويعر عن ابن عيسى قوله: (وتداول رئاسة المجمعة ذرية الشمري إلى أن ضعفوا وغلبهم عليها آل عسكر). ويقصد بالشمري عبد الله بن سواج الشمري أول مَن بدأ العمران بالمجمعة. أقول: إن ما ذكره ابن عيسى خطأ كبير يُفترض ألاَّ يقع فيه مثل د. الشويعر. فبين آخر أمير من ذرية الشمري وأول أمير من العسكر قرابة قرن من الزمان، تداول الإمارة خلاله حوالي العشرين أميراً، فآخر أمير من ذرية الشمري هو حمد بن عثمان الذي عزله الإمام عبد العزيز بن محمد آل سعود ثاني أئمة الدولة السعودية الأولى عام 1191هـ لارتيابه في ولائه، وعيَّن بدلاً منه عبد الله بن جلاجل. أما أول أمير من آل عسكر فهو إبراهيم بن سليمان العسكر الذي عيَّنه الإمام عبد الله الفيصل ثالث أئمة الدولة السعودية الثانية عام 1278هـ أميراً على المجمعة بعد مقتل أميرها عبد الله بن دغيثر، كما هو موضَّح في تاريخ ابن غنام وتاريخ ابن بشر، وقد صحَّح هذا الخطأ الشيخ عبد الرحمن التويجري في كتابه (الإفادات عما في تراجم علماء نجد لابن بسام من التنبيهات). ثانياً: استعرض الدكتور في حديثه عن عالم الجن بعض الحكايات والأساطير التي لا تصح شرعاً ولا عقلاً. وكان الأحرى به - وفقه الله - ألاَّ يصرف النظر إليها ابتداءً وألا يرويها على سبيل الإقرار وهو المؤرخ المدقق المحقق. ومنها هذه الخزعبلات كقصة ذلك الرجل الذي خرج لصلاة الفجر فاستطير به، فطلق عمر امرأته بعد أربع سنين وتزوجت بعده، ثم عاد بعد ذلك وصاح بعمر رضي الله عنه قائلاً: امرأتي لا متُّ ولا طلَّقت. فلما سأله عمر عن حاله قال: ذهب بي حي من الجن كفار فكنتُ فيهم. قال فما طعامك؟ قال: ما لم يُذكر اسم الله عليه. فغزاهم حيٌّ مسلمون فأصابوني في السبي، فلما علموا أنني مسلم ردُّوني إلى قومي. أما الليل فيحدثوني وأحدثهم، وأما النهار فإعصار الريح أتبعها حتى وردتُ عليكم. وما رواه عن الجوزي من كتابه (صفوة الصفوة) عن سهل بن عبد الله أنه رأى في ديار عاد شيخاً عظيم الخلق يصلي وعليه جبة صوف تعجَّب من طراوتها. فأخبره الشيخ أن لها عليه سبعمائة عام، وأنه لقي بها عيسى ومحمداً عليهما السلام، فلما سأله عن حاله أخبره أنه من الجن. وكذا قصة معدي كرب الذي قتل الجني بسيفه. وأخيراً إيراده من أخبار الجاهلية أن كل شاعر له صاحب من الجن يلقي عليه القصائد، وضرب لذلك مثلاً بقولهم: (ما لبيد لولا هبيد). أقول: إن هذه أساطير شعبية، لا يصح الخلط بينها وبين الوقائع التاريخية أو الحقائق الدينية. ومن أقرب الدلائل على تهافت هذه الأخبار أن ماهية وتكوين البشر مخالفة لتكوين الجن الذين خلقهم الله سبحانه من مارج من نار، وكونهم ينفذون من خلال الجمادات إلى باطن الأرض بخلاف بني آدم الذين لا تسمح طبيعتهم بذلك. وأما عن اعتقاد الناس في الجاهلية أن كل شاعر له صاحب من الجن يلقي عليه القصائد، فيكفي أن هذا القول من أقوال الجاهلية، ثم إن الشعراء منذ بزوغ شمس الإسلام إلى يومنا هذا وهم يقولون أعظم القصائد ولم يحتاجوا إلى صاحب من الجن يعاونهم على ذلك، فضلاً عن أن يلقِّنهم إياها. ثم ألا ترى في ذلك القول استنقاصاً لبني آدم، وأنهم لا يمكن أن يُبدعوا إلا بمعاونة الجن وهم الذين في هذا العصر أنجزوا وأبدعوا أعظم المخترعات في عالم الصناعة وثورة الاتصالات ولم يكونوا في حاجة إلى رفد ولا معاونة من الجن. أعود فأقول: إن لبيد بن ربيعة من فحول شعراء الجاهلية المبدعين، وليس في حاجة إلى هبيدهم المزعوم ليعاونه على تلك القصائد.
حمود بن عبد العزيز المزيني |