* الجزيرة - خاص: ******** جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. ******** الإسلام دين الرفق والرحمة واللين، كانت سماحته وسيلة انتشاره ليملأ سناه بقاع الأرض بالحب والخير، برحمة من الله رفق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمة الإسلام منذ انطلاق الدعوة، فلم يكن فظاً أو غليظاً أو قاسياً، بل كان هاشاً باشاً صبوراً على تحمل المشاق، فاجتمع حوله الكبير والصغير، الرجل والمرأة، الغني والفقير، يسألونه ويجيب في غير تعال أو تجهم، يستقبلهم بالبِشْر ويودعهم بالسلام.. إلا أن كثيرا من المسلمين في عصرنا هذا لم يستوعبوا هذه الدروس، فنادراً ما ترتسم على وجوههم الابتسامة أو تنبسط أساريرهم للقاء صديق أو سماع خبر مفرح، حتى صار التجهم والعبوس جزءا من ملامحهم، بعضهم يظن أن الابتسامة تضر بمكانته أو متطلبات منصبه.. فأين هؤلاء من سُنّة الرسول، ولماذا هذا العبوس المنفر، وهل تنتقص الابتسامة من مكانة هؤلاء المتجهمين، أم أن هذا التجهم هو الذي يضر بهذه المكانة والعلاقات الأخوية بين المسلمين، ويجعله من السلوكيات المرفوضة التي تتنافى وسماحة الإسلام؟؟ **** في البداية يقول الشيخ عبدالله بن نويفع العنزي - مدير مركز الدعوة والإرشاد بالقريات -: إن ديننا هو دين الكمال والجمال الذي ارتضاه الله - عز وجل - للعالمين، فهذا الدين ما ترك شيئا فيه خير إلا دلنا عليه، وحثنا إليه ورتب عليه الأجر والثواب في الدنيا والآخرة، وليس هناك شيء فيه ضرر إلا حذر منه، ونهى عنه، وبينه أي تبيان ورتب على العاصي العقوبة في الدنيا والآخرة إلا من تاب وصدق.. ولا شك أن هذا الدين العظيم هو دين المحبة، دين السلم والسلام، دين الرحمة والمودة، دين الجمال والمدنية والحضارة، فلذلك هو دين البشاشة، والبِشْر، والرحابة، والسمو والأخوة الصادقة، ولين الجانب، ورقة القلب، ولطافته، وحميميته.. يقول الله - عز وجل - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم - في سورة آل عمران أية (159) {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}. فبيّن سبحانه وتعالى بذلك أن هذا الدين من أسباب الجمع إليه هو سماحته، ولين جانبه، ورحمته وقبوله للآخر، وكونه عنواناً صادقاً لكل ما هو خير، ومحبة، ومساواة.. ولننظر إلى قول الله - عز وجل - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - موجهاً له وراسماً له الخط الذي به يبين عنوان الإسلام وسماحته فيه.. قال تعالى في سورة الحجر آية (88): {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}، أي كن محباً لهم متواضعاً صابراً عليهم مقبلاً إليهم ناصحاً لهم غير متكبر عليهم.. ولقد كان صلى الله عليه وسلم كذلك، وأعظم، ولقد أثنى رب العزة والجلال على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سورة القلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}آية (4). مظاهر القسوة ويضيف الشيخ العنزي: وإنه مما يؤسف له أننا نرى التجهم، ومظاهر القسوة بادية ظاهرة على وجوه البعض عنواناً منفراً، وصورة تعكس رؤى لا تحمد، بل ان هناك من تعلّم علوم الشريعة، ودرسها وأتقنها، لكن رغم ذلك اقرب إلى الخشونة، والقسوة، والتعالي، وتجهم الوجه، وقسوة الملامح.. ناسياً أو متناسياً أن الدين الإسلامي هو دين المحبة، والسماحة، والبشاشة، والرفق، والعطاء، والبذل، والإخلاص، والصدق، والتمني للغير مثل ما يتمناه لنفسه وأكثر.. والمفترض أن العلم الشرعي يزيد المسلم قرباً من الناس، ومحبة لهم، وخوفاً عليهم، وصدقاً معهم، ومشاركة لهم في السراء والضراء، فبذلك ينتشر الإسلام، ويقبل عليه الجميع، فالدين الإسلامي انتشر في البلاد البعيدة لأنه دين المحبة والسلام، ودين المساواة والعدل، ودين التكافل، ودين الأمانة والصدق والبذل والعطاء، ولو كان عكس ذلك ما أقبل عليه أحد، ولا رغبه بشر. وفي هذا الحديث الشريف يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء) رواه الترمذي وقال حديث صحيح. وهذا هو الإسلام، دين الأخلاق الفاضلة.. وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) رواه أبو داود. لذا نقول لكل مسلم: كن طلق الوجه باشاً هاشاً صادق الود والبشر، مبتسم المحيا والثغر لإخوانك المؤمنين، حتى تكون عنواناً جاذباً للآخرين، واعلم أن هذا الدين العظيم هو دين البشرية جميعاً، فلا تضيق على نفسك حتى تكرهها، ولا تظن الإسلام دينا ثقيلا في النفس، واعلم ونحن في زمن الإعلام المتعدد الأنواع والمصادر أن عليك حملا ثقيلا وحقيقيا، وهو أن تبين للناس بالصوت والصورة أن الإسلام دين المحبة، والسماحة، والبشاشة، والسلام والمودة. ولنفهم جميعاً حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) رواه مسلم. وأيضاً فمن أخلاقيات الإسلام الرحمة، وهي نوع من أنواع البشاشة، والسماحة، وطلاقة الوجه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قبّل النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال: الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يُرحم) متفق عليه. وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اتقوا النار لو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة) متفق عليه. إذن، كيف بالله من يقرأ كتاب الله - عز وجل - ويفهم معانيه، ويقرأ أحاديث رسول الله، ويفهم معانيها، ويرى أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخلاقيات أصحابه ثم يأتي بعد ذلك بوجه عابس متجهم ينظر بقسوة، ويتعامل بمثلها؟.. هل نقول بعد ذلك إلا والله انك لا تمثل أخلاق الإسلام، ولا أهدافه، ولا مراميه؟، وما حالنا اليوم في هذا الزمن إلا نتاج من ذلك، أو صورة منه. مرتبة حسن الخلق من جانبه يقول د. عبدالله بن محمد الزهراني - عميد كلية المعلمين بحائل وإمام جامع بني سار الكبير بالباحة -: الحمد لله الذي ألّف بين قلوب المؤمنين القائل: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، القائل عندما سئل عليه الصلاة والسلام أي الناس أفضل؟ قال: (كل مخموم القلب صدوق اللسان)، قالوا صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: (هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد).. ولا شك أن سلامة الصدر من صفات أهل الجنة، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ}، ومن مستلزمات سلامة الصدر أن يتمتع الإنسان بطلاقة الوجه والبُعد عن العبوس والتقطيب في وجوه الآخرين، فقد بنى الإسلام العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع على أساس متين وقاعدة مثلى تتجلى في قوله الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وتظهر أصول هذه الأخوة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا.. إلخ الحديث)، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحداً بما يكره في وجهه، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، بل كان يقابل الكل، الصديق والقريب والصاحب والعدو بوجه طليق حتى يظن كل أحد أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه: (ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم)، وقد ورد ان ابن عمر رضي الله عنهما كان ينشد: بني إن البر شيء هين وجه طليق وكلام لين ويضيف د. الزهراني: جاءت توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤكد على طلاقة الوجه والبُعد عن العبوس فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، بل يجعل ذلك صدقة كما قال عليه الصلاة والسلام: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، ويقول صلى الله عليه وسلم (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، فمن سمات المؤمن أن يكون عفيف اللسان بشوش الوجه طيب الكلام يدفع بالتي هي أحسن عملاً بقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}ولهذه السمات الطيبة آثارها الايجابية على صحته النفسية فيعيش هادئ البال محبوباً من أوساط مجتمعه، يتمتع بالسمعة الطيبة ويصل بإذن الله إلى أعلى المراتب ولله در الشاعر القائل: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب يضاف لذلك أن البُعد عن التجهم والعبوس من علامات حسن التربية والتي توصل صاحبها إلى مرتبة حسن الخلق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. طلاقة الوجه أما الشيخ سعيد بن هليل العمر - مدير المعهد العلمي بحائل - فيقول: إن الشرع يأمر بطلاقة الوجه، والبشر في وجوه الناس، إلا ما دعت له الضرورة، قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (44)سورة طه، وهذا لا يكون إلا مع طلاقة الوجه.. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) رواه مسلم. وجاءت الشريعة باللين، والسماحة، والرفق والبشاشة، أما التجهم والعبوس، فهو أمر عارض وله أسباب، ومعناه اللغوي: تقبض الوجه عن كراهية، أو ضيق صدر، وقال البخاري في صحيحه، باب التفسير: (عبس وتولى): (كلح وأعرض). والتجهم والعبوس مترادفان، قال الشاعر العربي:
يدير رحاها باسماً متهللاً برأد ضحاها عابساً متجهماً |
وقد جاء ذكر العبوس في كتاب الله تعالى، قال سبحانه: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } ( 22-23)سورة المدثر. وروى الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنزل (عبس وتولى) في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: (أترى بما تقول بأساً)، فيقال: لا، ففي هذ أنزل. وروى أبو يعلى في مسنده ج6- ص 306 عن أنس بن مالك قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن ثماني سنين، فأخذت أمي بيدي، فانطلقت بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنه لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا قد أتحفك بتحفة، وإني لا أقدر على ما أتحفك به، إلا ابني هذا، فخذه فليخدمك ما بدا لك، فخدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما ضربني ضربة، ولا سبني سبة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي. وأصله في الصحيحين دون: ولا عبس في وجهي. وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} (10)سورة الإنسان، قال: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل. وقد اشتمل هذا التوجيه الرباني على مسائل منها: معاتبة الله لأنبيائه عتاباً لطيفاً، تفسير ابن سعدي 7 - 567، ومنها: محبة الله - عز وجل- لمعالي الأخلاق، وكراهته لسيئها، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، صحيح مسلم ج1-ص 535، ومنها سير الدعاة إلى الله، على وفق هذا التوجيه الرباني في معاملة الخلق، ومنها أن الفقر والغنى لا يقاس بهما الخلق، ومنها أن دعوة المقبل أوجب من دعوة المعرض، ومنها القاعدة المشهورة (لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة)، ومنها بسط الوجه وطلاقته عند دعوة الناس، ومنها أن المصلحة المتحققة في البِشْر لا تساوي بحال المصلحة المتوهمة في العبوس، كما قيل:
ألق بالبشر من لقيت من الناس جميعاً ولاقهم بالطلاقة ودع التيه والعبوس عن الناس فإن العبوس رأس الحماقة |
ومنها أن طلاقة الوجه تبعث على السرور، كما تعود على المقابَل بالسعادة. ويضيف الشيخ العمر: والعبوس والتجهم يبعثان على الأسى، ويعودان عليه بالحسرة، والمؤمن مأمور بجلب الخير للناس، ودفع الشر عنهم، ومنها أن أكمل الناس خلقاً أكملهم طلاقة وبشراً، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل الناس خلقاً، فكان - عليه الصلاة والسلام - يلقى أصحابه بوجهه المستبشر، وكان يتهلل وجهه. فعلى المسلم بصفة عامة، وطالب العلم بصفة خاصة، أن يلقى الناس بوجهه الطليق، ولسانه اللبق، قيل لابن عيينة: المزاح سبة، قال: بل سنة، ولكن من يحسنه، وإنما كان يمزح عليه الصلاة والسلام، لأن الناس مأمورون بالتأسي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة، ولزم العبوس، والقطوب، لأخذ الناس من أنفسهم بذلك، على ما في الغريزة من الشفقة والعناء، فالواجب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، امتثالاً لقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(21) سورة الأحزاب. ويستطرد الشيخ سعيد العمر: ويشرع العبوس أحياناً في وجوه أهل البدع، ومن لا ينزجر إلا بذلك، أو عند الغضب إذا انتهكت محارم الله، فلقد لحظ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حسان بن ثابت عندما رآه ينشد في المسجد. متفق عليه. وتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم على من قال: أفلا نجامعهن يا رسول الله - يعني الحيض -. رواه مسلم. ولما سأله أعرابي عن ضالة الإبل، تمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر) متفق عليه. وتمعر وجهه - عليه الصلاة والسلام - لما رأى العرنيين، الحفاة العراة الذين أصابتهم الفاقة. رواه مسلم. وكذلك في وجه ذي الخويصرة التميمي، أقنوم الخوارج. فإذا كان العبوس والتجهم في وجه المبتدع، والفاسق، ومرتكب المعصية، ونحوهم يؤدي إلى مقصد شرعي، فلا بأس، كالهجر إذا أدى إلى غرض صحيح، ولكنه من باب التعزير الذي يستعمل عند وجود موجبه، وينتفي عند عدمه. الوجه الطلق ويقول الداعية الشيخ عبدالله بن محمد بن غميجان - إمام مسجد السيدة عائشة رضي الله عنها بالرياض -: تظل النظرة هي أول وأسرع وسائل الاتصال الإنساني، وهي أوسع النوافذ لتسجيل الانطباع الأول في نفوس المتلاقين.. ولا شك أن قسمات الوجه وتعابيره من أهم الوسائل التي تبعث في النفس المشاعر الإيجابية أو السلبية بحسب حسن تلك التعابير أو قبحها. وديننا الإسلامي يعطي للبِشْر والطلاقة وما يبعث في النفوس مشاعر المحبة والمودة مساحة واسعة من الاهتمام بها والعناية بكل ما يعزز في النفس الشعور بالاخوة الإيمانية؛ إذ هي من أعظم مقومات الاجتماع والائتلاف وموانع الافتراق والاختلاف، وهذا ولا شك غاية عظمى يدركها كل عاقل، ولتحقيقها وسائل كثيرة من أهمها وأولاها وأيسرها وأخفها البشاشة والبشر وطلاقة الوجه، إذ لا يمكن لأحد أن يتصور أن يتلاقى أثنان متآخيان بوجوه عابسة مكفهرة، بل يتلاقيان بالابتسامة العريضة والعبارات الترحيبية الدافئة المعبرة عن عمق المودة والمحبة، ولذلك جاءت التوجيهات النبوية الكريمة حافزة وحاثة على التخلق بهذا الخلق الجميل بالمفهوم والمنطوق، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني منزلاً أحاسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون). ولا شك أن هذا متضمن مدح إشراقة الوجه، إذ هي من عوامل جلب الألفة والمودة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق). والوجه الطلق هو المتهلل بالبِشْر بما هو أعم من مجرد الابتسامة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة). وإن مما يحمل الآخر على فلِّ حجاجه وفض ثغره بالابتسامة التحية الجميلة (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)؛ إذ هي من أعظم مفاتيح القلوب ومقومات الترابط والتآخي والتصافي وأقوى وسائل التأثير. ويضيف الشيخ ابن غميجان: ومع ما في الالتزام بهذه الأخلاق الفاضلة والخصال الكريمة من نفع للمتلقين، ففيها فوائد ومنافع جمّة للإنسان نفسه منها: - الأجر، فابتسامته صدقة يُثاب عليها، فكم من الحسنات يمكن أن نكسبها بلا تعب ولا نصب، وكيف يطيب لعاقل أن يضيع هذا الأجر العظيم تهاوناً أو هوى إنه بذلك يضر بنفسه لا بغيره. - الراحة النفسية والطمأنينة القلبية التي يجدها الإنسان البشوش مشرق الوجه؛ إذ إن التقطيب والعبوس يبعث في النفس مشاعر الضيق والحنق والحقد والغل والتوتر والقلق. - الصحة البدنية: فقد ثبت طبياً أن للأمراض الجسدية علاقة مباشرة وسببية بالمزاج والحالة النفسية؛ إذ أن الضيق والضجر والتوتر العصبي وحدّة الطبع تتسبب في إفراز مادتي الأدرينالين والكورتيزول اللتين تحفزان الجهاز العصبي والعضلي وتبقيه متيقظاً مشدوداً مما يستنزف طاقة الجسد ويضعف من قدراته الدفاعية مما يمكن الامراض منه.. وكم رأينا من مآسٍ تحدث في البيوت ونساء يُطلقن أو يُضربن وأطفال يُؤذون بسبب أمزجة متعكرة وأخلاق قاسية ومعاملة سيئة يمارسها البعض في بيته. - حب الآخرين له وتيسير أموره وقضاء حوائجه؛ ذلك أن الإنسان البشوش الرفيق السمح طيب القول يمتلك القلوب بخلقه وحسن تعامله مما يحبب الآخرين إليه ويدفعهم إلى إعانته على شؤونه وتيسير أموره والوقوف معه في حاجته رغبة وحباً. - ارتفاع مستوى الإنتاجية لدى الإنسان الهادئ الخلوق؛ لأنه استفاد من كافة طاقاته النفسية والفكرية والجسدية في إنجاز عمله والوصول إلى هدفه طالباً أو مدرساً أو مديراً أو تاجراً أو مهندساً أو طبيباً.. الخ، بل وتحقيق أعلى معدلات الإتقان والتميز لصفاء ذهنه وسلامة قلبه من الغش والخداع. - طول عمره والاحتفاظ ببهاء وجهه واشراقته، وهذا ثابت طبياً ومشاهد حسياً.. فكم من أناسٍ تراهم بلغوا من السنّ عتياً ولا زالت مسحة الضياء والجمال في وجوههم لاهتمامهم بصحتهم النفسية، وآخرون أظلمت وجوههم وظهرت عليها التجاعيد وهم في ريعان الشباب لإهمالهم الصحة النفسية وممارستهم للفظاظة والتجهم والعبوس وسوء التعامل، مما جعل أجسادهم يأكل بعضها بعضاً. - امتلاك القدرة على فَهْم الأشياء والإصابة فيها والسلامة من الخطأ في الفعل والخطأ في القول. والحلم والأناة والرفق من أعظم بواعث البِشْر وطلاقة الوجه.. والحليم المتأني يتمكن من فَهْم ما يسمع وتقدير حجم المشكلة التي تقع ومواجهتها بالحكمة والعدل والتثبت.. أما النزق الصلف فتدفعه نفسه إلى العجلة في الحُكْم، والحماقة في التصرف، والظلم في المعاملة، ويفقد حسن التصرف في المواقف. ولو لم يكن في طلاقة الوجه وحسن المعاملة إلا أنه مما يحبه الله ويرضاه، وأنه من صفات الكمال والمروءة والنبل والكرم وجمال الباطن لكفى حافزا لكل عاقل لتربية نفسه عليها وإلزامها بها.. وهذا بحمد الله أمر ممكن ميسور إذا وجدت الرغبة وتبعها العمل وتدريب النفس على هذا الخلق الجميل، فهي لباقة تكتسب بالتربية والممارسة والاستمرار وتحديث النفس بجمالها. شمول الصدقة أما الداعية الشيخ عبدالله بن سليمان الخضيري فيقول: دعت السُّنّة المشرفة إلى طلاقة الوجه والترويح عن النفس، وطيب الكلام والبشرى، وجاء ذلك في أحاديث عدة: فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، ونتعلم من ذلك: استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء؛ لإيجاد المودة والمحبة بين المؤمنين، قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}(88) سورة الحجر، وأن إلانة الكلام للمخاطب في غير إثم أو شر صدقة، وأن التبسم في وجه المسلم صدقة أيضاً، وهذا يدل على شمول الصدقة لأنواع الخير بما فيها التبسم والبشرى وطلاقة الوجه، وإن كانت الصدقة تغلب في المال. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم من الأيام عابس الوجه، ولا مقطب الجبين، مكفهر الوجه، بل كان عليه الصلاة والسلام طلق الوجه مبتسماً، وقد حضّ صلى الله عليه وسلم على ترويح القلوب والنفوس، فروي عنه أنه قال: (روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلّت عميت)، وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مزاحاً راقياً، ولكنه لا يقول إلا الحق، ولهذا نجد الفكاهة المروية عنه كلها من الكناية أو التورية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأمزح، ولا أقول إلا الحق). وقد اشتهر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكاهات رقيقة جميلة رائعة: فقد جاءت إليه امرأة فقالت: يا رسول الله احملني على بعير، فقال: (بل نحملك على ولد ناقة) فقالت: ما أصنع به؟، إنه لا يحملني!! فقال صلى الله عليه وسلم: (ما من بعير إلا هو ولد الناقة). وكان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التسامح والتصالح فيقول: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصيم).. فما بال أقوام تكون وجوههم عابسة وهذه خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فأين هم من هذا الخُلُق الكريم وهو قدوتنا التي يجب أن نقتدي بها؟.
|