أرتقب من حولي وأن على حالي مسمرة على كرسي جديد لم أعهده في هذا المكان من قبل أقبع في هذا المكان والساعة تشير إلى الثانية ظهرا!! وسط خلية من النحل والجميع في حالة استنفار في الجهة اليمنى من المبنى!! والغريب في الأمر أن النداءات تعلو في كل مكان تطلب الطبيب فريد. الحالة طارئة والأمر في غاية الأهمية ولكن تردد (dr.faredd emergency) . ينطقها المنادي باللغة الإنجليزية على الرغم من أن الطبيب عربي!! علامات تعجبية!! وإجابة أكثر عجباً منها أجبتها على نفسي كما سألتها في الحين ذاته، آه إنها الحضارة والرقي!! وكأن العبارة لن تصل إلى الطبيب إلا بالإنكليزية !! يالها من تداعيات الحضارة. عامل النظافة ببزته الزرقاء يجتهد بتنظيف الأرض التي هي مصدر رزقه يتنقل هنا وهناك وممسحته تتداخل بين الأرجل وهو شارد الذهن يحمل على كتفيه أحلاماً وردية لمستقبله الزاهر لتصل به حدود القارة الهندية. والحسابات والحوالات بين شاردة وواردة تتوارد على عقله الصغير بصغر تفكيره الذي قاده إلى أن يتمنى في تلك اللحظة أن يكون طبيباً في هذا المستشفى بدلاً من ذلك السمين البدين القابع خلف مكتب عيادته يرتشف كوباً من الشاي!! ليستفيق على واقعه على صوت امرأة تزجره وتلوح بيديها الناصعتين بقولها (ألا ترى؟؟) فيجيبها وقد حرك رأسه بحركات اهتزازية معتادة يعبر فيها عن أسفه، ليتم عمله على أكمل وجه وقد زاد الأرض لمعاناً على لمعانها وبريقاً يخطف الأبصار، ورائحة المطهرات تلف المكان ليبدو كل شيء نظيفاً وبراقاً فلا أجد للسيجار منفذا لصدورنا لأن اللافتات في كل مكان تحذر من التدخين. الجميع من حولي يتململ من طول الانتظار!! رجل يطرق باب العيادة يعتقد أنه بتلك الطرقات يستحث من بالداخل على العجلة وآخر يستند على الجدار المقابل ينتظر وفي يده ورقة صغيرة وصورة لأشعة سوداء يحملق فيها والتي أجزم أنه لم يفقه منها شيئاً إلا الرئتين وخطوط أضلع القفص الصدري وقد عرفناها من مادة العلوم في المرحلة الابتدائية!! كنت في تلك اللحظات أتأمل من حولي لأراهم كل في شأن. وقد تأملت في قسمات رجل كان قريبا مني لأراه متأهباً للمشاجرة وامرأة تحمل على كتفها طفلاً يصرخ!! الوجوه متجهمة ولا أغالي إذا قلت نادراً ما نجد المبتسم في هذا المقام ربما لأن الجميع للتو حضر من الدوام الرسمي الحكومي والكل مرهق ومتعب ليفاجأ بالكم الهائل من المرضى في ساحات الانتظار وفي ذهنه ألف سؤال وسؤال متى أعود للمنزل وهل سأتناول الغداء وهل لدي متسع من الوقت للنوم. وهلم جرا من الأسئلة المتلاحقة وبينما أنا كذلك وفي اللحظة وقعت عيناي على شاب كان يتفحص هاتفه النقال ليقطع به الوقت الثقيل، وكان بجواره شاب آخر قد رفع قدميه على حافة الكرسي وقد خلع نعليه وبعد فترة من الملل أسدل ساقيه مرة أخرى ليعيد نعليه إلى قدميه ليقرر في نهاية أمره أنه وقف منتصبا ينفض من ثيابه ما علق بها من ذرات الهواء!! كان بجواره رجل عجوز كان يحمل بين أصابعه مسبحة يسبح بها ويهلل بصوت مرتفع. مناظر مختلفة والجميع يرتقب!! وفجأة وبدون سابق إنذار تطل علينا الأناقة بعينها. شاب ممشوق القوام قد شمر عن ساعديه وقد صب علبة (الجل) أو المثبت على شعره!! يخفي عينيه بنظارة شمسية!! يا للعجب!! نظارة شمسية وفي داخل المبنى؟؟ ربما.!! ربما هي الموضة التي أصبحت شماعة نعلق عليها كل تصرف غريب وعجيب!! لأحسن الظن في النهاية فلربما تكون هي الأنوار الساطعة الخاطفة. المهم أنني عرفته منذ الوهلة الأولى من لباسه المميز بحراسة الأمن داخل المستشفى. كانت عيناه تكادان تقفزان من خلف النظارة التي كان يرتديها، ينظر خلسة ويلتقت يمنة ويسرة يتقدم حيناً ويتأخر أحيانا وقد احتار بيديه يدخلها مرة في جيب بنطاله ويخرجها مرة أخرى. أيقنت بعدها أن في المر شيئاً سيئاً على أثره استدرت برأسي للجهة الأخرى لأجد مبتغاه فكن غزلاناً ثلاثاً من المتدربات من كلية التمريض. يمشين بخطوات مترددة وقد وصلن إلى عيادة موصدة الباب طرقن مرة وأخرى ولا مجيب بطرقات خفيفة بخفة حركتهن بين العيادات اغتنم البطل الهمام تلك الفرصة ليتقدم بعرض خدماته!! قالت إحداهن متحدثة للأخريات بعد مشاورة قصيرة بينهن لنذهب بسرعة إلى العيادة الثانية محاولة منهن الفكاك من ملاحقات ذلك المغفل..!! وكأنهن في حالة مطاردة بين الأسد والغزلان!! في تلك اللحظة أوقفه رجل ليسأله أين عيادة الصدر؟؟ أجابه إجابه سريعة فقط للخلاص منه دون أن يعي ما يقول، أشار بيده هناك، ليردف الرجل أين هناك؟؟ في نهاية الممر؟؟ وهو يبتسم أجابه الحارس نعم هناك.. قالها وهو في عجلة من أمره لعله يظفر بصيده!! ابتسمت حقيقة لما شاهدت ابتسامة سخرية لأنني وعلى حسب علمي كنت على علم أن نهاية الممر لا توجد إلا عيادة التجميل وليست الصدر كما أخبر!! وبالمناسبة هذه العيادة دائماً مغلقة لا أدري ما السبب ألا أنها بالمجان لا نجد لها صدى ونشك في كفاءتها!!؟؟ على الرغم من كثرة صيحات التجميل فهي تنادي الجميع وفي كل حين وللجنسين معاً. وحتى لا أكون كاذبة قد شاهدت منذ فترة وجيزة صبياً يتجه إليها وعند اقترابه منها التف بحركة دوران ليدخل إلى العيادة المجاورة للأنف والأذن فهي ما كان يريد. وأنا على تلك الحال أتأمل فيمن حولي وكأنهم شغلي الشاغل، مرت من أمامي خادمة تحث العربة على المسير وكانت تقل فتى ساقه ممدودة تلفها الجبيرة ومعها سيدتها. يا ترى من المسؤول عن مثل تلك الإصابات انشغال الأب أم إهمال الأم؟؟ لا ربما هي الأقدار. تمتمت بيني وبين نفسي بكلمات خفية خالطها صوت يأتي من البوابة الخارجية وقد فتحت على مصراعيها!! شد انتباه المتواجدين الجمهور الذي حضر بصحبه رجل عجوز صحراوي المولد والمنشأ يتوكأ على عكاز وقد لف رأسه بعمامة أحفاده وأولاده من حوله يتحلقونه، أصغرهم لا يقل عن السادسة عشرة والشيء الجميل في ذلك أن (الطاقية) كانت ما تميز غلمانهم والشماغ المبالغ في طوله عند شبانهم حتى وصل طوله نصف قامة مرتديه دخلت الجماعة على عيادة دون طرق الباب مما أثار غضب الممرضة ليتجهم وجهها غضباً دفعت الجميع للخارج أغلقت الباب في الوجوه، وأنا أرتقب ومن معي يرتقبون أيضاً في مشهد مشرئب بسذاجة الصحراء. التي لم تعِ اللهجة الفلبينية الحادة!! المهم أنهم عرفوا أنهم ارتكبوا ذنبا دون قصد التجأوا بعد ذلك إلى عيادة أخرى كانت بالجوار لا أخفي عليكم يا سادة فقد كنت أتساءل أي عيادة هم يريدون؟؟ قطع تساؤلي سؤال امرأة كانت أمامي تسأل امرأة بجوارها أين الطبيب؟ منذ كم وأنت هنا؟ كم رقم البطاقة معك؟ وانهالت بكم كبير من الأسئلة المتلاحقة لتختمه بسؤال بعد أن عرضت شكايتها أنها في عجلة من أمرها لتعرض عليها المبادلة بالأرقام!! يالها من ساذجة، هل هناك من يريد البقاء في هذا المكان بعد كل هذا الانتظار؟؟!! هاتفها النقال كان يلح بالرنين ويلح، أخرجته من حقيبتها ولاذت في زاوية من الزوايا وهي تجيب على المتصل بقولها: (أخبرتك أن الطبيب لم يحضر بعد وأنني أنتظر أكثر من ساعة والحر شديد وأنا عطشى ولم أتناول الطعام من أجل التحاليل).. وهلم جرا الصوت كان عالياً لدرجة أن شكايتها وصلت للجميع!! عجوز بجواري كانت تتمتم (لله المشتكى)!! (والشكوى لله).. أخيراً طل علينا الهلال بنوره وكأنها حمامة من حمامات السلام البيض تعلو محياها ابتسامة صفراء لتعتذر بلهجة عربية مكسرة لأفهم كما فهم غيري أن الطبيب يعتذر اليوم ولن يحضر لأمر طارئ!! كفانا الله وإياكم شر الطوارئ السيئة. بعدها تنفست الصعداء لأجر خطاي بخيبة أمل بعد يوم شاق مليء بالمشادات بدءاً بمديرة المدرسة التي أراقت مياه وجوهنا بتعنتها بألا نخرج إلا بنهاية الدوام الرسمي وكأننا نطلبها الحياة بما فيها وبين لحظة انتظار دامت أكثر من ساعتين لأخرج بمقال تأملت فيه من حولي في ساعة انتظار مكثتها داخل أروقة المستشفى.
|