* الجزيرة - خاص: **** جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. **** الافتراء.. هو اختلاق الأكاذيب وترويجها، ومع التطور الهائل لوسائل الإعلام والاتصال أصبحت الافتراءات بضاعة تعرض في كثير من القنوات التلفزيونية ومواقع الانترنت، بهدف الإخلال بأمن المجتمعات، ونخر العلاقات الاجتماعية بين أبناء الشعوب، بل وزعزعة الثقة في ولاة الأمور والعلماء. والافتراء ليس سلوكا حديثا، فقد أطلق المشركون افتراءاتهم على الرسول- صلى الله عليه وسلم- فقالوا ساحر أو شاعر، وأن القرآن لم ينزل عليه، فوعدهم الله بأشد العقاب في الآخرة، وعدم الفلاح في الدنيا.. وكثير من أصحاب المصالح والهوى تجرأوا فافتروا على الله ورسوله ففسروا الآيات والأحاديث بما يحقق مصالحهم ويتفق مع أهوائهم، واتسعت دائرة هذا السلوك المشين لتهدد تماسك المجتمعات الإسلامية بأسرها، دون وعي بخطورته أو موقف الاسلام الحاسم في ردع المفترين.. فما هي صور الافتراء وأشكاله والآثار المترتبة عليه، وهل يختلف جزاء المفتري باختلاف ما يفتريه، وكيف يمكن التصدي لهذا السلوك المحرم؟ *** في البداية يقول الاستاذ الدكتور عبدالعزيز بن مبروك الأحمدي عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: لاشك أننا نشعر في زمن كثرت فيه الأمراض الجسدية والنفسية، وصعب علاجها لتنوعها وعدم معرفة أسبابها، والأمراض البدنية قد يتوصل إلى علاجها لكن تبقى المشكلة في الأمراض التي تصيب الاخلاق التي من أشدها فتكاً بالأمة وضرراً على تقدمها ورقيها أمراض اللسان، ومن أعظمها جرما وأكثرها انتشاراً مرض الافتراء، وتساهل كثير من ضعفاء الإيمان والنفوس في شأنه فكثر الافتراء على الله ورسوله- صلى الله عليه عليه وسلم - وعلى ولاة الأمر وعلى عموم المسلمين ساعد على ذلك تقدم الوسائل الحديثة المعينة عليه من قنوات وصحف ومجلات وإذاعة واتصالات. والافتراء في اللغة هو: مصدر (افترى) الشيء أي اختلقه، وصنعه وأصل الكلمة من (فرى) الشيء إذا قطعه وشقه وافتراه، أي اختلقه قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}أي اختلقه والفرية: الكذب قال تعالى: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}قيل أي مصنوعا مختلقا، وفي الاصطلاح تطلق الفرية على القذف، وعلى الإفك والبهتان والباطل الذي لا أساس له، قال ابن بطال: الفرية: الكذبة العظيمة التي يتعجب منها. والمراد بالافتراء: اختلاق الكذب واختراعه من جهة الشخص دون أن يكون له اساس من الصحة وهو التهمة الباطلة الكاذبة. أما حكمه: فالافتراء محرم في الشريعة الإسلامية بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة بل هو من كبائر الذنوب ومن الموبقات والمهلكات، يقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}، وفي السنة الأحاديث كثيرة في ذلك منها قوله- صلى الله عليه وسلم-: (إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار)، وقد أجمع العلماء كافة على تحريمه والتحذير منه لما له من آثار سيئة على الفرد والمجتمع. تفكك الأمم وعن الفرق بين الافتراء والكذب وجزاء المفتري يقول د. الأحمدي: يعبر عن الافتراء بالكذب والإفك والبهتان، وكل ما يفيد القول على غير الحقيقة، وقد يجمع بين الكذب والافتراء فيقال: افترى كذباً: والافتراء كذب وزيادة، لأن الكذب هو الإخبار خلاف الواقع، وقد يغتفر في بعض المواقع كموضع الإصلاح ونحوه، أما الافتراء هو اختلاق ما لم يكن أساساً فضلا أن يكون له حال من الصحة، ولا يكون إلا مذموماً أبداً، أما جزاء المفتري في الآخرة فيختلف باختلاف مواطنه ومراتبه، ومنه الفرية على الله أو على رسوله- صلى الله عليه وسلم- أو على الأئمة والعلماء أو على ولاة الأمر أو على عموم المسلمين، وقد عد الله الكذب عليه من الكبائر حتى قال في حق رسوله- صلى الله عليه وسلم-: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} سورة الحاقة ِ، أما في حق الرسول- صلى الله عليه وسلم- فهو جرم عظيم موصل إلى نار جهنم، حيث قال- صلى الله عليه وسلم-: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، وكذا القول بغير علم في شريعة الله لأن الأحكام لا تعرف إلا عن الله فمن افترى حكماً على الشريعة فقد أساء وارتكب ذنباً عظيماً، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}. أما الافتراء على الأئمة والعلماء فلا أقل من الكذب على النبي- صلى الله عليه وسلم- لأنهم ورثة الأنبياء وكذلك الافتراء على ولاة الأمر والنيل منهم فهو جرم عظيم لا يقل شأنا عن الافتراء على الله ورسوله، أما الافتراء على المحصنات وقذفهن فإن صاحبه يستحق الحد ثمانين جلدة ويفسق وترد شهادته ويعد مرتكبا كبيرة من كبائر الذنوب التي لا تغفر إلا بتوبة نصوح، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. ويضيف د. الأحمدي: والافتراء على عموم المسلمين بلاشك له أثر بالغ في تفكك الأمم وظهورالعصيان في المجتمع، لأن الافتراء يتعدى إلى غيره، وهو ايضا معصية، والمعاصي لها تأثير على المجتمع من نواح كثيرة منها: عدم استجابة الدعاء، وحبس المطر، وتعرض المجتمع لغضب الله إذا لم يوجد من ينكر هذه المعصية الظاهرة، كما أنه يؤدي إلى العداوة والشحناء بين أفراد المجتمع، ويرفع ثقة الناس بعضهم ببعض، ويقضي على أفضل خصلة في الاخلاق وهي الصدق الذي هو أفضل طرق الخير، لذا أرشد الإسلام إلى كيفية التعامل مع المفترين، بعدة طرق منها: تأديبه المفتري في موضع القذف {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، وتنبيه المجتمع بحال المفتري بالإخبار عن فسقه {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، ورد شهادته {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}، والتثبت من أخبارهم {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}، والحذر مما يخبرون به وعدم تلقيه بالألسن وحسن الظن بما يخبرون عنه {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}، ثم النصح والإرشاد لمن ابتلي بهذا المرض وبيان عظم جرمه وخطره على صاحبه في الدنيا والآخرة، وتبصير الناس بخطر هؤلاء المفترين والتحذير منهم. ضعف الوازع الديني أما فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد رئيس محاكم منطقة تبوك فيقول: نهى الإسلام عن الكذب بكل أشكاله وأنواعه، وأعظم انواع الكذب وأخطرها الافتراء والافتئات على الآخرين والتعرض لهم في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم والتشهير بهم، ولقد شنع الله في كتابه بالافتراء لشدة خطورته على الأمة، قال تعالى: {فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وقال تعالى: في سورة النساء: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا}، وقال تعالى في سورة العنكبوت: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}. وجاء الوعيد الشديد في سنة النبي- صلى الله عليه وسلم- بمن يفتري على إخوانه وأخواته ويلحق بهم الأذى بكل وسيلة من الوسائل قال- عليه الصلاة والسلام-: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وقال: (إن أربى الربا استحلال عرض أخيك)، وأن الافتراء أشد جرما من الغيبة التي بين النبي- صلى الله عليه وسلم- حكمها بقوله: (هي ذكرك أخاك بما يكره) لأن الافتراء يعني إلصاق التهمة ببريء وتعد سافر بغير وجه حق، وهو أشد أنواع الظلم وقد حذر الله من الظلم كما في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا). ويضيف الشيخ الحميد: وللأسف فإن مما استجد في الآونة الأخيرة الاستغلال السيئ لوسائل الاتصال سواء عبر الفضائيات أو عبر مواقع الانترنت، فنجد أن شخصاً ما، له موقف من شخص آخر، وحتى يتشفى منه يلجأ إلى الافتراء عليه بغير وجه حق، بل يلصق به قصصاً من نسج الخيال، وكل ذلك من باب الافتراء والتعدي والعدوان، ونسي هذا وأمثاله عقاب الله، ونسي يوم الحساب يوم يقف بين يدي الله، وينصب الميزان يوم العرض الأكبر على الله، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. والمتأمل لواقع المجتمع اليوم مع الأسف الشديد وبسبب ضعف الوازع الديني وبسبب بعد الناس عن أخلاق الإسلام يرى كثرة الافتراء وكثرة التعدي على ذمم الناس وأعراضهم مما وجد خللاً اجتماعياً، فاختلط الحق بالباطل وكثر الكذب وكثرت المواقع الساقطة في الانترنت التي أصبح يدخل فيها كل مغرض وكل حاقد وكل حاسد ولا رادع. وقد حدد العلماء أنواعاً من الافتراء وهي تدخل في باب الغيبة جاء في كتاب فتح الباري في باب قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}، قال الشارح قال النووي ذكر المرء بما يكره سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه او دنياه أو نفسه أو خَلقْهِ أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو عدا ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ إو الإشارة أو اللمز، وخلاصة القول: إن الافتراء مسلك مشين وخلق سافل وصاحبه وأعوانه ومن يرضى بفعله كل ذلك معرض لنفسه بالإثم وعقاب الله في الدنيا والآخرة. العذاب والخسارة ويقول د. عبدالحميد بن عبدالرحمن السحيباني عضو هيئة التدريس بقسم العلوم الشرعية بكلية الملك فهد الأمنية: كلمة الافتراء في أصلها اللغوي مأخوذة من الفري وهو قطع الجلد للخرز والإصلاح، والإفراء كما يقول الراغب في مفرداته للإفساد، والافتراء يأتي كثيرا مراداً به هذا المعنى أي الإفساد، قال سبحانه وتعالى: {فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وقال: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم}، وقال جل وعلا: {قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ}، وقال: {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ}، واستعمالهم في الإفساد أشير به إلى الكذب العظيم والشرك والظلم قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، {مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}. وعندما يتأمل المسلم في الحال التي صار إليها أولئك المفترون يجد أنها العذاب والخسارة وسوء المصير، يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيحاسبهم على كل شيء عملوه مهما كان في نظرهم صغيراً أو حقيراً، يقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}. ويضيف د. السحيباني: ووقائع التاريخ تشير إلى أن العبد عندما يفتري على امرىء في الحياة الدنيا فإن ذلك الافتراء ربما كان سبباً في دماره وهلاكه في دنياه قبل آخرته، كما جاء ذلك في قصة الرجل الذي افترى الكذب على سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عندما سئل عنه فقال: أما إذ نشدتمونا بالله، فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية فقال سعد: اللهم إن كان كاذباً فأعم بصره وأطل عمره، وعرضه للفتن، قال الراوي عبدالملك بن عمير: فأنا رأيته يتعرض للإماء في السِّكك، فإذا سئل كيف أنت؟ يقول: كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. واليوم نرى نماذج من افتراء أمم ودول على دول أخرى، وكيف عاقب الله - عز وجل - تلك الدول المفترية؟ وهو درس يجب أن يستوعبه الأفراد والأمم، وتلك سنة الله في الظالمين المفترين ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. الشجرة الخبيثة من جانبه يقول الشيخ عبدالعزيز بن عبدالكريم المسعر رئيس مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطبرجل: إن من النعم التي أنعم الله بها على عباده نعمة البيان، وهي من خصوصيات الإنسان، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، ويأتي البيان بمعنى الإبانة أو التبيين، والبيان عند العلماء يأتي على ضربين بيان بالكلام وبيان بالكتابة، ومما لاشك فيه ان مسؤولية الكلمة عظيمة، وذلك لعظم خطرها وعظم شأنها في الخير أو الشر، والافتراء فرع من فروع الشجرة الخبيثة التي ذكرها الله مثالاً للكلمة الخبيثة في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ}. والافتراء بمعنى الكذب والبهتان يأتي على قسمين: القسم الأول: افتراء على الله ورسوله، وهو من أعظم وأشد أنواع الافتراء، من ذلك الافتراء على الله جل في علاه بأن له شريكا في عبوديته وهو الخالق سبحانه وتعالى أو أن ينسب له الولد والصاحبة وهو الواحد الأحد الفرد الصمد سبحانه وتعالى، ومن ذلك القول على الله ورسوله بغير علم قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}وقال سبحانه وتعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، أما القسم الثاني فهو افتراء الخلق بعضهم على بعض، فإن رمي الناس بما ليس فيهم من المحرمات الموجبة للعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وإن نجا من عقوبة الدنيا لم ينج من عقوبة الآخرة يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}. وينصح الشيخ المسعر من يفتري على إخوانه بأن يتقي الله في أعراض المسلمين من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-، وأن يجنب نفسه سوء الخاتمة ففي الحديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها)، فقد يكون الافتراء على الخلق سببا للخذلان وسوء الخاتمة والعياذ بالله، أما المفترى عليه فنقول له اصبر على الأذى وانظر وتفكر في حال من سبقك من الأنبياء والصالحين فقد لاقوا أشد مما لا قيت، ثم ارجع باللوم على نفسك وحاسبها فلربما سلط الله عليك هذا المفتري بسبب ذنب أصبته أو ظلمة اقترفتها. ويضيف الشيخ المسعر: وعلى المجتمع المسلم التعاون على البر والتقوى لردع الظالم عن ظلمه والانتصار للمظلوم، فالواجب علينا أن نذب عن أعراض إخواننا المسلمين الذين ما علمنا عنهم إلا خيراً، ففي الحديث: (من ذب عن عرض أخيه ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة)، والله سبحانه وتعالى أعطانا منهجاً شرعياً إذا اعتصمنا به فوتنا الفرصة على كل مفتر وكل معتد أثيم وهي قول الباري سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. أخطر الأسلحة أما الشيخ مسفر بن أحمد المريخ إمام وخطيب جامع الملك فهد بالنصباء بالباحة فيقول: إن الله عز وجل خلق السموات والأرض بالحق، وخلق الخلق ليعبدوه، وأمرهم بأن يقيموا حياتهم على الإيمان الحق الذي قامت عليه السموات والأرض، ولا يكون الإيمان حقا حتى يكون خالصا وصواباً، والافتراء من الكذب الذي يتنافى والإيمان وعدم قبول الحق، ومن أعظم أنواع الافتراء الإشراك بالله عز وجل كما قال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}، وعندما سئل الرسول- صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، وقد حكم سبحانه وتعالى على الذين يفترون على الله الكذب بأنهم ظالمون، قال تعالى: {فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. إن الافتراء واختلاق الشائعات تعتبر من أخطر الأسلحة المدمرة للمجتمعات والاشخاص، فكم أقلق الافتراء من أبرياء، وحطم عظماء وتسبب في جرائم وكم تفكك من صداقات وعلاقات، والمتأمل في الآيات القرآنية التي تتحدث بصراحة ووضوح عن الفرية والافتراء يجدها المسلم بالعشرات حول هذه القضية التي شغلت حيزاً في كتاب الله إلى التشكيك في صريح القرآن الكريم وقالوا كما حكى عز وجل قولهم: {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى}. ويضيف الشيخ المريخ: وقد حذر الله عز وجل المسلمين من سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بآرائهم، وبما اصطلحوا عليه من الاسماء، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}، ويدخل في هذا الافتراء كل من ابتدع بدعة ليس فيها مستند شرعي أو حلل شيئاً مما حرم الله أو حرم شيئاً مما أباح بمجرد رأيه وتشهيه، وقد أخبر عز وجل أن أولئك المفترين لا يفلحون ولا يفوزون ولا يوفقون لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فمتاع قليل، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم. وعندما يوجد الافتراء أياً كان مصدره فإن أعظم مخاطره لبس الحق بالباطل واتباع الهوى وتمكن الشيطان من كثير من الناس، وينبغي على كل مسلم عند سماع الفرية والافتراء أن يقدم حسن الظن ويطلب الدليل والبرهان وألا يتحدث بما سمع، وأن يرد الامر إلى أولي الامر لا يشيعه بين الناس أبداً. اختراع القصة ويقول الاستاذ عمر بن عبدالعزيز السرحان عضو هيئة التدريس بمعهد إمام الدعوة العلمي بالرياض، الافتراء اصطلاحاً هو العظيم من الكذب، وقال الراغب: الافتراء هو اختراع لقصة لا أصل لها، أو زيادة في القصة، أو نقصان يغيران المعنى، أو تحريف بتغيير عبارة، وقد نهى عنه الإسلام وحرمه، وبين أئمته من أهل الكفر والضلال قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، وقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}، وأكبر الظلم افتراء الكذب على الله عز وجل، وعلى النبيين، وعلى الصالحين، قال تعالى: {فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. ولقد توعد الله المفتري في آيات كثيرة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}، وهذا الافتراء لا ينفع المفترين، ولذلك قال الله تعالى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، وقال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، وقد افترى المشركون كثيراً، وشككوا في كتب الله، وقد كذبوا، وخابوا، فكتب الله حق، وليست مفتراة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. كما وردت أحاديث كثيرة في ذم الافتراء والتحذير منه، وبيان الوعيد الشديد للمفترين، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أعظم الناس فرية لرجل هاجى رجلاً فهجا القبيلة بأسرها ورجل انتفى من أبيه وزنى أمه) أي رماها بالزنا، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (إن من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تره، أو يقول على رسول الله- صلى الله عليه وسلم ما لم يقل)، وغيرها من الاحاديث العظيمة التي دلت على خطورة هذا الأمر، وشناعته في دين الإسلام، وما ذلك إلا لأنه يجر إلى ويلات، ومضار كثيرة. ويلخص السرحان أخطار ومضار الافتراء في أنه أعظم من الكذب وأشد خطراً على المجتمع، ووسيلة لدمار صاحبه ومن حوله، وكما أنه جالب لسخط الجبار وطريق إلى النار، ويسقط عدالة صاحبه بين الناس، ويصبح مهيناً ومحتقراً، كما انه دليل ضعف الإيمان، لذا حري بنا أن نتجنب هذه الآفة، وهذا السلوك المشين، الذي ذمه الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم-، وأن نسير جنباً إلى جنب ونتعاون في كل ما فيه الخير والصلاح.
|