|
انت في
|
شخصية فذة وشاعر فحل ورائد من رواد البلاغة في العصر الحديث ذلكم هو (محمد بن عبدالله بن عثيمين) أشهر شعراء الجزيرة العربية - في نظري - في العصر الحديث ولد بن عثيمين عام 1270هـ في قرية السلمية من قرى الخرج من صميم نجد موطن أمه وخؤلته. وكانت حوطة بني تميم بلد آبائه وعمومته ومات والده وهو في المهد صبيا ولم يترك له شيئاً. فتعهدته أمه حتى أجاد القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم. وهكذا نشأ ابن عثيمين نشأة العصاميين الذين ينبتون في مواطن اليتم والبؤس فتعوضهم رعاية الله ما فقدوا من عطف وحنان وأبوة، وسمع الشاعر بالشيخ عبدالله بن محمد الخرجي عالم القرية وقاضيها ورأى الناس يهرعون إلى مجلسه يدعوهم إلى الله ويفقههم في الدين فهداه التوفيق إلى الاتصال به والأخذ عنه. ولما نما إدراكه واكتملت رجولته حببب إليه أن يعيش في الحوطة بين قومه وعشيرته. ولكنه ظل قوي الصلة بشيخه يزوره وينتفع بفضله وقويت لدى الشيخ الخرجي دواعي الرحلة عن نجد فرافقه تلميذه ابن عثيمين في تجواله على شواطئ الخليج العربي وتنقلا بين إماراته حتى نزلا في كنف الشيخ قاسم بن ثاني حاكم قطر وهناك تكشفت للشيخ قاسم مواهب الشاعر ودينه وفضله. فأقبل عليه وأحله محلا كريما مما شجعه على الإقامة لديه أربع سنوات خفت عليه فيها أعباء الحياة وزال عنه كثير من همومها. فقد اختلط بأفراد الأسرة وداخلهم مداخلة قوية تقوم على الإعجاب بروحه وأدبه فنمت هناك شاعريته وأخصب خياله وتفتحت مواهبه ثم أقبل على الأدب وحفظ كثيرا من روائعه وتدرج من الشعر الشعبي إلى الشعر الفصيح وما زال يعالجه حتى سبق كافة معاصريه من شعراء الجزيرة العربية، وعاد الشاعر بعد تلك الفترة إلى وطنه -نجد- ولكنه دأب على الرحلة التي ألفها، وجنى منها الخير مادياً وأدبيا وتوالت أسفاره على شواطئ الخليج العربي متنقلا بين قطر وعمان والبحرين فكثر أصدقاؤه والمعجبون به في تلك الأقطار وتوثقت عرى المحبة بينه وبين آل خليفة حكام البحرين خاصة فكانوا له كآل ثاني حباً وكرماً وردءاً من الملمات ولما نزلت بالشاعر في تجارته (اللؤلؤ والأحجار الكريمة) ضائقة مالية وركبه دين فادح وجد في صديقه الأديب الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة ما أقال عثرته وكشف ظلامته وجازاه الشاعر بمدائح جليلة قال في إحداها:
وها أنت ذا ترى أنه قد ذهب ما أعطوه وبقي ما أعطاهم! صفات الشاعر وأخلاقه: كان ابن عثيمين ربعة من الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير أسمر اللون حاد البصر مكتمل الصحة وكان وقوراً حسن السمت دائب الجد وقد يتندر ولكن مع قله يصطفيها من الصحاب وكان إلى ذلك سخي الكف كثير البر شجاعاً وفياً لأصدقائه ويؤيد ذلك أنه لما وقعت حروب بين أصدقائه آل ثاني وبين خصومهم اشترك في القتال فلما كانت موقعة (خنور) قتل حامل الراية من جيش آل ثاني وكادت الهزيمة أن تلحق بهم لولا أن الشاعر نهض إلى الراية فحملها وأخذ يتقدم ويعدو بها وحتى التحم الجيشان وأخذ يشق الصفوف ويهتف بالجند. وقد أثار بذلك حماس صحبه. فكان النصر حليفهم. ثقافة الشاعر: وقد جد الشاعر في التحصيل والدرس رغم كد العيش وعنت الأيام. وقد حاول أن يكون له سبق في الشريعة وعلومها لذا رأيناه في باكورة حياته ينقطع إلى الشيخ الخرجي بالسلمية يأخذ عنه ولما اشتغل بتجارة اللؤلؤ على ساحل الخليج العربي جعل للعلم طرفي النهار فإن كان بعمان كان أستاذه الشيخ أحمد الرجباني وإن كان بقطر تتلمذ على العلامة الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع. فإن رجع إلى نجد رأيته بالأفلاج في دروس الشيخ (سعد بن حميد بن عتيق) وبالرياض مع أئمة الدعوة السلفية من آل الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله. لكنه رغم هذا الجد ورغم طموحه إلى المشيخة في العلوم الشرعية غلب عليه الأدب وعرف به دون سواه. وقد حفظ مقامات الحريري، كما حفظ وقرأ كثيرا من شعر الأقدمين من شعراء الجاهلية والإسلام والمخضرمين والأمويين والعباسيين. صلة الشاعر بآل سعود: فتح الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود يرحمه الله الأحساء سنة (1331هـ) والشاعر آنذاك يتنقل بين الإمارات العربية المتحدة على الخليج كما قدمنا وقد ازدهاه هذا النصر كمسلم تعنيه عزة دينه وكمواطن يتمنى لبلاده القوة والمنعة وأثلج صدره هذا النصر المبين فأنطق لسانه وقام مسرعاً بتقديم تهنئته للملك عبدالعزيز وتسجيل ذلك الفتح العظيم بقصيدة رائعة يقول في مطلعها:
وتعد هذه معارضة لقصيدة أبي تمام في مدح المعتصم العباسي وتهنئة بفتح عمورية وهي القصيدة المشهورة التي مطلعها:
وكان شاعرنا موفقا في هذه المعارضة كل التوفيق فالمناسبة قوية بين الفتحين: ففتح عمورية كان إنقاذاً للمسلمين من تنكيل الروم وكذلك كان فتح الأحساء إنقاذاً للمسلمين من تنكيل المحتلين والمستعمرين وهذه أول قصيدة قالها الشاعر في مدح الملك عبدالعزيز آل سعود، ومنذ ذلك التاريخ سطع نجم شاعرنا الهمام ابن عثيمين في سماء الأدب وسجل في قصائده انتصارات الملك عبدالعزيز وبطولاته المظفرة ووقائعه الفاصلة وفتوحاته الكبرى وعرف الملك عبدالعزيز -يغفرالله له- للشاعر النجدي فضله وقدر أدبه فأضفى عليه ثوب النعمة. خاتمة حياة الشاعر: وفي أخريات عمر الشاعر الطويل انصرف عن الشعر إلى العبادة بعد أن بلغ خمسة وثمانين عاماً ووافاه القدر المحتوم في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة سنة (1363هـ - 1944م) وله من العمر ثلاثة وتسعون عاما بكامل قواه ودافق حيويته يرحمه الله. شعره ومنزلته بين الشعراء: يمتاز شعر ابن عثيمين بالسهولة والعذوبة ووضوح المعنى وجزالة التركيب ويظهر فيه كلفه باحتذاء الأقدمين في بعض قصائدهم المشهورة وإذا قيس شعره بزمنه وبيئته التي عاش فيها وبعصره الذي ساده التأخر والجهل حق لنا أن نعده من قادة النهضة الأدبية الحديثة ورائدها في الجزيرة العربية ومن يستوعب ديوان ابن عثيمين (العقد الثمين) من شعر محمد بن عثيمين.. الذي قام بجمعه وترتيبه وشرح مفرداته اللغوية والدي الشيخ سعد بن عبدالعزيز الرويشد. حيث بذل جهداً كبيرا في البحث عن قصائد الشاعر في قطر والبحرين ولدى بعض العلماء والأدباء في الرياض وحوطة بني تميم والخرج وفي مكتبة معالي الشيخ محمد سرور الصبان - يرحمه الله- بمكة المكرمة. وقد طبع هذا الديوان القيم (العقد الثمين) الطبعة الأولى على نفقة معالي الشيخ عبدالله السليمان الحمدان -يرحمه الله- بدار المعارف بمصر عام (1375هـ) والطبعة الثانية بأمر حاكم قطر الأسبق أحمد بن علي آل ثاني والثالثة والجديدة على حساب الشيخ عبدالعزيز العبدالله السليمان الحمدان وإخوانه. أغراض شعره: ويغلب على ابن عثيمين في شعره ثلاثة أغراض وهي المدح والتهنئة والرثاء. وهي تكاد تنبع وتنضح من معين واحد. أما المدح فقد تفوق فيه ونظم روائعه فحاكى غيره من الشعراء غير أنه اختار لمدحه ثلاث أسر عربية ماجدة هي آل سعود وآل خليفة وآل ثاني حيث اختصهم بمدحه فقدروه قدره وربأ بنفسه أن يمدح من هو دون الملوك والأمراء ولم يكن في مدحه يقصد عطاء ولا مالاً ولم يكن من المكتسبين بشعره فقد كان تاجراً يعيش بكفاحه وكده وكان يشكر لهؤلاء الملوك عنايتهم به وحدبهم عليه فتراه يقول:
واستأثر بأكثر مدائحه الملك عبدالعزيز عندما توالت فتوحاته للعواصم الكبرى من مملكته فهو شاعره السياسي أما الرثاء فمبعثه الوفاء لمن أحسن إليه من العظماء والعلماء فهو ينزع فيه عن عاطفة صادقة إسلامية نبيلة وروح سامية وفي هذا الغرض نجد له بعض أمثلة من الحكمة ولم يتصرف شاعرنا في بقية الأغراض الشعرية الأخرى فقد ترك الهجاء لعفة لسانه وسمو خلقه وحرصه على محبة الناس ومسالمتهم وترك الغزل لأنه إنما يحسن من ذوي الطبيعة المرحة فلا يليق بمن كان مثله في توقره وسمته على أنه جارى السابقين وحاكاهم بالتشبيب في أول قصائده ويكاد لا يترك ذلك إلا نادرا ومن قول شاعرنا في الرثاء ما قاله في رثاء العلامة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ المتوفى سنة 1339هـ.
ومن قول شاعرنا في صديقه وراوية شعره الأديب عبدالله بن أحمد العجيري المتوفى سنة 1352هـ.
وقد جمع ديوان الشاعر كل ما أمكن جمعه من شعره إلا هذه الأبيات الخمسة التي وجدتها مخطوطة بيد الشاعر في مكتبة الشيخ إبراهيم بن عبدالله الشايقي ضمن جواب خطاب قد بعثه الشاعر وهو بحوطة بني تميم إلى الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود والد الملك عبدالعزيز يرحمهم الله جميعاً. وهو بالرياض وذلك بتاريخ أربعة رجب عام 1346هـ وكان الإمام عبدالرحمن قد بعث إلى الشاعر رسالة ومعها (عباءة) له وكان الشايقي يعمل مديراً لمكتب الإمام عبدالرحمن وكذلك قصيدة في الملك سعود -يرحمه الله- يهنئه الشاعر بولاية العهد ومقطوعة شعرية في الشيخ محمد بن مانع أستاذ الشاعر عليهما رحمة الله.
وأسجل هنا للحقيقة والتاريخ - ومن وجهة نظر شخصية - أن شاعرنا الكبير محمد بن عثيمين قد نقل الشعر العربي في مجتمعه بالجزيرة العربية من مرحلة التقليد والصناعة اللفظية إلى عهد جديد من الأصالة والبلاغة الشعرية وسمو المعنى وقوة النسج وتحليق الخيال. |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |