كنت قد كتبتُ مقالاً عن (المرأة والانتخابات البلدية)، طالبت فيه بأن تُعطى المرأة الحق في الدخول إلى الانتخابات البلدية، ليس كناخبة فحسب، وإنما كمرشحة أيضاً. وقد نبهني أحد الإخوة أن الشيخ سليمان الخراشي، أحد طلبة العلم، قد رد على هذا المقال في أحد منتديات الإنترنت. وعند قراءتي لمقال الشيخ الخراشي، فوجئتُ به واستغربت أن يصدر ذلك من طالب علم وذلك لوجوه: أولاً: العملية الانتخابية كما يعرف الجميع هي عبارة عن (عقد وكالة) بين طرفين: الطرف الأول (الناخب)، والطرف الثاني (المرشح) الذي يقوم (الناخب) بانتخابه. وهناك فروق وظيفية بين (الناخب) وبين (المُرشح). فالناخب في هذا العقد الانتخابي هو تماماً كالطرف (الموكل) في الوكالة الشرعية، بينما أن المرشح هو بمثابة (الوكيل). فعندما يذهب الشيخ الخراشي إلى القول: أن مشاركة المرأة ك(ناخبة) لا تجوز شرعاً، فإن ذلك يعني حكماً أن المرأة لا يجوز لها (التوكيل) أصلاً!. وإلا فما الفرق بين أن تذهب إلى أحد (المراكز الانتخابية) لتنتخب، وبين أن تذهب إلى (كتابة العدل) لتوكل؟. ثانياً: من الواضح أن (العلة) التي يحتج بها الكاتب عند اعتراضه على مشاركة المرأة (كمرشحة) في الانتخابات البلدية هي (الاختلاط). وهنا لا أظن أيضاً أن شبهة الاختلاط لها دخل في هذه الشؤون. فالاختلاط المحرم شرعاً والمتفق عليه بين العلماء، ليس كل (اختلاط) على الإطلاق، وإنما هو على وجه التحديد الاختلاط الذي يفضي إلى (الخلوة) المحرمة شرعاً. ولفظ (اختلاط) هو من الألفاظ المحدثة التي لا سند لها ك(مصطلح) في المعجم الفقهي عند أهل السنة والجماعة. وغني عن القول أن اجتماعات مجالس البلديات للمرأة المحتشمة، الملتزمة بالحجاب الشرعي، لا تدخل في معنى (الخلوة) الممنوعة شرعاً وإلا فإن ذلك يعني أن نمنع المرأة من العمل في المستشفيات، ومن التعليم، ومن السفر في الطائرات، ومن التسوق، وغيرها من الشؤون التي تمارسها المرأة في حياتها الطبيعية بحجة منع الاختلاط، بمعنى آخر: نغلق عليها البيت لا تبرحه قيد أنملة!.. ولا أعتقد أن هناك تشدداً، بل تحميلاً للأمور ما لا تحتمل شرعاً وعقلاً أكثر من هذه التوجهات. ثالثاً: احتج الشيخ الخراشي على استدلالي بما ذكره الإمام ابن حزم في (المحلى) بإيكال ولاية الحسبة في أسواق المدينة، في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إلى الصحابية (الشفاء بنت عبدالله). وقال: إن هذا الخبر لم يصح. ولم يذكر كل من استند إليهم في علة عدم الصحة. ومع ذلك أقول: حتى على افتراض أنه (لا يصح) بمعايير الكاتب فيكفي أن هناك من العلماء من هو في حجم الإمام ابن حزم وغيره استدلوا بهذا الحديث، والسؤال: ألا يكفي (صحته) عند علماء آخرين، لتكون المسألة في النتيجة هي محل (خلاف) وليست محل قطع كما أرادها الكاتب؟. فلماذا إذن (التضييق) طالما أن في الأمر سعة؟. أما حديث (سمراء بنت نهيك) فقد ذكره الشيخ الألباني في كتابه (جلباب المرأة المسلمة) ص 102 وقال: (أخرجه الطبراني في - الكبير - 24-311-785 بسند جيد). والألباني أولى بقبول حكمه من الشيخ الخراشي إذا كنا نتحدث عن صحة الأحاديث. فكيف يصححه الشيخ الألباني ويأتي من هو أقل منه ليقول بعدم الصحة؟. رابعاً: من الثابت تاريخياً، وبشكل يرقى إلى درجة القطع هذه المرة، أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد شاركت في معركة الجمل فعلياً. فإذا جاز للمرأة أن تشارك الرجال في (معركة) عسكرية، فكيف لا يجوز لها بالله عليكم أن تكون عضواً في مجلس بلدي؟. الأمر الآخر الذي ربما أنه سيفاجئ الشيخ الخراشي فمفاده أن كثيراً من المصادر التاريخية (تاريخ الجبرتي مثلاً) ذكرت ان امرأة (سعودية) هي (غالية البقمية) قادت هي الأخرى جيوش السعوديين إبان الدولة السعودية الأولى، في مواجهة جيش (طوسون باشا)، وأذاقتهم علقم الهزيمة. ولم يرد من أقوال أئمة الدعوة قول واحد يفيد بأنهم (أنكروا) عليها (تسنمها) القيادة. يقول الشيخ عبدالله بن خميس عنها: (تلكم هي غالية الوهابية وهذا طرف من خبرها تكسرت كبرياء محمد علي وجنوده ومن ورائهم الدولة العلية على صخرة صمودها وإيمانها ورجعوا يجرون أذيال الخيبة)!!.. فإذا سمح (الأجداد) للمرأة السعودية بقيادة الجيوش فكيف ينكر (الأحفاد) مجرد (عضوية) في مجلس بلدي؟. أليس في ذلك مدعاة للتساؤل؟. وقبل أن أختم أقول: إن مثل هذه الآراء المتشددة التي يمثلها (عن جدارة) الشيخ الخراشي، وبالذات فيما يتعلق بالمرأة، تذكرني بنفس الآراء والمبررات والحجج التي كان يسوقها (معارضو) تعليم المرأة عند بدايات تعليمها في عهد الملك فيصل - رحمه الله - لنجد في النتيجة أن هؤلاء أنفسهم وأبناءهم وأحفادهم من بعدهم يتسابقون اليوم على تعليم بناتهم، وليس لديَّ أدنى شك في أن القادم من الأيام سيعيد هذا المشهد مرة أخرى. فقد علمتنا التجارب أن التاريخ - إذا توفرت الأسباب والبواعث - لا بد له إلا أن يعيد نفسه.
|