هذا حديث يستقرئ أصول منهج النقد والحوار الذي يجب أن نتمثله في التعامل مع الآخرين، حين ندرك أننا جميعاً نقف تحت سقف الطبيعة الآدمية، وهي طبيعة ذات تكوين مركب من نواميس مختلفة، فيها: العاطفة، والأثَرَة، والطغيان والهلع، وحب الذات إلى غير ذلك، جملة من الكمالات، وجملة من النقائص يدور بينها حركة صراع، وربما حوار- أحياناً- في هذه الدائرة (النفس الآدمية) التي ألهمها خالقها فجورها، وتقواها. إن منهج النقد، والمراجعة يتمثل قوامه في تحقيق قاعدتين: الأولى: الأخلاق. الثانية: المعرفة، والعلم. وربما كان من الأولويات احتياج النقد والحوار إلى العلم والمعرفة، فحين تتخلف هذه القاعدة، فلست تستطيع أن ترى قيمة للنقد، لكن ربما كان من غير الواضح- عند كثيرين- أن الأخلاق هي القاعدة الأولى في هذا المنهج. صحيح أن فضيلة الأخلاق من أولويات الحقائق، ويشعر الجميع بأهمية التعامل الأخلاقي، لكن قد يكون الإشكال ناتجاً من فهم الأخلاق نفسها، كما أنه ينتج عن تقدير مرتبة الأخلاق، وعلاقتها بالنقد والحوار. إن النقد والحوار حين يتجرد عن أنظمة الأخلاق والعدل؛ فإنه يتحول إلىمعارك بشرية مفتوحة، تمارس قوى الشر الكامنة في النفس البشرية حركتها الطاغية في هذه المعركة باسم العلم، أو الدين، أو الحقوق. ومن انحراف أهل الكتاب أنهم اتخذوا العلم بغياً بينهم؛ ولهذا كان تكليف الشريعة لأهل الإسلام: {أَن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (13) سورة الشورى. إن من لا يعرف تحصيل الحق إلا بتحصيل التفريق فيه لأهل الإسلام فليس هو فقيهاً في الشريعة، وكذا من لايعرف تحصيل الاجتماع إلا بعدم تحقيق الحق والعلم الذي بعث به الرسول فليس هو فقيهاً أيضاً. لئن كنا نتكلم كثيراً عن حفظ الثوابت؛ فإن الأخلاق رائدة في هذه الثوابت، ولئن كنا نتحدث عن حفظ ثوابت علمية؛ فإننا يجب أن نتحدث عن: حفظ ثوابت الأخلاق. إن الأزمة التي تواجه الأمة اليوم تتمثل في الأخلاق، أكثر منها في العلم والمعرفة. إن فقد الوعي بالقيم الخلقية من أكبر التحديات التي يجب أن تُسخر مشاريع دعوية وإصلاحية لمعالجته، بل من حسن الاستقراء والترتيب أن العلم والمعرفة هي المنتج الأول للأخلاق، ومع هذا كثيراً ما تبدو الأخلاق أكثر غائية من العلم الذي ينتجها. حينما يعيش المجتمع فقدان الوعي بالنظام الأخلاقي فهو يعيش في تخلف يطيح بالكرامة الربانية لبني آدم إلى سقوط في أسفل سافلين. إن تاريخ الأمم بأخلاقها، وزوال الأمم نتيجة زوال هذه الفضيلة (الأخلاق)، والأخلاق ليست هي الرغبات البشرية في مجتمع ما، بل هي رسالة إلهية، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليتمم صالح الأخلاق، كما لخص صلى الله عليه وسلم مقاصد بعثته في الحديث الصحيح. ثمت ثوابت خلقية فطرية أولية؛ جاء الرسل ليحكموها، ويكملوا رسالة الأخلاق، وهنا ندرك أنها منهج رباني، أصوله فطرية، وتمامه نبوي رسالي، والحضارة الغربية المعاصرة تحكم قانون الأخلاق حكماً بشرياً. ومن هنا عرف في فلسفات الغرب (الفيزياء الخُلقية) أي: أن الأخلاق محكومة بنفس طريقة قوانين الحياة الفيزيائية. إن الأخلاق منهج لا يؤهل مجتمع لصياغته صياغة عادلة، بل لا بد من كونه رسالة إلهية، وفي صحيح مسلم عن عائشة (كان خلق رسول الله القرآن). الحديث عن الأخلاق رسالة راقية، ومنهج أصيل، وفي هذه المقدمة وقعت هذه الإشارة تحت حديث عن منهج النقد والحوار؛ لأن الأخلاق أخص قواعده، وهنا ننتقل إلى عتبات هذه المقدمة، ومدخلها. من نعم الله على أهل الإسلام أن هيأ لهم في كل زمان من تاريخ هذه الأمة رجالاً صادقين، يشاركون في صياغة ورقة الأمة، وخطابها أمام المجتمعات والأمم، وهذا التواصل في تاريخ الأمة رائده هم العلماء والمصلحون القائمون في هذه الأمة مقام الأنبياء في بني إسرائيل، كما جاء ذلك عن ابن عباس، وفي الصحيح مرفوعاً( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي...). وهنا من الحقائق اللازمة أن يكون في الأمة علماء، ودعاة، ومصلحون لهم قدر من المصداقية، والقوامة؛ لضبط مسيرة العلم والأخلاق داخل الأمة، وليتحدثوا عن مشروع الأمة الحضاري مع الأمم، والمجتمعات في هذا العصر الذي شهد تحديات كبرى، لم تصادف الأمة في تاريخها ماهو مثلها، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمرو، مرفوعاً: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها ويصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها)، وهنا تكون الحاجة إلى التناصح بين طبقات الأمة أشد إلحاحاً، ويفترض أن يكون رجال الأمة الصادقون من العلماء والدعاة والمصلحين متمتعين بقدر من القيمة التي تؤهل رسالتهم للمصداقية والتقدم، ويجب أن تكون الرحمة والعفو من أساس أخلاقياتهم، وموازين تعاملهم، فليس الامتياز بأخذ الحقوق كاملة وإنما بكرم الطباع وهدوء النفس، وتجاوز الشح {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} (9) سورة الحشر. هناك رجال كثيرون في هذا العصر الذي تواجه فيه الأمة ورقة التحدي الحضاري المتسلط، قائمون بالدعوة وحمل العلم. ولئن كان الاستعمار أعلن تركه الديار لأهلها، فمن المؤكد -حتى عند الجماهير- أنه لم يكن صادقاً، هذا التحدي خلق شعوراً حاداً عند ذوي المزاج الحاد طبعاً، ليس في دائرة العامة، بل حتى في دائرة الرموز العلمية، والإصلاحية، وكان لهذا أثر في تناولهم لقضايا كثيرة في مشروع هذه الأمة العلمي والتربوي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي، فحيناً يصارعون هذا التحدي، وحينا يصارعهم، وحيناً يفر منهم، وحيناً يفرون منه. ومن هنا وجد بعض الارتباك في الرؤية عند كثيرين، وربما تأثرت مناهج حضارية إسلامية بهذا التحدي، وقد شهد هذا العصر تأسيس جملة من الجماعات الإسلامية في ظروف لم تكن هادئة؛ مما سبب انعكاساً داخل هذه الجماعات، بل كانت ظروف تأسيس الكثير منها معقدة، كما أن مجموعة منها كانت حالات انشقاق عن جماعة (أم)، كما هو الشأن في حالات الانشقاق عن جماعة (الإخوان المسلمين). لسنا نريد أن نقرأ التاريخ المعاصر، لكن من المهم أن نتصور البيئة التي تشكل فيها العمل الإسلامي الفكري والحركي؛ حتى نكون أكثر عدلاً في الوصف، والنقد. إن المراجعة والتصحيح، بل والرد على المخالف حسب الأصول العملية، والمقاصد الشرعية أصل خالد في منهج هذه الأمة، وتاريخ العلماء متواتر في تقعيد هذا الأصل واعتباره، ولقد كتب كبار المحدثين والفقهاء، وغيرهم في المراجعة والتصحيح، والناظر في كتب الرجال، أو كتب العلل، أو كتب الفقهاء، أو أهل الأصول، بل وحتى السير، والتاريخ يرى داخل هذه التصانيف المراجعة والنقد والتصحيح، تارةً يضاف القول إلى قائله، وتارة يجرد عنه، فضلاً عن كتب الرد التي صنفها علماء السنة والجماعة في الرد على أهل الانحراف والبدع والحوادث في أصول الدين، كالرد على الجهمية للدارمي، والبخاري، والإمام أحمد. وكتب الرد على المعتزلة، والباطنية، والفلاسفة وأصناف أهل المقالات. ومن هذه الحقيقة العلمية والتاريخية، بل المنهج الشرعي المتقرر في نصوص الكتاب، والسنة رسم الإمام مالك بن أنس -إمام المدينة النبوية- محصل هذا المنهج بقوله: كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب هذا القبر. ندرك أنه ليس هناك أحد يتعالى قوله عن النقد والمراجعة والتصحيح في كل ما يقول؛ إلا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام. فالحوار العلمي المستند إلى الحجة مطلب يتفق عليه الجميع، لكن يجب علينا أن نرسم منهجاً لهذا النقد الشرعي العلمي، حتى لا يتحول إلى ممارسات، واجتهادات خاصة، قد لا يحصل منها تحقيق للمصالح الشرعية التي هي مبنى تقرير هذا النقد، والمراجعة. وأيضاً، فإن من الإيمان بهذا الأصل الشرعي العلمي المتقرر، أن نعي أننا داخلون في هذا الإمكان، من حيث عدم حصول ما نقوله على الصواب المطلق ما دام قولاً لنا، وليس تقريراً للضروريات الشرعية، والضروريات الشرعية ليست محل حوار، فهي القدر المتفق عليه، والذي ينطلق منه الجميع، وقد يقع أن يفرط امرؤ فيما يراه فيلح على إلحاقه بالضروريات؛ ليجعله في مأمن من المراجعة، ولئن كان الإمام مالك راجع الليث بن سعد، ومحمدُ بن الحسن كتب (الحجة على أهل المدينة)، وتكلم أحمدُ في مسائل لإسحاق، وتكلم الشافعيُ في مقالات لأبي حنيفة مع الامتياز العلمي والمنهجي لكل هؤلاء؛ فمن اللازم أن نكون واضحين في قبول مقالاتنا واجتهاداتنا للمراجعة والنقد. وهذا ليس حرفاً يقال وليس شعاراً يرفع لمناسبة، بل هو موقف داخل النفس. إن الجماهير التي تسمع وتقرأ للعلماء والدعاة والمصلحين- اليوم- يجب أن تتربى على الهدوء وعلى الحقائق، وليس على القول المجرد الذي لا يكون له وضوح عند التراجع والاختلاف. إن الخلاف في المسائل الخلافية والاجتهادية ليس مشكلة تحتاج إلى حل، بل هذه التعددية هي المتنفس في أكثر الأحوال؛ لاستيعاب التنوع العقلي والنفسي والاجتماعي والبيئي، بل والمتطلبات التي تواجه الأمة، فنحن ممن يؤمن بالتعدد والتنوع مع المحافظة على الأصول والثوابت الشرعية. وحين نطمح إلى أن نشكل رؤية هادئة تربوية في نفوس الجميع، كباراً وصغاراً، علماء وعامة، دعاة وجمهوراً؛ فنحن أمام مشروع له علاقة بالطبيعة النفسية والاجتماعية. نعم. إن الإيمان بهذه الرؤية لا يواجه إشكالاً علمياً أو شرعياً؛ فهي من حيث الجانب النظري مسلمة من المسلمات، لكنها من حيث الجانب التطبيقي تحتاج إلى عمق في الإيمان بأن دين الله يتعالى عن سلطة أحد من الناس، وإيمان بحقيقة النفس البشرية الخطّاءة، الحقيقة التي نطق بها رسول الإسلام كما في الصحيح( كل بني آدم خطاء) ومن المهم أن نقرأ قواعد الشريعة بتعالٍ عن حظ النفس؛ لتطبيق هذه الرؤية، وتطبيعها كقيمة تربوية داخل النفس، وهي قيمة يحتاجها كل فرد في الأمة بلا استثناء، حتى الطفل الساذج، فيفترض أن يُعلّم هذه الحقيقة كما يُعلّم أوائل الكلام، لكن يجب أن يُدرك أنها قيمة للعدل، وليست نظاماً للجور والتسلط. والطفل الساذج حينما يواجه الضرب، أو التعنيف لمجرد أن قال: لا. أمام طلب من الأكبر منه سناً؛ فهو هنا يفهم أن لا. تعني أن الأكبر يجب ألاّ يراجع قوله، ولا يرد، هذا خلل في نظام التربية والحق الفردي. فهذه القيمة التربوية ليس أثرها وإلحاحها مقصوراً على العلماء والدعاة، ومن يدور داخل هذه الدائرة، بل هي قيمة اجتماعية؛ حتى في أحاديث الحياة العامة. وفي الصحيح من حديث ابن عباس، عن عمر - في سياق طويل- قال فيه: (فبينا أنا في أمر أأتمره. إذ قالت لي امرأتي لو فعلت كذا، وكذا. فقلت: مالك أنت، ولما ههنا، وما تكلفك في أمر أريده. فقالت: عجباً لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن تُراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم). لقد كان رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- يُراجع في مسائل كثيرة؛ ليست من أمره الشرعي الذي قال فيه: {وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلَا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} 36 سورة الأحزاب. وفي الصحيح عن أنس قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أذهب لحاجة فقلت: لا. وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنت واعدت ولدانا من أهل المدينة نلعب، قال: فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان- فأخذني من خلفي، وقال: (يا أنس. اذهب حيث أمرتك). وإذا كان هذا الهدوء يجب أن يكون ضرورة في النفس، فمن العدل أن نعي: أن النفس تعرض لها أحوال، ذكرها الله في القرآن، لوامة تارة، وأمارة بالسوء تارة، فيجب أن تراجع إلى طلب تحقيق درجة الخير (النفس المطمئنة).
|