* الجزيرة - خاص : لم يعد هناك أدنى شك في أن الأمة الإسلامية مستهدفة في شبابها من قبل أعداء الإسلام ، الذين يخافون عودة الحضارة الإسلامية لسابق مجدها ، هؤلاء الأعداء الذين يروجون لصراع الحضارات ، وينفثون سمومهم في جسد الأمة ، من خلال دعاوى التحرر والتطور ، وغيرها من الشعارات ، والتي تزدحم بها وسائل إعلامهم . لكن كيف نواجه هذا الخطر ؟ وما هي مسؤولية الآباء والمربين والعلماء والدعاة في تحصين الشباب من مظاهر هذا الغزو الفكري ؟ وغيرها من التساؤلات التي طرحناها على د. جمال المراكبي الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية في مصر .. فكان هذا الحوار . * بداية نسأل عن رؤيتكم لما يقال عن وجود غزو فكري يستهدف الأمة الإسلامية ولاسيما الشباب ، وما هي الآليات التي يمر من خلالها هذا الغزو ؟ وهل منها الإعلام والثقافة ؟ - لاشك أن أعداء الإسلام ووسائل إعلامهم العالمية التي وصلت مرحلة من النفاذ والتأثير ، تحاول معها إعادة صياغة الإنسان وتشكيل اهتماماته وتركه أسيرا لما يُلقى إليه ، حيث أصبحت تقتحم عليه بيته وفراشه وطعامه وشرابه وفترات راحته ، وهؤلاء الأعداء يحرصون دائماً على شن حملات التشويه والتخريب للإسلام : منهجه وتاريخه ورجاله وتراثه ولغته وقرآنه ، وتحالفوا وتآزروا وابتكروا لتحقيق ذلك أحدث الوسائل ، وأخبث التيارات والأساليب ، فغزوا المسلمين في قلوبهم ، وأفكارهم ، وأخلاقهم ، وأزيائهم وشنوا على العالم الإسلامي من الغارات ما لا يخفى أمره . ولاشك أن سوق الأفكار أخطر أسواق المنتجات ، وأكثرها تقبلاً للتزييف والإفساد ، ومن ثم حفلت أسواقنا الفكرية بما هو اشد فتكاً من السموم وأعظم انتشاراً من الهواء ، يتخلل كل خلية وينخر في كل بناء ، فجاءت تلك الأفكار ترتدي أثواباً براقة أو تحمل شعارات جذابة ، أو ترفع مشاعل ليس الثوب فيها أو الشعار أو المشعل ، إلا قناعاً يستر الزيف الخطر ، والثقافة ليست علوماً ومعارف وأدباً وفنوناً فحسب ، بل مناهج فكر وخلق تصبغ حياة الأمة بصبغتها في شتى ضروب نشاطها ، ويمكن القول : إن (الغزو الفكري) واقع وقد استطاع بالفعل من خلال الثقافة ، أن يلقى بمزيج من الأخلاط الغربية الملتمسة من الفكر الغريب المنحرف والتوجيه الفاسد والقائم على التخطيط الشرير ، وهذا الغزو الفكري بحركته الفكرية والعلمية ، من أخطر ما نواجه في حياتنا ، لأن ما يقوم به من أهداف تقوض الدعائم يتعلق بأعمق أعماقنا عقدياً ، وفكرياً ، وحضارياً ، وليس هناك أمام المسلمين من سبيل إلا المواجهة وقبول التحدي وإثبات الذات وإلا فلسنا جديرين بالحياة . * لكن كيف يمكن للأمة الإسلامية مواجهة هذا الغزو ؟ وهل ثمة ما يشير إلى القدرة على ذلك ؟ - لا يخفى على أحد أن السعي إلى إثبات الذات والعمل على مواجهة هذه التحديات والتيارات الغازية دليل صحة وصحوة .. لكن لابد من منهج ، والمنهج الصحيح هو أن نواجه الفكر بالفكر والعمل بالعمل ، وحتى نستطيع أن نوقف هذا الغزو الفكري والاختراق الدائم ، لابد أن نكون قادرين على امتلاك الشوكة الفعلية ، بمعنى أن نكون قادرين على الإنتاج الفعلي لمواد ثقافية ، تمثل ثقافتنا وعقيدتنا ومنهجنا الأصيل ، فالمواجهة لا تكون بإدانة الآخرين ، والنظر إلى الخارج دائماً ، وإنما تبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل أولاً لملء الفراغ بعمل بنائي مستمر وتحصين الذات . * وما هي الوسائل التي نستطيع من خلالها تحصين الذات وملء هذا الفراغ ؟ - هذه الوسائل هي ذاتها الأمور التي يقوم عليها منهج الإسلام في تربية النشء ، والتي ينبغي أن يلتزم بها كل من له دور في التربية أو التوجيه سواء البيت أو المدرسة أو الإعلام ، وهي بحاجة إلى التفعيل العملي والواقعي لتصير مشروعاً أممياً ، تصنف له البرامج وتتخذ من أجله التدابير اللازمة لإحيائه وتنشيطه . ومن الوسائل التي يقوم عليها منهج الإسلام في تربية وتحصين النشء ما يمكن تلخيصه في التربية الإيمانية ، والإقناع ، والترغيب والترهيب ، وتفعيل دور المسجد ، وتقديم القدوة الحسنة ، وحسن اختيار الأصدقاء ، والنهي عن التقليد الأعمى ، والاقتداء بالسلف الصالح ، ودراسة التاريخ الإسلامي ، والاهتمام بشغل وقت الفراغ فيما ينفع ، وأخيراً الوقاية من إثارة الشهوات .. وهذه التربية الإيمانية تجعل النشء وثيق الصلة بما يمليه عليه إيمانه ولا يشغله عن ذلك شاغل ، ويصور لنا الرسول الكريم هذا الوازع الإيماني في أعلى درجاته وأكمل حالاته بقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان كرتبة عليا من رتب العبودية والإيمان : (أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وهذه التربية الإيمانية لم تجعل نتيجة الخوف من الله أمراً سلبياً وهو النجاة وهذا بعض ما يفهم من قول الله تبارك وتعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وقوله :{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . فإذا عودنا الشباب من بداية مرحلة إحساسه بذاته أن يراقب الله تعالى عند كل عمل يعمله ، موقناً أن الله تعالى مطلع على جميع أعماله ومعتقداً أنه تعالى يجازي من أطاعه برضوانه وإحسانه ، وأنه ينزل غضبه ومقته على من خالفه وعصاه ، وإذا عوّد الشاب نفسه على ذلك سهل عليه أن يفعل ما أمره الله به ويجتنب ما نهاه عنه ، فإذا سوّلت له نفسه أن يأتي معصية ردها وزجرها وذكرها بعزة الله وجلاله ، وأنه تعالى قادر على الانتقام منه ومطلع عليه لا تخفى عليه خافية : {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }، هذا الوازع الإيماني هو الذي دفع راعي الغنم حينما عرض عليه أن يبيع واحدة منها وصاحبها لا يراه أن يصيح بصوت ملؤه الإيمان : إذا كان صاحبها لا يراني فإن الله يراني ؟ فالإيمان بالله هو النور الذي يهدي الإنسان في مسالك الحياة ويملأ النفس اطمئناناً ورضى ، وهذه المراقبة إذا ظفرنا بتربيتها وإيقاظها في النشء فقد أقمنا أقوى دعائم التربية الناجحة القويمة لهم ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب) ، رواه البخاري . * وماذا عن دور العبادات في تحقيق هذه التربية الإيمانية ؟ - لاشك أن للعبادات التي فرضها الله سبحانه على المسلمين كثيراً من الأسرار النفسية والاجتماعية والمقاصد الحيوية ، التي تستهدف خير الإنسان وتربية قلبه السليم ، والصلاة على رأس هذه العبادات ، وهي عماد الدين وهي أقوى رباط بين العبد وربه ، وقد اقتضت رحمة الله - جل وعلا - أن يكون في تكرارها طرفي النهار وزلفا من الليل ما يعمر الوجدان ، ويزيد القلب خشوعاً ، فيطمئن القلب بذكر الله ، فلا يكاد المؤمن المصلي ينسى ندمه وحياءه من ربه في الصباح ويرجع إلى خطيئة جديدة ، حتى يأتيه الظهر ثم العصر فالمغرب فالعشاء ، فلا ينام إلا وهو نادم على ذنبه أو تائب عنه ، والمهم أن يتعلم كيف يصلي وأن يدرك قيمة الصلاة وأهدافها ، قال تعالى : {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} ، ولقد نبه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى تربية الأولاد على أداء الصلاة ، مع زيادة الاهتمام بها في بداية سن المراهقة حين قال : (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) . ومن هنا يجب علينا أن نعنى العناية كلها بإحياء هذا الوازع الديني في نفوس أبناء الأمة ، وأن نتخذ منه وسيلة لتحصين القيم الأخلاقية عندهم ، وما أكثر الأحاديث الشريفة التي نرى فيها أن الشرع جعل لهذا الوازع الإيماني الذي سكن في القلوب حكماً فيما يعرض للمؤمن ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك) ، (البر ما سكنتْ إليه النفس ، واطمأنَّ إليه القلب ، والإثمُ ما حاكَ في الصدر ، وكرهتَ أن يطَّلع عليه الناس) ، (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها الناس ، هلموا إلى الصراط المستقيم جميعاً ولا تتفرقوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال له : ويحك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من جوف الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن) . * إضافة إلى العبادات والتربية الإيمانية ماذا عن النقد الذاتي ودوره في حماية الإنسان المسلم من شرور نفسه ؟ - من المُسلَّم به أنه من أفضل الأساليب التربوية في تربية الوازع الإيماني في قلب الناشئ تعويده على ممارسة النقد الذاتي ، وهو عملية يقوم بها الناشئ مع نفسه يستعرض فيها سلوكه بسلبياته وإيجابياته ، وبسيئاته وحسناته ، ويقدر فيها موقفه من القيمة الشرعية التي قرر أن يحققها لنفسه ، فيزن أعماله بميزان الأخلاق الإسلامية ، ثم يقرر في النهاية ما ينوي عمله لإصلاح نفسه وتنمية شخصيته نحو الكمال المنشود ، وإذا كان النقد الذاتي أمراً حيوياً ومفيداً في مراحل الحياة عموماً ، فهو في مرحلة النشء أشد حيوية ، ذلك لأن شخصية الناشئ تتسم بالرغبة في تأكيد الذات ، لذلك يجب أن يكون اعتماد المربي في تقويم سلوك الناشئ على تعويده على النقد الذاتي محققاً لرغبته في تأكيد ذاته ، واعترافاً منه بشخصيته وقدراته على التمييز بين الخطأ والصواب بنفسه . * أشرتم في وسائل التربية الإيمانية إلى أهمية الإقناع ، فكيف يكون ذلك ؟ وما هي مسؤولية الأسرة والمعلم والداعية في هذا الصدد ؟ - إن أهم ما يدعو الإسلام المربين والآباء إلى تحقيقه هو توليد الرغبة والدافع الداخلي عند الناشئ إلى الإصلاح وتحري الإقناع والحلم وسعة الصدر وترك المجاهرة بالتوبيخ ، فالشباب مع ما فيه من شهوة متأججة فإنه من المتوقع منه رقة الدين ، ولننظر كيف عد الحديث الشريف الشاب الذي نشأ في عبادة الله من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل لا ظله ، وما ذلك إلا لندرة هذا النمط في الشباب ، ويؤكد هذا المعنى أيضاً ما جاء في حديث آخر : (عجب ربك من شاب ليس له صبوة) قال الشاعر : فإن يك عامر قد قال جهلاً فإن مطية الجهل الشباب وقد روى أبو أمامة أن غلاماً شاباً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ، أتأذن لي في الزنى ؟ فصاح الناس به ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قرِّبوه ، ادنُ فدنا حتى جلس بين يديه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أتحبه لأمك ؟ قال : لا ، جعلني الله فداءك ، قال كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ، أتحبه لابنتك ؟ قال : لا ، جعلني الله فداءك ، قال : كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم ، أتحبه لأختك ؟ وزاد ابن عوف أنه ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحدة لا ، جعلني الله فداءك ، فوضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره وقال : اللهم طهِّر قلبه ، واغفر ذنبه وحصِّن فرجه ، فلم يكن شيء أبغض إليه منه ، يعني الزنى) ، والقرآن الكريم يرشد إلى التلطُّف في القول والرفق في المعاملة مع تحري الإقناع ، قال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }، هذا اللطف والرفق عام ، ولا شك أن سلوك هذا الخلق مع الشباب أولى وأحرى . والأمر الجدير بالتأمل حقاً والذي لا يصح أن يخفى علينا ، هو أن دعاة الإلحاد والتحلل من التقاليد والقيم ينفثون سمومهم الفكرية بدعوى الحرية والتحرر والاستقلال في الرأي ، تلك المعاني التي تصادف هوى لدى الناشئ والشباب على وجه الخصوص ، وتتفق تماماً مع حاجاته النفسية لتأكيد ذاته ، فنراه يستجيب لها بسرعة لأن نضجه العقلي والنفسي لم يكتمل بعد ، ولين الكلام هو مفتاح القلوب ، فيستطيع المربي أو الأب أن يعالج أمراض النفوس وهو هادئ النفس مطمئن القلب لا يستفزه الغضب ولا يستثيره الحمق ، وحسبنا في هذا قول الله تعالى لإمام الداعين المربين - صلوات الله وسلامه عليه - : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } فالداعي والمصلح الذي يضيق صدره بأسئلة الشباب ومناقشاتهم الساخنة سوف يدفعهم إلى الانصراف من حوله ، ويضيع عليهم فرصة الهداية بأنوار دينهم ويعرضهم للوقوع في براثن أعداء الدين .. من أجل ذلك فالتربية الصحيحة للمراهق تعتمد على الاعتراف بشخصيته الجديدة النامية ، وعلى مساعدته على تحقيق ما يتمناه لنفسه ، وتحقيق ذاته في مجال مشروع بأسلوب تربوي رشيد ، والتربية الصحيحة أيضاً لا تقابل الثورة بالثورة ، بل تتطلب من الوالدين والمربين أن يخلقوا جواً من الثقة بينهم وبين أولادهم. * وماذا عن الترغيب والترهيب كأحد وسائل التربية الإسلامية وما هي أنفع الأساليب لذلك ؟ - من أساليب الترهيب المفيد أن يقرر المربي في أذهان الناشئة أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب ، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب والبلايا فهو بسبب جناياته التي صدرت منه ، فالشباب - ونضجه العقلي لم يكمل بعد - قد يتساهل في أمر الآخرة ويخاف من عقوبة الله في الدنيا أكثر ، وخاصة أنه يخطو خطواته الأولى نحو بناء مستقبله ، فينبغي أن يخوف بعقوبة الله في الدنيا وبأن الذنوب يعجل شؤمها في الدنيا غالباً ، قال تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (41)سورة الروم ، وقال جل شأنه : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } (96) سورة الأعراف ، وهذا لا يعني تجاهل التخويف بعقوبة الآخرة وثوابها ، كذلك الترغيب بثواب الدنيا قبل عقاب الله فيها . * ألا ترى ثمة صعوبة في ضمان حسن اختيار النشء أصدقاءهم في هذا العصر ، في ظل إمكانية تكوين صداقات عديدة عبر وسائل الاتصال ومنها الإنترنت ؟ - بالفعل هذه الصعوبات قائمة ، لكنها لا تلغي مسؤولية المربي ، أباً كان أو معلماً في أن يرشد النشء إلى أن الإنسان العاقل يجب أن يدقق في اختيار أصدقائه وخلصائه ، ويفكر كثيراً قبل انتقاء جلسائه ورفقائه في حياته ، لأن الأصدقاء هم ثروة الإنسان الحقيقية وذخيرته التي يجابه بها هذه الحياة ، ولابد للإنسان أن ينتقي ثروته ويطرد عنها الزائف ، ويفحص ذخيرته قبل أن ينزل بها لمعترك الحياة ، فالإنسان يستفيد من الصالحين على أية حال ، حتى وإن لم تحمله معاشرتهم على الاقتداء بهم ومسايرتهم في أعمالهم ، فعلى الأقل يكتسب سمعة حسنة بمعاشرتهم ، وذلك على عكس معاشرة المفسدين والمنحلين ، فإنه سيخسر على أية حال إن لم تحمله معاشرتهم على مجاراتهم في فسادهم وانحلالهم وسوء خلقهم ، فإن سمعته على الأقل تتلوث بما يعرفه الناس عنهم من سوء ويحكمون عليه بما يحكمون به عليهم . * كثير من شبابنا مهووسون بتقليد الغرب حتى في الأخطاء .. فكيف نواجه هذا الهوس ؟ - نحن أمة إسلامية كان لها ماضيها التليد في القيادة والسيادة ، ثم أصابها ما يصيب الأمم من ضعف ومرض ، فمالت إلى تقليد غيرها من الأمم القوية ، وكاد الاستعمار يغمرها بمظاهر وتقاليده وأساليب تفكيره ، ومن هنا يتجه شبابنا إلى تقليد الغرب تقليداً أعمى في كثير من مظاهر حياته وعاداته وتقاليده بدعوى التحضر والمدنية ، غافلين عن أن هذا الاتجاه يقودهم إلى التبعية ويمحو شخصيتهم ويضر بأمتهم وهي تجاهد لاستكمال ملامح تميز شخصيتها ، ومواجهة ذلك تكون بتعليم الشباب أن الإسلام يهاجم التقليد والمقلدين في كثير من آيات القرآن الكريم ويسخر منهم ، ويجعلهم كالحيوانات التي لا إرادة لها ولا إدراك فيقول عنهم : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } (170) (171) سورة البقرة . ويتكرر في القرآن مثل هذا التصور القبيح للمقلدين لينفر النفوس من التقليد ويحررها من إساره ، ويحرضها على التفكير الحر المستقل ، ويحذرها من السير وراء الغير دون وعي أو إدراك ، ثم كان من حسن رعاية الإسلام للتفكير الحر المستقل الذي يملك أدوات الاجتهاد وتشجيعه له ، أن جعل للمجتهد الذي يخطئ الصواب في اجتهاده أجراً ، وللمصيب أجرين ، فالذي يلغي عقله وشخصيته أمام غيره يستحق الرثاء لا التقدير ، ولا ينتظر من أحد أن يكرمه بعد أن أهان نفسه وألغى وجوده ، وصدق قول الشاعر : إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها هواناً بها كانت على الناس أهوناً لذا يجب على المربين أن يوجهوا الشباب إلى أن يفرقوا بين ما يتصل بتكوين الشخصية المستقلة من فكر وثقافة وتقاليد ، وبين ما يتصل بالعقل والعلم ، فشخصية الأمة بثقافتها وتقاليدها أمر خاص بها ، أما العلم فهو تراث الإنسانية كلها ، كل أمة شاركت في وضع لبنة في صرحه وفي تكميل ما بدأه الغير فيه دون حرج ، بل استفادت واستكملت واستثمرت هذا العلم بكل فخر واعتزاز ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها) ، سواء أخذها عن مسلم أو غير مسلم ، المهم أن يحصل على ضالته من الحكمة ، والحكمة هنا تشمل كل نافع من المعلومات في أمور الدنيا أو الدين ، فلا يخلط الشباب إذن بين ما نطلبه منهم من الاستفادة بعلوم الغير وصناعته والزيادة عليها ، وما نحذرهم منه من تقليد الغير في مظاهره وثقافته الخاصة به وطابعه المميز له ، لأن العلم تركة مشاعة بين الأمم كلها ، أما ثقافة الأمة وتقاليدها فهي تركة خاصة بها ، لا يليق بأحد من غير أبنائها أن يتطفل عليها ويأخذ منها . ومن أنفع وسائل دعوة شبابنا إلى التمسك بالدين وإلى خير الأعمال وحميد الخصال ، تسليحهم بالوعي المستنير بأهداف أعداء الدين والأمة ، ليعلموا أن كل ما يصوب نحو قلب هذه الأمة من وسائل التدمير المعنوي بالحرب النفسية والانحلال والفكر المنحرف أو التدمير المادي بالرصاص والقنابل والصواريخ ، ما هو إلا مظهر لصراع حضاري خطط له أصحاب القلوب الجاحدة والنفوس المريضة ، الذين ينكرون فضل الحضارة الإسلامية على نهضتهم والذين يخافون أن تعود تلك الحضارة إلى سابق مجدها وإشراقها . ولنعلِّم شباب الأمة أن لأمتهم دِيناً يغنيها عن كل عقيدة ويقودها إلى الرقي والمجد والتمكين في الأرض ، ولا يحول بينها وبين الأخذ بكل ما ينفع من ثمرات العقول وجهود الشعوب ولباب الحضارة ، ولتوجه أنظار ، شبابنا أيضاً إلى كشف تلك التيارات المعادية للدين وللأمة التي تستخدم كلمة التطور أو التطوير في التعبير عن معان يراد بها سلخ هذه الأمة عن خصائصها ومعالم إسلامها ، ودفع شبابنا إلى تقليد الأجانب في كل ما يأتون ويدعون تحت عنوان التطور وتصوير التمسك بقيمنا وأخلاقنا وتقاليدنا الكريمة على أنه رجعية وتخلُّف . وعلينا أن نبصَّرهم بأن التطور النافع لا يقوم إلا على أنقاض التراث الأصيل : ومن أضاع تراثاً من أبوته لم يستفد من سواهم قدر ما فقدا * وكيف نزرع في نفوس أبنائنا الاقتداء بالسلف الصالح بدلاً من التقليد الأعمى لرموز الغرب ؟ - قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : (من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم أبرُّ هذه الأمة قلوباً ، وأعمقُها علماً ، وأقل!ُّها تكلفاً ، وأقومُها هدياً ، وأحسنُها حالاً ، اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وإقامة دينه ، فاعرِفوا فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) . لذا فيجب علينا أن يوجَّه النشء إلى الاقتداء بالسلف الصالح عامة والشباب منهم خاصة ، ولكن هذا لا يتحقق قبل التعريف بهذا السلف وعرض سيرتهم ومواقفهم ، وهذه مسؤولية المجتمع بأسره فالنماذج المشرقة من شباب الإسلام لتنهض كدليل قوي على عمق التأثير الذي يوجده التدين والإيمان بالله في نفس هذه الناشئ ، ودراسة التاريخ الإسلامي تتيح فرصاً كبيرة للتعريف برموز الإسلام في جميع العصور ، ولاسيما أن الإسلام يوجه - إلى دراسة التاريخ والنظر في آثار السابقين وما صنعوا ، ويسمى هذا العلم بأيام الله في الشدة والرخاء والبأساء والضراء والنصر والهزيمة ، ولا جدال في أن الشباب في سن المراهقة يقبل على دراسة المعارك وما فيها من مواقف الشجاعة والبطولة والفداء ، ويتأثر بما يبرز فيها من صور القدوة الصالحة في تلك المجالات ، ولعل هذا هو ما يفهم من قول زين العابدين بن علي - رضي الله عنهم أجمعين - : (كنا نعلم أبناءنا الغزوات كما نعلمهم السور من القرآن) وقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم - : (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول : يا بَنِيَّ ، إنها شرف آباءكم فلا تضيعوا ذكرها). (السيرة النبوية : أحمد زيني دحلان) . * إثارة الشهوات لدى الشباب خطر كبير في ظل الثورة الإعلامية والفضائيات .. فكيف يمكن مواجهة هذا الخطر من وجهة نظركم ؟ - مما لاشك فيه أن الأمة الإسلامية مستهدفة من قبل أعدائها ، وأن من اشد أسلحة الأعداء سلاح الشهوات الذي يحاربوننا به في الإعلام والفضائيات وشبكة الإنترنت وغيرها ، وللأسف فإن كثيراً من الشباب يظن أن الحياة هي الانسلاخ عن الدين واتباع هوى النفس والشيطان ، وهؤلاء عذرهم أنهم ما وجدوا حلاوة الإيمان ولا استطعموا طعمه ، فكيف نصف لهم حلاوة العفة والاستعفاف وهي لا تشاهد بالأبصار ولا تدرك بالحواس . وإحصاءات كثيرة تفيد أن تفشي الجرائم والمآسي الاجتماعية من أسبابها المباشرة تفشي الإباحية والدعارة ، والوقاية أو الحجب من الأساليب المجدية والفعالة التي هدانا إليها ربنا - عز وجل - في كتابه الكريم فتقرأ في قصة نبي الله يوسف - عليه السلام - أنه حينما وجد نفسه أمام فتنة النساء وخشي على نفسه المعصية دعا ربه قائلا : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } ، وبالفعل عصم الله نبيه يوسف - عليه السلام -من هذه الفتنة بحجبها عنه ، { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ، ونلاحظ أنه مع كون يوسف - عليه السلام - من الأنبياء المقربين ، ومن اشد الناس طاعة وعبادة وخشية لله رب العالمين ، فلم يأمن على نفسه هذه الفتنة الحاضرة المستمرة غير المحجوبة ولا الممنوعة ، فدعا ربه أن يحجب هذا الشر عنه فاستجاب ربه لدعائه .
|