قليل أولئك الذين برزوا في الميدان على مر التاريخ، ونهضوا وسط الصعاب في عصور التطرف والإرهاب ليمارسوا بالإيمان والعمل.. لغة الحب. وأحسب أن منهم ذلك الرجل العملاق.. المكافح البطل.. الزعيم الإنسان المسلم العربي اللبناني الوطني، ابن المدينة الساحلية الجميلة صيدا، الشيخ رفيق بهاء الدين الحريري - رحمه الله - الذي أعلم أن الناس قد أحبوه سلفاً بسيرته وكفاحه وسمعته الطيبة، لكن ربما لم يعرف البعض قدره الحقيقي، ومقداره وثقله وعطاءه الكبير، إلا بعد انتقاله إلى حياة الخلود. وما أعظم الشهادة في سبيل الله حسنا ًللخاتمة.. فقد كشف الحادث الإرهابي المأساوي المروع أن أبا بهاء، كان وسوف يظل حياً بإذن الله ليس في قلوب اللبنانيين وحدهم، وقد وحدهم في حياته بعد حرب وشتات، بدءاً من اتفاقية الطائف الشهيرة عام 1989م، وزاد من وحدتهم طوال السنيّ الماضية حتى قويت هذه الوحدة وتألقت إثر استشهاده من أجلهم في فبراير 2005م.. لكنه سيظل أبداً في قلب كل مسلم وعربي، بل في وجدان كل إنسان حر أبي، بكاه منذ نبأ اللحظة الأولى حين رحل مودعاً بين رفاقه، في ذلك الحادث البشع الذي ارتكبه حفنة جهلة من أهل الغفلة والتفرقة، لو أنصفوا لشدّوا على يده في رحلة البناء بدلاً من انزلاقهم في هاوية الهدم والجحيم، وكأنهم ما قتلوه وما هزموه.. ولكن.. هُيِّئ لهم!! دلائل كثيرة نراها واضحة رأي العين تصدقنا القول بأن الأخ الرفيق قضى شهيداً بإذن الله في قلب الساحة التي شرفها بجهاده فيها، ساحة بيروت العاصمة. نعم.. في ذات المكان الذي أحبه حتى النخاع كما يقولون، وصمد فيه أمام كل التحديات، حتى استطاع بمهارته العالية وتفاؤله المؤمن، تحويل بعض أحلامه الرومانسية بنجاح رائع إلى أمر واقع، وإلى إنجاز حي مشاهد، مجاهداً على الطريق من أجل تعظيم الحياة كقيمة إنسانية كبيرة، وساعياً بالحب الكبير، كمنهج تكريم وتشريف للإنسان، وكمفهوم عصري ثقافي أصيل، في سبيل إعادة بناء الوطن اللبناني من جديد، عاملاً نشطاً دون ملل أو كلل، على شمولية تعميره بالمثابرة، والمرابطة والصبر الجميل. لقد أجمع المشهد الحريري على اتساعه في تكامله وتنوع مآثره، عبر مسيرة حياته الحافلة بالحب والعطاء، على أصالة البعد الإيماني العميق عند هذا الرجل، متمثلاً في عدة أمور ظاهرة، نذكر منها: - حرصه الشديد في كل مناسبة على تأكيد وفائه وشكره العميق وعرفانه لكل من وقف بجانبه ولاسيما وقت الأزمات، ومن أبرزهم خادم الحرمين الشريفين ملك المملكة العربية السعودية - حفظه الله - وصاحب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني، وأفراد الأسرة المالكة، وعدد من الملوك والأمراء والرؤساء العرب وغير العرب، وأصدقاؤه البررة. - سباقه الرائع المشهود في صنع المعروف ونشر الخير والسعي الحثيث من أجل مساعدة الفقراء والأخذ بيد الضعفاء وإسعاد الناس، ما أمكنه ذلك، وبره بوالديه وعطفه على الجميع بقلب كبير بدءاً بأهل بيته ووصلاً بالآخرين. متمسكاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يوسع له في رزقه وينسأ له في عمره فليصل رحمه) ومؤمناً في نفس الوقت بمعنى الحديث الشريف (اصنع المعروف لأهله ولغير أهله، فإن كان لأهله فهو لأهله، وإن كان لغير أهله فأنت أهله). - ذكره لله حمداً ويقيناً في كل أحاديثه الشخصية ولقاءاته الإعلامية وجلساته الودية الحميمية مع الناس والأصدقاء. - بناؤه المسجد الكبير الشاهق الذي أطلق عليه اسم الرسول (محمد الأمين) مؤكداً حبّه لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ومعلناً مقصده وغايته في احتفال تأسيسه على التقوى وحفاوته بتطبيق مضمون الآية الكريمة: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ليكون بعيداً مترفعاً عن كل أنواع الرياء وبريئاً من ألوان الشرك. - ترحيبه بالتعاطي السياسي الولود والتجارب الودود مع جميع الأطراف اللبنانية دون تفرقة، وحفزه المهتمين بشؤون الاقتصاد والتجارة والاستثمار بالتعامل مع الكفاءات العلمية والخبرات المهنية، بعيداً عن الانتماءات العصبية والقبلية والأحقاد الحزبية الضيقة أو الطائفية الممقوتة فكلهم أمامه متساوون في الحقوق والواجبات كأسنان المشط. - تواضعه الجم في مختلف المناسبات ومع جميع المستويات الوطنية والاجتماعية والشخصية رغم الثراء الواسع والرزق الوفير الذي عاش فيه واعتبره من أنعم الله عليه، من ذلك ما كان يؤكده دائماً - رحمه الله - بأنه (لا يوجد أحد أكبر من بلده) مجسداً بعمله الدؤوب مبنى ومعنى المبدأ القائل بأن حب الوطن من الإيمان. - دعمه الصريح المباشر وغير المباشر للمقاومة الوطنية المشروعة في لبنان الحُرّ وفي فلسطين المحتلة، وفي العراق المغتصب، وللحق العربي والإنساني في أرجاء المعمورة أياً كان زمانه ومكانه. - أمانته وخلقه النبيل في كل معاملاته المالية، فكان أنموذجاً مشرفاً للإنسان المسلم الثري الذي نحسبه يخشى الله، على خلاف ما نرى ونقاسي كأفراد وجماعات على مدار الساعة، من بعض رجال المال وأصحاب الأعمال عبدة القرش والفلس والدينار وأمثالهم، ممن يقدسون المادة إلى حد الشح المهلك وبخس الأجور وبطر الحق وظلم الناس، بينما هم يحلّون الربا ويأكلون أموال اليتامى، أولئك الذين لم يلحقوا بعد بسر النجاح الحريري المذهل.. وكثير ما هم! لقد أدرك أبو بهاء بخلقه الفطري الأصيل منذ البدء، أهم وأبرز أسرار نجاح الإنسان المؤمن في الحياة الدنيا وفي الآخرة، حين انتصر في نفسه أولاً على الكبر والغرور اللذين حاولا التسلل إلى قلبه في بداية مشواره نحو الثراء، فما كان من الله حين علم ما في قلبه، إلا أن منح التوفيق فوراً للرفيق، فأطلق بإذنه تعالى مكللاً بالنصر والتوفيق، والفوز على طول المدى، وصدق الله العظيم {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. ونتيجة لذلك ظل الراحل الشهيد محتفظاً بسيماه الإيمانية التي تجلت في ملامح شخصه وسمت شخصيته.. بإشراقة وجهه ونور محياه، بابتسامته العريضة.. وتفاؤله المدهش حتى آخر لحظة في حياته، تلك الحياة الطيبة التي وإن كانت قد خيل إلينا أنها انتصفت فجأة بالشهادة، لكنها مثلت أمامنا وقد امتدت خلوداً وذكراً آخر بإنجازات قياسية متعددة، تحسب جميعها له، ولكل من والاه، بعد أن شهد بها العالم كله في إيقاعها السريع المتلاحق. فقد أجرى الله على يديه بشائر خير عميم لمستقبل لبناني واعد، تمثلت في شواهد العديد من الإنجازات الرائدة، المادية الملموسة والمعنوية الخفيّة، تلك التي تحققت بالفعل على الأرض اللبنانية، خلال أقل من عقدين اثنين، بل بالأحرى في السنوات الخمس عشرة الأخيرة.. وتحديداً منذ اتفاق الطائف عام 1989م، وهو ما لم يتحقق في لبنان عبر نصف قرن من الزمان.. منها ما هو قائم وبديع في بيروت وغيرها من مدن وضواحي بلاد الأرز الجميلة كشاهد عيان وبيان. نعم كما رأى وسمع ونطقت به الأحداث.. استشهد الحريري أمير لبنان وبانيه فارساً منتصراً في ميدان المعركة، في الساحة التي كانت ملتقى جميع التحديات الطائفية والاقتصادية والسياسية، كما كانت في نفس الوقت منتدى جميع المناورات المحلية والإقليمية والدولية.. وفور استشهاده.. زاد ارتفاع رايته الخفاقة التي كثيراً ما أرادوا النيل منها.. فوق كل التحديات والمناورات. كأن الله تعالى أراد بهذه الصدمة الأليمة القاسية على كل نفس مؤمنة، أن ينبىء الناس جميعاً بالحجم الحقيقي لنهر الخير العظيم الذي أجراه على يد هذا الرمز التاريخي النادر المعطاء.. الحريري. كأنه سبحانه أراد بهذه الفاجعة أن يرفع ذكره في العالمين ويعلي من شأنه أكثر وأكثر، ليكون مثالاً يحتذى، لا تزال الأمة أحوج ما تكون إلى أمثاله، في زمن عز فيه الفعل الخالص النبيل، وقل فيه الشكر والتقدير والاحترام لمن يستحق، واشتد فيه البغي وكثر فيه اللغط والشطط. لقد أكدت أصداء الفاجعة صدق التوجه الوطني للرجل، وعكست حب الناس.. كل الناس له، الذين اختلفوا معه ومن والاه، وتلك حقيقة أظهرتها أنهار الدموع التي فاضت من عيون الوفود الحاشدة على اختلاف مذاهبها ومراميها في جانبي المعارضة والموالاة.. وفاءً وحباً له وترحماً عليه، ورفضاً للإرهاب الدولي الإفسادي العابث، وحرصاً على استمرار المسيرة، وتخليداً لذكراه العزيزة، اسماً بطولياً ورمزاً نضالياً وعلماً حضارياً يفخر به الجميع. قلت لضيف زارني إثر استشهاد الحريري: منذ فترة بعيدة لم نشهد في عالمنا العربي مهرجاناً للحب، مثل هذا المهرجان الهائل عن صدق المتدفق وفاءً وعرفاناً، الذي ودّع به الحريري لبنانياً وعربياً وعالمياً، إسلامياً ومسيحياً وإنسانياً. ** انظر إليه ثانية على سبيل المثال، عبر الآلاف المؤلفة من اللبنانيين كما شاع عنه الخبر أخيراً وانتشر، الذين تعلموا على حسابه في الخارج واشترط عليهم أن يخدموا في بلادهم عند عودتهم ويشاركوا في بنائه بعزيمة الأحرار، باعتبارهم كوادر علمية متقدمة، فور تخرجهم وانتهاء دراساتهم الحديثة المتخصصة وقد حصل ما لا يقل عن 900 منهم على شهادة الدكتوراه. ** وها هو الحريري كإنسان طموح، غيور على كل قيم الحق والخير والجمال في لبنان، وقد دفع - كما اعتاد شخصياً - الكثير من جيبه الخاص من أجل بناء الإنسان الجديد الحر المتسامح في بلاده، وتكوين فئات وشرائح وطنية رفيعة المستوى.. وأجيال لا تعرف الطائفية أو الحزبية.. كل هدفها خدمة الوطن. ** أيضاً.. من شمائله والكل يعلم حاتميته الطائية السخية حين كان يفتح بيته يومياً في رمضان من كل عام ليطعم ما لا يقل عن ألف فم صائم يوحد الله. ** كان - رحمه الله - من فرط أدبه يرفض لقب (العصامي) ويعتبره افتئاتاً على كل من أحسن إليه من البشر، بدءاً من الوالدين ثم الأساتذة والإخوة وأصدقائه القدامى منذ الطفولة والجدد، مشيراً إلى أن كل شيء يتم بفضل الله ومشيئته سبحانه. ولكل منا أن يتساءل: أما كان من الممكن للراحل العزيز الناجح المبهر، كواحد من أبرز رجالات الأعمال العرب على المستوى الدولي، أن يبتعد عن ممارسة العمل السياسي المضني، ومتاعب الكفاح الاجتماعي الساهر، ويستريح من عناء القتال الدبلوماسي العنيف، وينأى بنفسه بعيداً عن كل المشكلات المتفجرة باستمرار هنا وهناك؟. أما كان في استطاعته - رحمه الله - أن يحيا بعيداً عن ألاعيب السياسية الماكرة، الحاقدة منها على وجه الخصوص، وفقاً لطبيعة المناخ الدولي الصهيوني العولمي الشرس، ويتفرغ رافلاً حلل السعادة في متابعة أنشطته الواسعة، ويهنأ سعيداً في بيته ودارته بين أهله وبنيه مستمتعاً بما آتاه الله من النعم العظيمة عبر البحار في كل اتجاه؟ بالتأكيد.. كل ذلك كان ممكناً له ومتاحاً.. لكنه، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله احداً، آثر الجهاد الحقيقي في سبيل الله، من أجل إفشاء السلام وتعمير الوطن ونشر العدل والمحبة بين العباد، مما جعل يأبى حياة الرفاهية والدعة ويتسلح بالحب والإيمان والثقة في الله تعالى، معتزاً بدخوله الميدان فارساً جسوراً ومجاهداً نبيلاً بأسلوبه الذكي الخاص، مصراً على الاستمرار في مواجهة كل المعارك، متجاهلاً شباك الخداع التي نصبت لإبعاده بإرادته الحديدية وفكره الحريري النير، كي يحقق في النهاية إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، فأكرمه الله بهما معاً. مواجهات ومعارك عديدة خاضها الحريري من أجل الحياة الجديدة التي شكلت حلمه العريض لأبناء وطنه في لبنان، آملاً في غد أفضل، يغبطه الوفاق والسيادة والاستقلال، والمزيد من الحرية والديمقراطية. عدة جبهات كان الحريري المغوار يتحرك فيها بقوة إيمانه وثقته في الشعب اللبناني البطل صاحب الرأس العالية الشامخة والنهج الوطني الشجاع، متوكلاً على الله سبحانه وتعالى طالباً منه التأييد والمدد الحقيقي، حتى انه كان يزداد ألقاً وبهاءً، كلما ظهرت وتفجرت أمامه التحديات بأنواعها، وتصعد هامته في السماء كلما تفاقمت حوله الانتقادات والاتهامات، ولأنه ببساطة كان يدرك جيداً في قرارة نفسه - رحمه الله - بأن كل ذلك التعب والنصب وما كان يصاحبه من كثرة الهموم والشجون، إنما يجسد في النهاية ضريبة النجاح. ولأنه أضحى في نفس الوقت واحداً من عظماء التاريخ ورجالاته الميامين، فقد كان مثلهم وككل المصلحين ذا همة عالية لأنه كان ذا غاية كبيرة. لقد عرفته ملايين العرب والعجم بمبادراته الإنسانية الكبيرة التي لم يكن يمل من تواصل إنجازها بكل الطرق، حتى وإن جاءت على حساب نفسه ومصالحه، بل عرفه الناس مقبلاً بشغف وحب على مثل هذه الأعمال الخيرية بغير حساب مهما كثرت، مؤثراً الآخرين في معظم الأحوال على مصلحته الذاتية، وفاءً منه لأهله وأمته، ووطنه وعروبته، ولكل من سبق أن أسدى له خدمة، منذ أيام الطفولة الأولى حتى الممات ولو مضى عليها الزمان وولى. نعم رحل الفارس التاريخي البطل الذي كرس لغة الحب في كل ما قدمت يداه.. رحل غدراً كبعض الأنبياء والخلفاء والصالحين {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.. فلا نملك إلا أن نرضى ونؤمن بقضاء الله وقدره.. لكن سيرته ستبقى.. ستبقى بإذن الله خالدة عطرة. رحم الله أبا بهاء وبارك في أبنائه وأحفاده من بعده.. وأعان الله لبنان الحبيب الدولة والشعب على اجتياز المحنة وتجاوز الفتنة، ووفقهم إلى تحقيق أمنياتهم في الوحدة والسيادة والحرية، والنصر على كل أعداء الدين والوطن.
|