Thursday 24th February,200511837العددالخميس 15 ,محرم 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

الهجرة دروس وفوائدالهجرة دروس وفوائد
محمد بن إبراهيم الحمد / الزلفي -جامعة القصيم

لقد بعث الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بدعوة تملأ القلوب نوراً، وتُشْرقُ بها العقول رُشداً، فسابق إلى قبولها رجال عقلاء، ونساء فاضلات، وصبيان لا زالوا على فطرة الله، وبقيت سائرة في شيء من الخفاء، وكفارُ قريش لا يلقون لهم بالاً، حتى أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرع بها الأسماع في المجامع، ويحذر من عبادة الأصنام، ويسفِّه أحلام من يعبدونها، فكان ذلك مثيراً لغيظ المشركين، وحافزاً لهم على مناوأة هذه الدعوة، والصد عن سبيلها، فوجدوا في أيديهم وسيلة، هي أن يفتنوا المؤمنين، ويسوموهم سوء العذاب، حتى يعودوا إلى ظلمات الشرك، وحتى يُرْهبوا غيرهم ممن تحدثهم نفوسهم بالدخول في دين القَيِّمة.
أما المسلمون فمنهم من كانت له قوة من نحو عشيرة أو حلفاء يكفون عنه كل يد تمتد إليه بأذى. ومنهم المستضعفون وهؤلاء هم الذين وصلت إليهم أيدي المشركين وبلغوا من تعذيبهم كل مبلغ. ومن هؤلاء من يناله العذاب من أقرب الناس إليه نسباً.
ولما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يقاسيه أصحابه من البلاء وليس في استطاعته يومئذ حمايتهم، أذن لهم في الهجرة للحبشة وقال: (إن بها ملكاً لا يُظلم الناس عنده، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً).
فكان ذلك بداية الهجرة، ثم بعد ذلك بدأت الهجرة للمدينة، حيث هاجر من هاجر من الصحابة، ثم تبعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا هو سبب الهجرة، أما سبب التأريخ بها، فقد كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب كتاباً يقول فيه: (إنه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ)، فجمع عمر الناس يستطلع رأيهم فيما يكون به التاريخ، فقال بعضهم: (أرخ بالمبعث)، وقال بعضهم: (أرخ بالهجرة).
فقال عمر رضي الله عنه: (الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها).
وهذه إشارة إلى المزية التي استحقت بها الهجرة أن تكون مبدأ التاريخ العام، حيث أقبل الناس بعدها إلى الإسلام جهرة لا يخشون إلا رب العالمين.
الدروس المستفادة من الهجرة:
يستفاد من الهجرة الشريفة دروس عظيمة، ويستخلص منها فوائد جمة، ويلحظ فيها حكم باهرة، يفيد منها الافراد، وتفيد منها الأمة بعامة، وذلك في شتى مجالات الحياة، ومن تلك الدروس والفوائد والحكم ما يلي:
1 - ضرورة الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب: فالتوكل في لسان الشرع يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحده، فذلك سر التوكل وحقيقته، والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطلها لم يصح توكله، فلم يكن التوكل داعية إلى البطالة أو الإقلال من العمل، بل لقد كان له الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على جلائل الأعمال التي يسبق إلى ظنونهم ان استطاعتهم وما لديهم من الاعمال الحاضرة يَقْصُران عن إدراكها، ذلك أن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقواها، فاعتماد القلب على الله -عز وجل- يستأصل جراثيم اليأس، ويجتث منابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها.
هذا ولرسول الله -عليه الصلاة والسلام- القِدْحُ المُعلَّى، والنصيب الأوفى من هذا المعنى، فلا يُعْرَفُ بَشَرٌ احق بنصر الله، وأجدر بتأييده من هذا الرسول الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه وتوفير وسائله.
ومن ثم فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحكم خطة هجرته، وأعد لكل فرض عُدَّتَه، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء، ثم توكل بعد ذلك على من بيده ملكوت كل شيء.
وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
ولقد جرت هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة على هذا الغرار، فقد استبقى معه أبا بكر وعلياً -رضي الله عنهما- وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة، فأما أبو بكر فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له حين استأذنه ليهاجر: (لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحباً).
وأحس أبو بكر بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعني نفسه بهذا الرد، فابتاع راحلتين، فحبسهما في داره يعلفهما، إعداداً لذلك الأمر.
أما عليٌ فقد هيّأهُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لدور خاص يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار، ألا وهي مبيت علي في مكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الخروج إلى المدينة.
ويلاحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتم أسرار مسيره، فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.
ثم إنه استأجر خبيراً بطريق الصحراء، ليستعين بخبرته على مغالبة المُطَالِبين، وهو عبدالله بن أُريقط الليثي، وكان هادياً ماهراً بالطريق، وكان على دين قومه قريش، فأَمَّناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه في غار ثور بعد ثلاث. ومع هذه الاسباب لم يتكل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- بل كان قلبه متعلقاً بالله -عز وجل- فجاءه التوفيق والمدد والعون من الله.
ويشهد لذلك أنه لما أبقى علياً رضي الله عنه ليبيت في مضجعه، وهم بالخروج من منزله الذي يحيط به المشركون، وتقطعت اسباب النصر الظاهرة، ولم يبق من سبب إلا سنةُ تأييد الله الخفية- أخذ حصيات ورمى بها وجوه المشركين، فأدبروا.
وكذلك الحال لما كان في الغار، ففي الصحيحين أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن فإن الله معنا).
والدرس المستفاد من هذه الناحية هو أن الأمة التي تريد ان تخرج من تيهها، وتنهض من كبوتها لابد ان تأخذ بأسباب النجاة وعُدَد النهوض، ثم تنطوي قلوبها على سراج من التوكل على الله، وأعظم التوكل على الله، التوكل عليه -عز وجل- في طلب الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، وجهاد أهل الباطل، وحصول ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان، واليقين، والعلم، والدعوة، فهذا توكل الرسل، وخاصة أتباعهم.
وما اقترن العزم الصحيح بالتوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة رشداً وفلاحاً {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }(159) سورة آل عمران.
وما جمع قوم بين الأخذ بالأسباب وقوة التوكل على الله إلا أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا أعزة سعداء.
2 - ضرورة الإخلاص، والسلامة من الأغراض الشخصية: فالإخلاص روح العظمة، وقطب مدارها، والإخلاص يرفع شأن الاعمال حتى تكون مراقى للفلاح، والإخلاص يجعل في عزم الرجل متانة، فيسير حتى يبلغ الغاية.
ولولا الإخلاص يضعه الله في قلوب زاكيات لحُرم الناس من مشروعات عظيمة تقف دونها عقبات.
ومن مآخذ العبرة في قصة الهجرة أن الداعي إلى الإصلاح متى أوتي حكمة بالغة، وإخلاصاً نقياً، وعزماً صارماً هيأ الله لدعوته بيئة طيبة فتقبلها، وزيَّنها في قلوب لم يلبثوا أن يسيروا بها، ويطرقوا بها الآذان، فتُسِيغها الفطر السليمة، والعقول التي تقدر الحجج الرائعة حق قدرها.
وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- فلم يرد بدعوته إلا الإخلاص لله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فكان متجرداً من حظوظ النفس ورغائبها، فما كان -صلوات الله وسلامه عليه- خاملاً، فيطلب بهذه الدعوة نباهة شأن ووجاهة، فإن في شرف أسرته وبلاغة منطقه وكرم خلقه ما يكفيه لأن يحرز في قوم الزعامة لو شاء.
وما كان مُقِلاً حريصاً على بسطة العيش، فيبغي بهذه الدعوة ثراءً، فإن عيشه يوم كان الذهب يصب في مسجده رُكاماً لا يختلف عن عيشه يوم كان يلاقي في سبيل الدعوة أذى كثيراً.
ثم إن الهجرة كان دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة، فقد فارق المهاجرون وطنهم، ومالهم، وأهليهم، ومعارفهم، إجابة لنداء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا درس عظيم يفيد منه المسلمون فائدة عظمى، وهي أن الإخلاص هو السبب الأعظم لنيل المآرب التي تعود على الأفراد والأمة بالخير.
3 - الاعتدال حال السراء والضراء: فيوم خرج - عليه الصلاة والسلام- من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه.
ولما فتح الله عليه ما فتح، وأقر عينه بعز الإسلام، وظهور المسلمين لم يَطِشْ زهواً، ولم يتعاظم تيهاً، فعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى ويوم أخرج منها كارهاً كعيشته يوم دخل مكة ظافراً، وكعيشته يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلَّت على ممالك قيصر ناحية تبوك.
وتواضعه وزهده بعد فتح مكة وغيرها كحالة يوم كان يدعو وحيداً وسفهاء الأحلام في مكة يضحكون منه، ويسخرون.


كُلاً بلوتُ فلا النعماء تُبطرني
ولا تَخَشَّعتُ من لأوائها جزعاً

والدرس المستفاد من هذا المعنى واضح جلي، إذ الأمة تمر بأحوال ضعف، وأحوال قوة، وأحوال فقر، وأحوال غنى، فعليها لزوم الاعتدال في شتى الأحوال، فلا تبطرها النعماء، ولا تُقَنِّطها البأساء، وكذلك الحال بالنسبة للأفراد.
4 - اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن ان الدعوة إلى زوال، واضمحلال، ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة للتقوى وللمتقين.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلِّم بسيرته المجاهدَ في سبيل الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يَهَنَ في دفاعهم، وتقويم عِوَجِهم، ولا يَهُولُه أن تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويُجْلِبوا بخيلهم ورجالهم، فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.
فلقد هاجر -عليه الصلاة والسلام- من مكة في سواد الليل مختفياً وأهلها يحملون له العداوة والبغضاء، ويسعون سعيهم للوصول إلى قتله، والخلاص من دعوته، ثم دخل المدينة في بياض النهار مُتَجلِّياً وقد استقبله المهاجرون والانصار بقلوب ملئت سروراً بمقدمه، وابتهاجاً بلقائه، وصاروا يتنافسون في الاحتفاء به، والقرب من مجلسه، وقد هيؤوا أنفسهم لفدائه بكل ما يعز عليهم، وأصبح -عليه الصلاة والسلام- كما قال أبو قيس صرمة الأنصاري:


ثوى بقريش بضع عشرة حجة
يذكر لو يلقى حبيبا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واستقر به النوى
وأصبح مسروراً بطيبة راضياً
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم
بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من حلِّ مالنا
وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعاً ولو كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره
وأن كتاب الله أصبح هادياً

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved