Friday 18th February,200511831العددالجمعة 9 ,محرم 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الثقافية"

قصة قصيرةقصة قصيرة
الدماء الطاهرة
منيرة مرزوق ماجد البقمي

متى غرس الظلم أظفاره في النفس تصبح الراحة علاجاً غير مجدٍ، ويصبح الترويح عن النفس محاولة بلا نتائج، فالإحساس بالظلم وبالقهر قد تربع على القلب... لقد استطاع العدو الغاشم أن يحاصر قريته الهادئة.
أصيب مراد بالفزع وهو يجري في هلع.. لقد ازداد اضطراب الأمن سوءًا في الأرض المقدسة... في القدس وضواحيها، قذيفة إسرائيلية تهدم بيت أسرة مراد الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة بعد.
سقط العديد من الشهداء وأصبحت الشوارع مسرحاً لإطلاق الرصاص ذي الصنع الأمريكي، وعلى جانبيها أريقت دماء كثيرة... في فلسطين الحبيبة كانت الطائرات تحلق في الأجواء وتنفث الدخان الأسود، فتوقفت الأهازيج واغتيلت الآمال، وذبلت الزهور وبار الحصاد، بينما خنازير اليهود يتدفقون صوب الهدف... بقي مراد يدعو الله ويتضرع في استماتة، يسأل الله في صلواته أن يمنح شعبه المزيد من الصمود والتكاتف والنصر... إنهم يحاولون قريته الصغيرة كما فعلوا بعدة مناطق أخرى من قبل، وما زال الإسرائيليون يتبادلون ويطلبون النصح والمشورة من إلماما التي تقبع في ركن قصي من الأرض إلا أنها تدس سمومها وتلسع بأذرعها رغم المسافات...! كانوا كلما قام فلسطيني باسل بالهجوم انهالت النيران القوية من الرشاشات والمدافع فيفقد الشعب الأبي عدداً كبيراً من الشهداء... تطلع مراد إلى الشمس الحارقة التي تسكب ضوءها الساخن فوق السهول والحقول، وأخذ يحفز نفسه فنبذ الخوف بعيداً وجعل الشجاعة تتغلغل إلى جسمه وذهنه.. حمل حجراً قوياً كما هي حجارة فلسطين، وقرر الانضمام لأبطال الحجارة فلن ينتظر أكثر من هذا... فالمسرحية مستمرة والجمهور يتابع ببرود وملل دون توقع حدوث مفاجآت.. ياله من جمهور سلبي.. في حين خرجت (راعية السلام) من خلف الكواليس وأصبحت على أرض المسرح لكن مع من وضد من؟؟؟ انطلق مراد تحفزه الشجاعة والإحساس بالجور الواضح فهو لن ينتظر شفقة من أحد، وسار في ركب الجهاد... لا يحمل رشاشاً أو بندقية.. بل ذاك الحجر الذي اشتهر به أطفال فلسطين.. كان حجراً نصفه بلون الأرض ونصفه الآخر لونته دماء الشهداء الأفذاذ، استأذن والدته فكان ردها باقتضاب (توكل على الله) فهي تدرك أنه في خروجه هذا لن ينال سوى عز الجهاد أو فخر الشهادة... وليس أجمل من أن تنادى بأم المجاهد أو أم الشهيد.. رغم أن غريزة الأمومة في داخلها تصرخ (أعيديه... لا تدعيه يخطو خطوة واحدة خارج البيت فهو ما زال طفلاً) إلا أن غريزتها الدينية كانت أقوى فغدت ترقبه بعينين تكاد تطفر منهما الدموع. خرج مراد تاركاً خلفه أمه التي يكاد قلبها يتفطر على صغيرها فظلت تقاوم رغبتها بإعادته إلى البيت ومنعه من مغادرته إلا أنها تمكنت من ضبط نفسها أخيراً ودعت له بالتوفيق...
أيام تمر ولا أحد يعرف عنه شيئاً، والأم تقف الساعات الطويلة على أمل عودته فصارت تتقصى آخر أخبار الشهداء فربما كان أحدهم! فتسمع عن ثورة جديدة وتخرج لتبحث عن مراد... فلذة كبدها، تتطلع.. تركض.. تتلفت.. فرأته... كان يجري هنا وهناك وهم يطاردونه، إنه صورة للبطل الصغير الفذ.
كانت دورية إسرائيلية تلاحقه، أطلقوا عليه الرصاص فكادوا يقتلونه.. ثم.... ثم سقط، سقط من الإعياء بعد أن جرى طويلاً، داسته الأقدام وانهالت عليه الأيدي القذرة بالضرب.. ركضت أمه نحوه كالمجنونة، التقطته من بين أيديهم فدفعوها بعنف.. وصوبوا فوهة المدفع الآلي نحو مراد ليقتلوه أمام أمه المسكينة... فاستشهد الصبي وتعالت الهتافات والتكبيرات وانهالت الحجارة على رؤوس هؤلاء الخنازير فقتلوا منهم ما استطاعت حجارتهم الطاهرة قتله وفر الباقون من كل صوب كالجبناء وما هم إلا أجبن الجبناء.
كان يوماً مليئاً بالمفاجآت كسائر أيام أمهات الشهداء في الأرض المقدسة.. المؤمن لا يعرف شيئاً اسمه الموت، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، ولو استطاعت كاميرات المصورين توثيق كل التفاصيل التي تجري هناك لاهتز العالم بأسره.
تجلدت أم مراد بالصبر، وعضت على أصابعها من الغيظ واحتسبت مصيبتها ومهما بلغ الأدباء والشعراء من البراعة فلن يصف أحدهم شعور الأم المكلومة والتي تدرعت بسلاح الصبر رغم انبثاق دماء الحزن من عروقها، فعانقت بقايا جسد ابنها الذي أذاق الكثيرين من سلالة اليهود الويل وحول مع رفاقه مناماتهم إلى قلق وكدر.
وتستمر الانتفاضة، وأم مراد تأبى أن تخلع عنها الثوب الذي صبغته دماء ابنها حبيبها الشهيد البطل.
وتسدل الستارة على هذا المشهد من مسرحية البطولة الفلسطينية، والجمهور ما يزال يتابع بشغف دون محاولة الاقتراب من خشبة المسرح تماماً كما حدث مع راعية السلام.. لقد أذاق أبناء هذا الشعب الويلات وحرمهم من لذيذ المنامات، شعبٌ كل أفراده أبطال واجهوا بالحجارة جحافل الدبابات والصواريخ التي تحمل علامة MADE IN U.S.A).. كل هذا الرعب يدب في كيان إسرائيل وسببه حجرٌ يحمله طفل برئ اغتيلت براءته وإحساسه بالأمان والحرية وحلت محلها الاضطهادات، فما بالكم لو جرت الأسلحة بين أيدي الفلسطينيين وتساوت الكفتان؟
حتماً ستكون النتيجة معروفة... فمتى يساق الصهاينة برمتهم إلى ساحات الموت؟ لقد أريقت دماء كثيرة، وها هي تسيل مرة أخرى، وامتزجت دماء مراد مع دماء الآلاف من الشهداء... أما آن لنا أن نضع حداً لكل ما يجري؟

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved