Tuesday 15th February,200511828العددالثلاثاء 6 ,محرم 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

الأزمنةالأزمنة
قصة قصيدة!! ضمن المشوار (7-7)
عبدالله بن إدريس

في مقال الأسبوع الماضي من هذا المشوار الدراسي.. أوردت أسماء عدد من أساتذتنا الفضلاء الذين تولوا تعليمنا في المرحلتين: الثانوية، والجامعية.
ولا يسعني هنا - وقبل الدخول إلى أجواء قصة قصيدتي (في زورقي) - إلا أن أذكر أسماء زملائي.. الطليعة الأولى، والاستهلالية المباركة لجامعة الإمام محمد بن سعود.. أورد الأسماء هنا دون ألقاب أو تسميات أعمالهم الوظيفية.. لأن المساحة هنا لا تتسع: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، إبراهيم بن عثمان (من أسرة دهام بن دواس - كما يقول)، إبراهيم الثميري، حمود العقلا، راشد بن خنين، زيد بن فياض؛ محمد سليمان الأشقر (فلسطيني)، سعد بن عتيق، صالح بن رشود، صالح الحميدي، عبد الرحمن بن سحمان، عبد العزيز الحزيمي، عبد العزيز العبد المنعم، عبد الله بن إدريس، عبد الله بن غديان، عبد الملك بن عمر آل الشيخ، علي الرومي، علي الضالع، محمد بن دخيّل، محمد الشاوي، منصور الدخيل - رحم الله من رحل، وأمد الأحياء بصالح الأعمال -.
قصة قصيدتي التي سميت بها ديواني الأول (في زورقي).. قصة طويلة وساخنة..! ولا يمكنني في هذا الحيز الضيق إلا أن أُومئ إلى بعض موحياتها وبواعثها.. مجرد إيماء سريع.. وهي قصيدة (رمزية) لا يستطيع أحد أن يلمس فيها عوارض التجربة الإنسانية المرة.. سوى زملائي، وأساتذتي، وطلاب الكليات والمعاهد العلمية في ذلك الزمان.. وبالتحديد في عام 1376هـ فما بعده.. لكن كل قارئ عندما يقرؤها سيحسُّ بأن الشاعر كتب قصيدته تحت ظرف ساخن.. وجعلها تُبرز هويته وكينونته الصلبة.. في مواجهة بعض المواقف الصعبة أثناء الدراسة وبعدها.
قصيدة (في زورقي) ليست أجود قصائدي.. ولكنها من قصائدي الجيدة التي عُرفت على نطاق واسع.. وحفظها كثيرون.. وبخاصة شباب الكليات والمعاهد العلمية إبان كتابتها في ذلك العام.. وما زال كثير منهم يحفظونها.. أو يحفظون كثيراً من مقاطعها حتى اليوم (حسب شهادتهم).
(رب ضارة نافعة) فلولا أني اتهمتُ (بتزعم) (إضراب، ومظاهرة) طلابية.. ضد ما فرضه علينا مدير إدارة كليتي الشريعة واللغة العربية عام 1376هـ، لما وُلدت هذه القصيدة التي أوضحت صورتي من الداخل - تلقائياً - رغم أنها لم تتضمن كشفاً مباشراً لوقائع تجربتها مع الحدث.. وإنما هي توحي إيحاء صامتاً.
(اتهامي) بالتحريض على (الإضراب والمظاهرة الطلابية) جاء عندما أقفل المسؤول دوننا الباب الرئيس للكليات.. وأمر الحارس أن يفتح (باب الحمامات) لمن يأتي متأخراً ولو خمس دقائق.. حقيقة ما حدث - باختصار -:
قرر مدير الكليات - كعنوان (للحزم) - أن يغلق الباب أمام الطلاب الذين يأتون متأخرين خمس دقائق فما فوق، وأمر أن يفتح لهم (باب الحمامات) للدخول معه نكالاً.. مما اعتبرناه إهانة لنا كطلاب كبار، بعضنا على وشك التخرج الجامعي.
رفضنا الدخول مع بوابة الحمامات! ووقفنا - بالعشرات إن لم نكن أكثر - قبالة الباب الرسمي للدخول معه إلى فصولنا؛ فأصر هو على موقفه، ونحن أصررنا على موقفنا؛ مما حمله على الذهاب إلى بيت الشيخ محمد بن إبراهيم.. شاكياً موقفنا وزاعماً أن (ابن إدريس هو الذي يتزعم الإضراب والمظاهرة)..! غضب الشيخ محمد.. وأرسل إلينا سكرتيره ومدير مكتبه عبد الله الصانع - رحمهما الله - (السلام عليكم.. الشيخ يدعوكم إلى مجلسه).. سرنا إلى بيت الشيخ وامتلأ بنا مجلسه على كبره، والرواق.. ومساحة من الشارع.. بدأ بالسؤال عن الحاضرين: من أنت؟ اللي بعده.. وهكذا.. حين وصلني العَدّ.. قلت: أنا فلان (ابن إدريس أنت اللي متزعم الإضراب)؟ قلت: أنا مشارك فيه ولا تزعمته.. انتهى العد لمن في المجلس.. ونحن على أعصابنا.. لا ندري ماذا سيُفعل بنا.. قال الشيخ: (أنت يا ابن إدريس، وفلان وفلان.. عددنا (خمسة) (مفصولين). ضج الطلاب من في المجلس ومن في خارجه بصوت واحد رفيع.. (كلنا مفصولين، كلنا مفصولين).. قال الشيخ: باب الكليات مفتوح.. تفرقنا.. نحن المفصولين ذهبنا مع زملائنا إلى باب الكليات.. ونحن نطمئنهم.. ونطلب منهم الهدوء والعودة إلى فصولهم.. مع أننا أحوج منهم إلى من يطمئننا على مستقبلنا..! مع ثقتنا بأن الله لن يضيعنا.
في اليوم التالي ذهبت إلى وزارة المعارف وقابلت الشيخ عبد العزيز بن حسن آل الشيخ وكيل الوزارة يوم كان الوزير هو الأمير فهد بن عبد العزيز (الملك).. وطلبت منه التوظف في الوزارة؛ فوافق فوراً.. وسألته عن الراتب؛ قال (800) ريال.. وإذا تخرجت صار راتبك (975) راتب الجامعي.. أرسلني إلى أحد المديرين لتدريبي على العمل.. باشرت العمل في الوزارة من ذلك اليوم.. ولكني لم أتسلم راتب الوزارة حتى اليوم، لانفصالي منها تلقائياً.. بعد إشراق (يومنا الأبيض)..!!
حين استدعانا شيخنا الكبير محمد بن إبراهيم - بعد 28 يوماً من تاريخ فصلنا - ذهبنا إليه نحن (الخمسة) فاستقبلنا بحفاوة بالغة. ويشهد الله أنني لم أرَ الدمعة في عين كفيف قبل ذلك اليوم.. حيث اعتذر إلينا بشكل أحرجنا وأخجلنا (أنا يا أبنائي أعتذر إليكم.. عما حصل.. وقد أخطأت عليكم حين صدقت ما قيل فيكم حول الشغب الذي صار.. وأنتم يا أبنائي لا أقول إنكم من أفضل طلابنا.. بل أنتم أفضلهم واعتبروني والدكم وعودوا إلى كلياتكم مكرمين وكأن شيئاً لم يكن).
هذا ما بقي في ذاكرتي من كلامه - رحمه الله - ومن حق زملائي في هذه المحنة؛ وهم بحمد الله أحياء يرزقون.. أن يصححوا ما أخطأت أو غلطت فيه.. إذا شاءوا.
القصيدة إياها نشرها الأستاذ حمد الجاسر في (اليمامة) بعد (الفصل) بحوالي أربعة أو خمسة أيام.. وصار لها صدى وقبول لم أكن أتوقعه.. أذكر مثالاً واحداً على تأثيرها والتأثر بها من الجميع.. كنت أسير في شارع (الوسيطى) وإذا بالأستاذين سعد بن رويشد، وضحيان العبد العزيز قادمين من الجهة الأخرى.. فاجأني ضحيان، قبل أن نلتقي يدعو علي: الله يجعلك يا عبد الله تفصل كل شهر!، ليش..؟ علشان تكتب قصائد مثل هذي، ويشير إليها في (اليمامة) معه، ردّ عليه الأستاذ الرويشد.. (إلا.. إن شاء الله يكتب مثلها وأزين منها دون أن يفصل) ولعل أبا عبد الله الرويشد يذكر ذلك.
جسّدت حالتي في زورق أيامي التائهة مع الأمواج! وشعرت بالراحة النفسية إلى حد ما، عندما وجدت مطلع القصيدة يمد يديه إلى السماء مبتهلاً:


ربّاه بلّغْ بالسلامة زورق الحلم الجميل
فهنا أعاصير الشقاء تَفُحّ من خلف الأصيل
وهنا شراعي لامس الموج المجنح في ذهول
وتلفت القلب الشجي فهاله الأمس الثقيل
فإلى الأمان لشاطئ نتنسم الريح العليل

* * *


لعب الخطم بزورقي فطغى على مجرى الشعور
أفما اطلعت فخلتني كالطير في كف الصغير
إن كان ذاك فإنني.. ما زلت أحلم بالعبور
إن (العبور) إلى الأمان لخطوة الشهم النبيل
رباه بلغ بالسلامة زورق الحلم الجميل

كلمة (العبور) هنا تعني غضبي وتبرمي مما حصل لي.. وأنني عازم على ترك هذه المؤسسة العلمية.. بعد أن لاقيت فيها من (بعضهم) ما زهدني فيها.
* * *


أنا ما حييت فشيمتي تأبى التملق والخداع
هل مبدئي غير الصراحة والنزاهة في الطباع؟
إن كان رزقي يقتضي مني خنوعاً وانصياع
فعلى الغنى مني السلام وبؤس للمجد الأثيل
رباه بلغ بالسلامة زورق الحلم الجميل

هذا هو سلوكي الحقيقي حيال الموازنة والخيار.. بين المادي والمعنوي.. بين ما هو زائل وما هو باق.
* * *


أبداً أصون كرامتي رغم الصعاب العاتيات
لن أنثني عن مبدئي فالحق أجدر بالثبات
ومكاره الأيام تصنع في الرجال المكرمات
فالتجرِ بي يا زورقي كي نعبر البحر المهيل
رباه بلغ بالسلامة زورق الحلم الجميل

وللاختصار.. أتجاوز عدة مقاطع من القصيدة؛ وصولاً إلى المقطع الخاتمة.. والعجيب في دقة فهم هذه الرموز من قبل طلاب الكليات والمعاهد العلمية أن أدركوا ما كنت قد أخفيته وهو توظفي في وزارة المعارف. أدركوا هذه الحقيقة من خلال آخر بيت في القصيدة:


ومضى بي الإعصار يقتحم الحواجز والسدود
والقلب يخفق لاغِباً والفكر يعلوه الشرود
ومحيطنا (ليل) فهل (نور) يضيء لنا الوجود
ولقد سئمت وعاقني عن مطمحي الليل الطويل
فتنفس الإصباح عن نور أضاء لي السبيل

واستغل أحدهم هذا المقطع؛ وذهب به إلى شخصية سعودية كبيرة.. قائلاً: (انظروا وش ابن إدريس يقول فيكم؟) غفر الله لي وله.. ويلٌ للشجيّ من الخليّ!!
مصادفات:
1 - كنا نعتقد أن ما قمنا به في (يوم الفصل) لا يهم أحداً سوانا، لكن علمنا فيما بعد أن الملك سعود - رحمه الله - وهو في زيارة لإيطاليا.. كان يتابع حدثنا ساعة بعد ساعة حتى انتهى الأمر.
2 - في ذلك اليوم أيضاً خطفت فرنسا طائرة الزعماء الجزائريين (الخمسة) أحمد بن بيلا ورفاقه؛ فقال الشباب في احتفالهم بعودتنا كنوع من الإضحاك (أولئك الخمسة) زعماء الجزائر، وأنتم أيها (الخمسة) زعماؤنا نحن الطلاب.. ختامه مسك، وطرائف مسلية.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved