Tuesday 15th February,200511828العددالثلاثاء 6 ,محرم 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

ثقافة الإرهاب 1-2ثقافة الإرهاب 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل

عَنَّت لي فكرة الحديث عن (الثقافة النوعية) حين اخفقت بعض المؤسسات الخدمية والإجرائية في الحضور الفاعل، لجهل المستفيد منها بمهماتها، أو لعجزه عن إتقان طرائق التفاعل معها. وحين تحدثت فيما سلف عن (مأسسة الثقافة وثقافة المؤسسات)، أشرت إلى أهمية الثقافة الخاصة، وأنحيت باللائمة على كل الأطراف المتقاعسين. فالمؤسسة تُقصِّر عن التعريف بمهماتها، والمستفيد لا يعنيه التصور السليم عما يحيط به من مؤسسات أنشئت من أجله ولمّا أزل أحس بأن كافة مشاهدنا العملية بحاجة إلى توعية عميقة، تمكّن المنتفع من حسن التعامل والحصول على أكبر قدرٍ من الاستفادة.
ولما كان الإرهاب قضية ماثلة للعيان، كان لابد من التفكير الجاد للتوفر على ملاذٍ آمن يحمي الأجسام والأفكار والممتلكات وسائر المثمنات والضرورات، ولن يتم شيءٌ من ذلك، حتى نكون على بيّنة منه، وهذه البيّنة هي عين الثقافة، وأولوية ذلك أن نعرف القدر المعرفي، وطريق الوصول إليه، والشرائح المستهدفة.
ولتأكيد إشكالية الفراغ المعرفي دعونا نتساءل: هل أحد من العاملين في أي قطاعٍ حكومي يعرف النظام الأساسي له، أو يتذكر التعديلات والإضافات على ذلك النظام، أو يختزن في ذاكرته أو في مركز معلوماته مجمل التعاميم المتعلقة بالعمل الإجرائي؟. وهل أحدٌ من المستفيدين والمستهدفين من أي قطاعٍ حكومي يعرف ما له وما عليه؟ وهل تستطيع النخبةُ فضلاً عن الدهماء أن تلم بالمكونات الأساسية ل(المجتمع المدني) الذي تسعى الدولة لاستكمال متطلباته: الحسية والمعنوية؟ وفي ظل هذا الانقطاع المعرفي فإن علينا أن نُرجعَ البصر كرتين كي ينقلب إلينا، وهو ممتلئ بالمعرفة وحسن الأداء.
ومما هو معروف عن (المجتمع المدني) بالضرورة قيامه على مؤسسات: دينية وتربوية وثقافية وخدمية وحقوقية وأمنية، لا تؤتي مهماتها إلا من خلال إجراءات وضوابط وشروط، ولما تكن تلك المؤسسات بكل ماهي عليه حاضرة الذهن الجمعي. ولهذا نجد السواد الأعظم يمارسون الفعل بمعزل عن تلك المؤسسات، مع أن (المجتمع المدني) لايكون سوياً حتى يرتبط بهذه المؤسسات وينطلق منها، وفق أوفى المعلومات وأدق الممارسات.
ولما لم تكن إشكالية العلاقة بين المواطن وسائر المؤسسات مقتصرة على الأخذ والعطاء المتوازن فإن ثقافة طرأت وفرضت نفسها، وأصبحت قضية موت أو حياة، هذه الثقافة مخاض الأحداث العالمية المتمثلة بالحروب الدامية: (الخليجية) و(الأفغانية)، و(سقوط الاتحاد) و(أحداث الحادي عشر من سبتمبر) و(الاحتلال) و(إسقاط الشرعية) و(الفراغات الدستورية) و(الحروب الأهلية)، وظهور (خطابات متشددة) وأخرى متوعدة، وتلويحات بالتدخلات العسكرية لفرض إرادة القطب الواحد، كل هذه التداعيات شكلت تنظيمات الغضب والتكفير واستحلال الدماء المعصومة، واستفحلت معها عمليات (الإرهاب). وفي ظل هذه التحولات المخيفة كان لزاماً على كل فئات المجتمع أن تعيها كما هي: ولادةً ومنشأً وانتشاراً، وأن تحدد الموقف ورد الفعل والتفاعل والاعتزال بوعي ومعرفة وتكافؤ، وهذا اللون من الثقافة كما أرى جزء من الثقافة العامة، فكان أن سميت تجوزاً ب(ثقافة الإرهاب). فالعمليات الإرهابية الموجعة، استدعت خطابات جديدة موغلة في التناقض، وما كانت معروفة من قبل، والناس من حولها في أمر مريج. ولأن البلاد والعباد عرضة لهذه المخاضات فإنه من الضروري وعي المرحلة بالقدر الكافي، ومعرفة (الإرهاب) من حيثُ: مفهومهُ، وأسبابهُ، وطرقُ مواجهته، وانتماءاته. وفي ظل ثورة الاتصالات والمعلومات تداولت المشاهد عدداً من الثقافات الموصوفة ك(ثقافة الهزيمة) و(ثقافة الرفض) و(ثقافة الإقصاء) و(الغضب) و(العنف) وكل هذه الثقافات تحكمها الأنساق والسياقات والنسبية، وليس أدل على ذلك من اختلاط المفاهيم حول الجهاد والقتال، والمقاومة والدفاع، والبغي والعدوان.
وفي المقابل هناك ثقافات مؤسساتية ك(ثقافة الانتخاب) وقد شهدنا بعض التجاوزات في العمليات الانتخابية للمجالس البلدية، ووقفنا على إعلانات دعائية ووعود هلامية من بعض المرشحين، أدت إلى استبعاد عددٍ منهم لجهلهم بهذا الحراك الحضاري. وهناك (ثقافة الشورى) فالكثير من المنتفعين لايدري عما يُفعل به، وما يُفعل له. فما الشورى؟ وما جدواها؟ وكيف يستطيع المواطن المستفيد أو المتضرر من قراراته إيصال الرؤية إلى أعضاء المجلس. وهناك (ثقافة الحوار) وكم نشاهد عبر المؤسسات الإعلامية إسفافاً وفحشاً لايليق بالسوقة. ولو كانت لدى المتجادلين معرفةٌ بآداب الحوار وأساليب المناظرة، لما كانت تلك المناكفات المسفة. وهناك (ثقافة حقوق الإنسان)، وكم نسمع من المتحدثين في المنتديات والمجالس من يخلط بين الحقوق العامة والخاصة والحقوق السياسية والإنسانية. والهيئة الوطنية القائمة تتعثر بجهل الناس لرسالتها، وشكهم في جدواها، مع أنها مؤسسة تمتلك مشروعيةً ونظاماً لا يختلفان عما هي عليه سائر المنظمات العالمية.
وللمتابع أن يستدعي (مجالس المناطق) و(المجالس البلدية) التي ستباشر عملها عما قريب، ليقف على إخفاقات كثيرة، منشؤها الجهل بهذه المؤسسات ورسالتها. وكل أمرٍ لا يقدم بين يديه تعريفاً مفصلاً عن ذاته يمكّن العامة من فهمه، والقبول به، والتفاعل معه، يظل في معزل عن الناس، وناتج ذلك ألا تتقبله الأمة بقبولٍ حسن. فالأمة هي التي تمنح المؤسسة الوجود الفاعل، وهي التي تجهض المشروع. ومكمن الإشكالية التقصير في إشاعة (ثقافة المؤسسة)، ولن تأخذ أي منشأةٍ خدمية وضعها الطبيعي حتى يكون هناك وعي جماهيري، يعطي كل شيء حقه، ثم يمضي في التفاعل معه والاستفادة منه. ذلك شأن العطاء، وهو شأن النفع، أما ظواهر الإيذاء فإن الجهل بها مؤذن بالاستفحال والتجذر وفداحة الأثر. ف(المنظمات الإرهابية) لايمكن استكناهها إلا من خلال اكتشاف (شفراتها)، وهي بعض الثقافة التي يفقدها أكثر الناس.
ولقد قلت من قبل: (إن المؤسسات غير الواعية، أو غير المستوعاة تتآكل مع الزمن، لأنها لا تزرع الثقة، ولا توطئ أكناف التواصل، ولا تحقق المراد بأيسر الجهد وأقل الوقت) وهذه المقولة توزع المسؤولية بين المفيد والمستفيد، إذ لا أريد أن تكون الإدانة لجهة دون أخرى، وما أردت جلد الذات، ولا تحقيق الانتصار الوهمي. إننا أحوج ما نكون إلى الشفافية والمكاشفة، ونشدان الحق، والكشف عن الأخطاء، وتحديد مجالاتها، ومن ثم النهوض للتلاقي لا للتلاحي، وللعمل لا لتبادل الاتهامات. وجهل المؤسسات النفعية أقل خطراً من جهل التنظيمات الضارة، وجمعنا بينهما لإثبات النقص المعرفي في الكل، وعدم التحرف الجاد لتلافي ذلك النقص.
وإذ ينشغل الوسط الاجتماعي بقضية خطيرة هي قضية (الإرهاب) فإنه لا بد من بسط الموضوع، وتلافي شح المعرفة عن كل تداعيات الإرهاب وتنظيماته، وأساليب أدائه، ومراوغته، وغنوصية خطابه. وتفادياً للتشتت فإننا لن ندخل في جدلية المفهوم، ولن نحفل بتعدد التعاريف. فالمؤتمرون في (الرياض) وهم أساطين الفكر والسياسة اعتزلوا هذه الجدلية، لأن لكل زمان ومكان التعريف المطابق له، ومن حق أي متعامل مع الإرهاب متضرر منه أن يحدد مفهومه والموقف منه على المستويين: المحلي والعالمي، شريطة ألا يشكل هذا المفهوم تعويقاً للتضامن العالمي، ولا مصادمة للمقتضيات والمقاصد الحضارية. وإذا كانت للغرب مفاهيمه ومصالحه و(إستراتيجيته) فإن للشرق مثل ذلك، ومن الخير للعالم التحول من الصدام إلى الحوار، ومن التنازع إلى التعايش، وكل ذلك ممكن، ومن حق البشرية أن تعيش موفورة الكرامة، ولهذا فضّل الإسلام الجنوح إلى السلام. والتأكيد على أهمية التعرف على كل ظاهرة لا يعني التحريض على الصدام، أو الانغلاق على الذات، وإنما يعني معرفة الشر لاتقانه والخلوص منه.
ومن حق المتلقي أن يتساءل: ما ثقافة الإرهاب؟. وإذا صرفنا النظر عن التساؤل الأزلي: ما الإرهاب؟ فإننا لانجد مبرراً لصرف النظر عن تعريف محدد لثقافته. وإذ يكون (الإرهاب) ظاهرة تنهض بها الدول والجماعات والمنظمات والطوائف والأفراد، فإنها لم تعد عارضاً غير متلبث، لقد واكبت الإنسانية منذ (ابني آدم)، وستظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وليست تلك الظاهرة الأزلية واحدة لا تتبدل، إنها تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأناسي والأفكار، ولكل مرحلة زمانية ثقافة إرهابية مغايرة. والذين تناولوا الغلو والتطرف في القديم والحديث يختلفون في الآلية والمنهج وتحكمهم ماهية الخلفيات الثقافية وتعدد المرجعيات واختلافها، وهذا الاختلاف يجعل لكل مرحلة قراءتها، وليس أدل على ذلك من تباين القراءات حول (الخوارج) و(القرامطة) و(التتار) و(النازية) و(الفاشية) وسائر الظواهر القديمة والحديثة. إن هناك ثقافة تمكن من استكناه الظاهرة، وثقافة تمكن من اتقائها، والأمة مطالبة بالتحصن من المرض والتحذير منه. وأسلوب (افعلْ)، و(لا تفعلْ)، لم يعد مجدياً، فالناس يريدون الإقناع، ولا إقناع بدون معرفة تامة تعري الحقائق.
لقد كنت، ولما أزل وراء المستجدات الفكرية والثقافية والسياسية، فكلما تداولت المشاهد مصطلحاً، سعيت جهدي لتجميع القصاصات المتعلقة به من أخبارٍ ومقالاتٍ، حتى إذا استوت النازلة على سوقها، انهالت الكتب التي ترصد للظاهرة، وكل راصدٍ تحكمه خلفيته الثقافية والدينية والسياسية وآليته ومقدرته الذاتية. ومن الخير أن يكون للمتابع موقف ثابت، يستمد قوته من عقيدته ومواطنته ومصالح أمته. وتلك ثقافة الاتقاء، وهي جزءٌ من التأصيل المعرفي، وكل خائض في قضايا الفكر على غير علم ولا هدى ولا كتاب منير، يعرّض نفسه للأخطاء المهلكة، وضرورة التأصيل ومعرفة الآخر عرضتني للركام المعرفي، فلقد استوفيت الحديث عن (الماركسية) و(الوجودية) و(العلمانية) و(الحداثة) و(البنيوية) و(التقويضية) و(العولمة) وأخيراً امتلأت مكتبتي من الكتب التي تناولت (الإرهاب). وكلما فاض المعين من شيءٍ، أحسست أنني أشد مسغبة. فتعارض (الايديولوجيات) وتصادم المصالح، واختلاف المفاهيم، وتعدد المواقف، واختلاط اللعب المأجورة بالبحث العلمي المجرد جعل المتابع يعيش في أجواءٍ ضبابية لا يكاد يعرف الصادق من الكاذب. وإذ تتعثر (ثقافة الإرهاب) بتناقض الآراء، تظل ممنعة على الكافة، وهم الأكثر عرضة للإرهاب وتأذياً منه. وواجب المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية والثقافية إشاعة هذه الثقافة لتكون ميسورة التناول، ومن ثم يكون أخذُ الحِذر من الإرهاب والتصدي للتثقيف المضاد ممكناً ومطروحاً في الطريق للخاصة والعامة.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved