قضيناها ليالي حالمات
تشعّ بمستحبّ البشريات
تعاطينا كؤوسَ البحثِ فيها
وأرْوَيْنا النفوسَ الظامئات
بقاهرةِ المعزّ وكم رأينا
بها من مُستطابِ الأمنيات
بلادٌ يستطابُ العيشُ فيها
ويُجنى مُستلذّ الطيّبات
ويقطف وردُها عطراً ضحوكاً
وما أحلى الثمارَ اليانعات
بها للسائحين مجالُ أنس
وإسعاد لكلّ السائحات
ديارٌ صبُحها فيه ابتهاج
وأبهجُ منه سحرُ الأمسيات
فنهرُ النيلِ يسحرُ مَن رآه
وينسيه الهمومَ القاتلات
ويشرحُ صدرَه ويزيلُ عنه
عناءَ المشكلاتِ المزعجات
على جنباته سفنٌ تهادى
تراها غادياتٍ رايحات
ترى السياحَ في جوّ بهيج
على متنِ الجواري الساكنات
وفي جلساته تلقى صديقاً
يطارحك البحوثَ المثمرات
بلادٌ خصّها اللهُ بحُسْنٍ
فريدٍ فاق حُسْنَ الغانيات
وحلاّها بأخلاقٍ تسامت
وما أحلى الصفاتِ السّاميات
تلاقي الزائرين لها بحبّ
وتفتح قلبَها للزائرات
مرحبةً تقولُ ألا ادخلوني
ضيوفاً آمنين وآمنات
بها عطفٌ لمَن يأتي إليها
يحاكي عطفَ أحنى الأمهات
وفيها للطموح مجالُ سبقٍ
لطلابِ العُلا والطالبات
فمن عشق الثقافةَ أمّ مصراً
لينهلَ من نميرِ المكتبات
ومن رام العلومَ أتى إليها
ونال بها العلومَ النافعات
معاهدُها تلقّاه بحبّ
وما أحلى لقاءَ الجامعات
بها عشنا ضيوفَ أخٍ كريمٍ
يحبّ من الأمورِ العاليات
بدارته التي قد ذكّرتنا
بأيامِ الشبابِ الماضيات
بأيامِ الدراسةِ لهفَ نفسي
على تلك الليالي الخاليات
بدارةِ من عرفتُ به اشتياقاً
إلى العلياءِ محمود الصفات
فكم من ليلةٍ فيها سهرنا
إلى أن قال حيّ على الصّلاة
نقضّيها مذاكرةً وبحثاً
وغوصاً في بحورِ المعرفات
ألا حيّ المضيف وملتقاه
وأخلاق المضيف الزاكيات
ومكتبة لديه لنا أتاحت
بحوثاً رائعاتٍ قيّمات
وكانت ملتقى بحثٍ ونقدٍ
وتحليلٍ لصعبِ المشكلات
نطارحُ بعضنا شعراً ونثراً
ونحيي مستلذَّ الذكريات
ويطربُنا الأنيسُ بكلِّ فنّ
من الأشعارِ أو عذبِ النكات
طرائفُه تزيلُ الهمّ عنا
وتنسينا مشقاتِ الحياة
له في الحفظِ منزلةٌ تسامت
وبزّ بها جهابذةَ الرّواة
ويسألني الصّحابُ ألستَ تهوى
فريداتِ الجمالِ الغانيات؟
ألم تأنسْ لفاتنةٍ تحدّت
بفتنتها جميعَ الفاتنات؟
فقلتُ لهم أنا شيخٌ كبيرٌ
تناسى قلبُه حبَّ البنات
ولم يطربْ لشاديةٍ تغني
وإن حازت وسامَ المطربات
وأبعد عن هوى ليلى ولبنى
وأعرض عن طريقِ الغاويات
وصار هواه للوطنِ المفدّى
وللقومِ الأكارمِ والحماة
لمن يسعوْن تضحيةً وحباً
لمن كانوا رموزاً للبناة
بماضينا الذي كنا أضعنا
أضعناه بتلبيةِ العداة
دعونا للتفرّق فاستجبنا
وحبذنا العبورَ إلى الشتات
ألا تباً لمن قبِل التجافي
ومن رضي المذلةَ في الحياة
وحيا اللهُ أحراراً تآخوا
وشكراً للوفيّ وللأباة
وإني ما حييت فداء قومي
وأرضي ثم أهلاً بالممات
وها أنا راحلٌ شوقاً لأهلي
إلى تلك الديارِ الطاهرات
إلى شبهِ الجزيرةِ باكرتها
ومسّتها السحائبُ ممطرات
ولن أنسى لقاءً مستطاباً
بأصحابٍ أحبّوا المكرمات
على أرضِ الكَنَانةِ ليت شعري
أنرجعُها عصوراً سالفات
أنرجعُ ماضيَ الأجدادِ حياً
وهاتيك العصورَ الزاهيات